آخر تحديث :الجمعة-19 أبريل 2024-01:45م

أدب وثقافة


على هامش جائزة السعيد للثقافة والعلوم : حجب الجائزة... صرامة لجنة أم ضعف المنهج

الأربعاء - 16 أبريل 2014 - 09:57 م بتوقيت عدن

على هامش جائزة السعيد للثقافة والعلوم : حجب الجائزة... صرامة لجنة أم ضعف المنهج
احدى الفعاليات بمؤسسة السعيد للثقافة والعلوم بتعز .

عدن((عدن الغد))متابعات:

 

قبل بضع سنوات وفي ليلة رمضانية أقام اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين فرع عدن أمسية كرم فيها رئيس مؤسسة السعيد للثقافة والعلوم الأستاذ فيصل سعيد فارع، وعلى هامش هذه الأمسية، أثيرت قضية الحجب السنوي للجائزة في أكثر من مجال، وأذكر أن رئيس المؤسسة حينها قال: إن الحجب يأتي بسبب عدم ارتقاء البحوث المقدمة (على الرغم من كثرتها) إلى مصاف البحوث العلمية ، وقرأت وسمعت عدداً من وجهات النظر المتذمرة من قرارات لجان تحكيم المؤسسة، هذه قضية تستحق منا النقاش المستفيض, وجاءت نتائج الأعوام اللاحقة وهذا العام أيضاً بالنتيجة نفسها حجب الجائزة عن عدد من فروعها وللسبب نفسه عدم ارتقاء البحوث المقدمة إلى مصاف البحوث العلمية التي تستحق الجائزة.

 


وكنت كتبت مقال في صحيفة النداء على هامش توزيع جائزة المؤسسة للعام 2009م ناقشت فيه هذه المشكلة, وهذا المقال يواصل طرح السؤال أين الخلل؟ وما العمل؟, هل الخلل في لجنة تحكيم الأبحاث أم في الأبحاث؟ إن من يتابع جذور هذه المسألة، سيجدها مسألة تم التنبيه لها مبكراً؛ فمنذ 30 عاماً أو نحوه أشار أستاذنا أبو بكر السقاف (أطال الله عمره) إلى هذه المسألة في مقالين: أحدهما نُشر في مجلة الحكمة عدد أبريل /مايو 1983، والمقال عبارة عن إشادة برسالة دكتوراه لأحد الباحثين (أيمن فؤاد السيد) تحت عنوان "المذاهب الدينية في بلاد اليمن، وأثرها في الحياتين العقلية والسياسية في القرنين الخامس والسادس الهجري".

 

والمقال الآخر نشر تحت عنوان "لم المنهج"، عبارة عن مقالة افتتاحية لمجلة دراسات يمنية التي تصدر عن مركز الدراسات والبحوث اليمني صنعاء عدد 8/9يونيو ويوليو 1982،حيث يعزو المشكلة إلى " غياب المنهج في الدراسات الطبيعية والإنسانية" ويستدرك مميزاً بين الحقلين قائلاً " وإذا كان المشتغلون بالعلوم الطبيعية لا يثيرون هذه المسألة؛ فذلك لأن مشاكلهم لم تستطع أن تكون هماً عاماً كما هي الحال مع الدراسات الإنسانية" وذلك لأن " الاعتماد على العالم المتقدم في مجال العلوم والتكنولوجيا يساعد على عدم طرح هذا الأشكال في الأوساط العلمية العربية". وعلى الرغم من مرور ما يناهز الثلاثين عاماً إلاّ أن المشكلة لا زالت حاضرة وتطل برأسها, ولم تجد حلاً .فلقد شكا أستاذنا من ضعف المنهج في كثير من الدراسات والبحوث في الجامعات العربية، ونبّه إلى أهمية وضرورة أن يمتلك الباحث ناصية المنهج عند الشروع في البحث، وخلص إلى أن ضعف الأبحاث يفصح عن "أزمة منهج" لدى الباحثين.

 


وخلال السنوات القليلة الماضية,تعالى الضجيج الصاخب في أكثر من جامعة, وشكلت لجان تقييم مقررات الجامعات, وخلصت هذه الورش إلى ضرورة هذا التغيير وإيلاء"جودة التعليم" أهمية في برامج وسياسات الجامعات، وخلص هذا الضجيج إلى ضرورة "إصلاح التعليم الجامعي"، وعند تشخيص أسباب تدني مستوى المخرجات، اتجهت الأصابع تشير إلى مقررات الأقسام وضرورة تغييرها، كي تواكب المعارف الجديدة, ومع أنها ليست المرة الأولى خلال العشرين عاماً الماضية التي يجري تغيير مقررات التعليم العالي، إلاّ أنه في كل مرة يجري التغيير فيها، تأتي مخرجات التعليم أسوأ من سابقاتها، والسؤال المهم، الذي يبرز هنا، أين الخلل؟

 


من خلال معرفتي المتواضعة أعتقد أن الخلل يكمن في أن هذه المشكلة كغيرها من المشكلات في المجتمع يجري التعامل معها باستخفاف وتبسيط مخل، مع أنها تمثل مفتاح حل معظم مشكلات المجتمع، لأنها تتعلق بفرع رئيس ومهم في التنمية الغائبة، أي التنمية البشرية؛ فالتنمية البشرية عماد التنمية وأساسها، ولا يمكن إحداث تنمية ما، ناهيك عن استمرارها، دون تنمية الموارد البشرية. منذ سنين خلت ونحن نسمع عن ورش عمل وندوات تقام هنا وهناك تدعو إلى ضرورة تغيير في مقررات الأقسام لمواكبة تطور المعارف واتساعها, وتغيير المقررات وتقييمها عملية تحدث في كل الجامعات بشكل دوري, وكل برنامج دراسي يدخل التعليم الجامعي ويظل فيها كم عام, يخضع خلالها للتقييم المستمر,حتى يأتي الوقت الذي يجري تغييره , كي يواكب الانفجار المعرفي الهائل.

 


وخلال وجودي في الجامعة شهدت عدداً من برامج تحديث المقررات الجامعية, لكن عملية التغيير لم تستند على أسس منطقية ومنهجية وعلمية سليمة وأكتنفها الكثير من العشوائية والمزاجية, وأخذت بعض الأقسام تصيغ مقرراتها وتعمل كجزر معزولة بعضها عن البعض الآخر، حيث جرى فيها إقرار وتفصيل مقررات للاستنهاج في التخصصات المختلفة بأنانية مفرطة، ودون رويّة، حيث تم إلغاء مقررات لها أهمية بالغة,وعلى اعتبار أنها مقررات لا لزوم لها ، وتجاهلوا أهميتها؛ ولا أجد مبرراً مقنعاً لإلغاء بعض المقررات, فلم أجد مبرراً مقنعاً لإلغاء"علم المنطق" مثلاً بعد أن كان يدرس في أكثر من تخصص, وهو من العلوم الأساسية للطالب الجامعي وينبغي أن يكون موجوداً في كل خطط وبرامج جميع الأقسام من دون استثناء, لأنه علم يلعب دوراً رئيسياً في صقل وتنمية القدرات العقلية للطالب ويمده بمفتاح التفكير المنطقي , ناهيك عن منهجية التفكير المنطقي السليم, مع أن كل الدارسين في الجامعات، سواءً الشرقية منها أو الغربية على اختلاف تخصصاتهم، يدركون أهمية دراسة علم المنطق، ناهيك عن "علم المناهج".

 


بالإضافة إلى ذلك، يعتبر مقرر "فلسفة العلوم" في مختلف التخصصات سواءً العلمية أو الإنسانية، مهماً؛ وكل دارس يعي وجود فلسفة للعلم الذي اختص فيه, وما من علم إلاّ وله فلسفة، من خلالها يتم التعرف على مشكلات ذلك العلم التاريخية والمنهجية، كما يتم التعرف على حلول تلك المشكلات، ناهيك عن أن فلسفة العلم تفتح آفاقاً أمام الباحث والدارس على مشكلاتٍ جديدةٍ تتطلب البحث والدراسة. وتتضمن التخصصات العلمية المختلفة قيماً ومبادئ أخلاقية، ينبغي على الدارسين معرفتها؟

 


إن أي تغيير للمقررات في الأقسام العلمية المختلفة لا ينطلق من منطق المعرفة في بعديها الكلي والجزئي، العام والخاص. أي لا تنطلق من كوننا نتعامل مع عقل ينبغي صياغته وفق آلياته، وأهمها على الإطلاق، أولاً: البعد الكلي، أي تفجير قدرات العقل على التفكير بشمول، أما البعد الآخر: البعد الجزئي، أي تفجير قدرات العقل على التفكير في المشكلات بعمق، لا يمكن لهذا التغيير أن يحدث أثر في المجتمع والناس, ولن يتأتى فعل ذلك التأثير إلاّ إذا تضمنت التخصصات المختلفة مقررات ذات طابع كلي كالمنطق ومناهج البحث وغيرهما.

 


ويمكن القول بثقة إن إصلاح ضعف الأبحاث والدراسات يبدأ من هنا، من إصلاح منظومة التعليم الجامعي, لأن ضعف الباحثين هو ضعف في تكوينهم المعرفي الأمر الذي يفضي بالضرورة إلى ضعف في قدراتهم البحثية. ولا يمكن للباحث أن يكون متمكناً، ما لم يمتلك ناصية المنطق، أو كما درج على تسميته بـ"الارجانون"، أي الآلة العقلية، لما كان يستحيل على المهندس الميكانيكي مثلاً، أن يكون بارعاً، دون أن يعرف تفاصيل المحرك ووظيفة كل جزءٍ فيه؛ فإنه بالمثل لا يمكن للباحث أن يكون متمكناً دون أن يعرف كيف تعمل هذه الآلة، أي العقل. كيف يبني ويفكك، وكيف يركب ويحلل.والباحث دون منهج أو يفتقر إلى منهجية تفكير سليمة، يضل طريقه لزوماً.

 


دقَّ ناقوس الخطر مراراً وتكراراً؛ لكن لا حياة لمن تنادي. أعتقد أن من بيدهم سلطة القرار ويمتلكون مفاتيح إصلاح التعليم الجامعي، بوصفها مشروعاً كبيراً، يفتقرون إلى أهم قيمة أخلاقية في إنجاز الأعمال، وهي الشعور بالمسؤولية. المسألة برمتها لا تعدو أن تكون لديهم كونها مبرراً لمآرب أخرى لا علاقة لها بالإصلاح الجامعي، بل يتخذونها مبرراً انتهازيٍاً، يمنحهم مشروعية الحصول على ميزانيات ومخصصات، يشكلون بها لجاناً، ظاهرها الإصلاح، بينما باطنها الاستفادة وصرف الأموال؛ فتأتي نتائجها عبارة عن إيغال في الإفساد وتدهور التعليم الجامعي..

 

إن الفحص النقدي للعديد من الأبحاث المنشورة في مجلات وحوليات محكِّمة يضعنا أمام كارثة، لأنها لم تضطلع بمهمة الارتقاء بالأبحاث العلمية وتقديم باحثين يتحلون بالمسئولية العلمية والاخلاقية، بل أسهمت في إفساد العلم والحط من شأن الألقاب، لأنه جرى منح الألقاب في معظم الحالات إلى من يفتقرون لأبجديات البحث العلمي؛ فأفصحت عن انعدام مسؤولية المعنيين بهذا الأمر العلمية والاخلاقية، أنتجت قرارتهم ومعالجاتهم الارتجالية والعشوائية غثاء السيل هذا، ومنحت ألقاباً علمية دون أن يرافقها تحسن في قدرات الباحثين أنفسهم، حيث عجز معظمهم عن الانطلاق إلى رحاب النشر في فضاء المجلات والدوريات العربية المحكّمة أو المشاركة في الندوات الخارجية والمؤتمرات العلمية، إلاّ في ما ندر.

 


ولم يدرك القائمون على التعليم العالي، أن ما يعطي قيمةً وسمعةً حسنةً للكليات والجامعات هو انفتاحها على النشر في الدوريات، ومشاركة باحثيها في الندوات الخارجية، وإذا لم يتم معالجة هذا الأمر يستحيل أن تتطور الجامعات. وكما هو معروف فإن الجامعات تتنافس على أن تكتسب شهرتها من شهرة أساتذتها ناهيك عن التعاقد مع أبلغ وأرفع العقول كي يتسنموا قيادتها, وعندما حصل الفيلسوف الهندي أمارتيا صن(1933- ؟) على جائزة نوبل للاقتصاد عام 1999م تسابقت عدد من الجامعات المرموقة ـ منها هارفارد واكسفورد وكامبردج ـ للتعاقد معه؛ كي يكون رئيساً لإحداها, وظفرت به جامعة أكسفورد البريطانية العريقة ورأسها لمدة ثمان سنوات من العام 2000 حتى 2008م, وكل الجامعات المحترمة تتسابق على الأساتذة ذوي الانجازات العظيمة وتولي جل اهتمامها على مضمار المنافسة بين اساتذتها كي يحققوا الانجازات العلمية, ولا يتم تولي المناصب فيها من رئاسة القسم حتى رئاسة الجامعة إلاّ بناء على معيار الكفاءة الاكاديمية والبحثية.

 


إن أحد أسباب هذا القصور، يرجع إلى قانون الجامعات ذاته، الذي حدد بموجبه شروط الترقية -على الرغم من أنه لم يتم العمل به وتم تجاوزه في أحايين كثيرة- مقرونة بزمن ينبغي استيفاؤه(5 سنوات). وهذا أمر لا خلاف عليه، لكن كثيراً من التجاوزات تحدث للوائح والأنظمة المعمولة, فلقد جرى منح من لا يستحق ومن دون أدنى محاسبة, إن المزاجية لا تبني أوطاناً ولا تؤسس للعمل المؤسسي. إن قضية ضعف الأبحاث والدراسات تنم إما عن ضعف واقعها أو سوء في إدارة وتوظيف مواردها. إن مجتمعاً ما يفتقر إلى وجود باحثين على مستوى معقول من القدرات والمهارات يدل إما على خلل في منظومة التعليم فيه أو سوء إدارة موارده المادية، وقد أشار تقرير التنمية الثقافية للأمم المتحدة الخاص بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا للعام 2009م إلى قضية حُسن إدارة الموارد المادية والبشرية، فهناك دول مواردها المادية ضئيلة لكنها تغلبت على هذا العائق بحسن إدارة تلك الموارد فحققت نتائج أفضل من بعض الدول ذات الموارد الضخمة؛ ولقد أظهر التقرير تشابهاً بين وضعنا ووضع المملكة المغربية مثلاً، في نسبة ما يصرف على التعليم في البلدين بالنظر إلى الموازنة ،لكن كفاءة التعليم وسمعة الجامعات المغربية يتفوق كثيراً على سواها من الجامعات، حتى الخليجية منها ذات الإمكانيات المادية الضخمة..

 


إن الباحث المتميِّز، بحاجة إلى مؤسسات بحثية، تتهيأ فيها الظروف المناسبة للتميز، إنه بحاجة إلى جامعة توفر ألف باء التميُّز. إن أول هذه الظرف يقوم على الاستقلالية، إذ ينبغي أن تكون المؤسسات البحثية؛ مراكز وجامعات، مستقلة إدارياً ومالياً، لأن التدخل في شؤونها يُفسدها، بينما هناك شرط آخر لا يقل عن سابقه، يتمثل بحرية البحث العلمي.. لم يدرك المجتمع بعد، أن وظيفة الجامعات والمراكز البحثية تختلف كليةً عن سواها من مؤسسات وهيئات المجتمع؛ فالجامعة عبارة عن "مفاعل تخصيب العقول" (إدوارد سعيد)، ولا يُحفز هذا المفاعل إلاّ حينما تستند على حقيقة الاعتراف بوجود الاختلاف والتنوع في الآراء وحتمية تعددها، في ظل مناخ بحثي كهذا، يقوم على مبدأ التنوع والتعدد، ناهيك عن الاختلاف، يمكن أن تتخلق الكفاءات وتنطلق الإبداعات..

 


كما أن خلق مجتمع الثراء المعرفي والكفاءات المتميزة لايمكن أن يقوم على المحسوبية والعلاقات الشخصية، بل يقوم على روح التنافس وإرساء قواعد للندية تحكم الجميع، كي يبرزوا مواهبهم وكفاءتهم. أما حين تكون الجامعات والمراكز البحثية مسرحاً للمحاصصة، أياً كانت شكل هذه المحاصصة، حزبية أو قبلية أو جهوية، فإنها لا تغدو إلاّ مكاناً لإنتاج الفساد والتخلف،وجامعاتنا تقوم بهذا الدور على أكمل وجه. ولا يمكن للأبحاث والدراسات الجادة أن تبرز في مجتمع يقيم جداراً من التابوهات، وتحركه ذهنية التحريم والتجريم. ولا تزداد رصانة وجدية البحث العلمي إلاّ كلما ازدادت فسحة الحرية أمام الباحثين.

 

إن نجاح أية إدارة أو مؤسسة له عنصران: العنصر الأول يتمثل في الحقوق، أما العنصر الثاني فيتمثل بالواجبات؛ فالحقوق مقدمة على الواجبات، بمقدار الحقوق الممنوحة لأعضاء المؤسسة تكون الواجبات الملزمة. كما أن هناك مبدأً مهماً للإدارةِ الناجحةِ، يتمثل في مبدأ الثواب والعقاب. وهذا المبدأ تعاني من غيابه إداراتنا المختلفة، فهو يعيش قصوره الذاتي والعطالة منذ زمن بعيد، ولن تستقيم حياتنا إلاّ إذا تم إحياؤه. وهذان العنصران يشكلان العامل الأول لأية نهضة تعليمية.
أما العامل الآخر، فإنه يتمثل في المعرفة ذاتها ومدى استيعاب القائمين عليها حجم المشكلة وطريقة الحل؛ فمنذ بدأت "جعجعة" عملية الإصلاح في التعليم الجامعي، والقضية تراوح مكانها أو تعود القهقرى خطوات إلى الخلف، حتى بتنا شعباً يسير في الاتجاه المعاكس. إن إقرار مقررات لا تقوم على أسس منهجية سليمة، يؤدي إلى فوضى تعليمية كاسحة تهدر الطاقات والإمكانيات.

 


ينبغي على الباحثين والمؤسسات والمراكز البحثية والجامعات الاهتمام بقضية المنهج؛والإنتاج الفكري (إن كان موجوداً) اليوم خبط عشواء، لا الأكاديميون يفكرون بالشكل الصحيح وفق نسقٍ منهجيٍ، ولا السياسيون يفعلون ذلك، وما نشهده من تفكير ليس منهجياً,وللتفكير المنهجي فوائد, إذ أنه يعلمنا أساليب الإقناع ويوسع عقولنا على طرائق التفكير وقبول الأفكار والآراء المختلفة، أما التفكير الذي نشهده في حياتنا، ليس إلاّ هذراً أو هذياناً يفرضان بقوة الغلبة والإكراه؛ فشتان ما بين التفكير والهذر أو الهذيان؛ فالأول نتاج عقل، وبالتالي منهج، أما الثاني؛ فإنه لا يحتاجُ إلاّ إلى البله. إن أهداف التعليم الجامعي تختلف كليةً عن التعليم ما قبل الجامعي، فإذا كان الثاني يقوم على نقل المعارف بمجملها وتهيئة التلميذ تدريجياً، حتى يصل إلى أعتاب الجامعة مهيأً للاستقلال الفردي، حينها تبدأ الجامعة بأخذه إلى مرحلة التفكير المستقل. وفي الجامعة يبدأ الطالب مرحلة تخليق الأفكار وإبراز المواهب، وتفجير طاقاته، ويستقل بتفكيره رويداً رويدا.ً


نحن أحوج ما نكون إلى إعادة النظر في مقرراتنا، مع الأخذ بعين الاعتبار القضايا السابقة. ومع كل هذه المطالب، فإنه لا ينبغي أن نغفل أهمية توفير الحرية؛ إن حرية البحث والباحث مسألةً أساسية، فلا إبداع دون حرية؛ الحرية عامل رئيسي لأي نشاطٍ ذهني خلاّق، من دونها سنظل نصارع طواحين الهواء دون فائدة. من هنا نصل إلى خلاصة، أن حجب الجائزة لا يتعلق بصرامة لجنة الحكم -وهو أمر لابد منه- بل ضعف في إعداد الباحثين، ونرى أنه في ظل هذا الضعف,فإنه يتطلب من القائمين على مؤسسة السعيد، ألا يحدِّدوا مواضيع بعينها، بل يتم منح الجوائز، لأفضل الأبحاث في مختلف المجالات، مهما كان موضوعها، أو يتم المزاوجة بين الطريقتين، في حال عدم ارتقاء الأبحاث إلى المعايير العلمية، يتم منحها لأفضل الأبحاث في نفس المجال من بين الأبحاث المنشورة خلال العام، لأننا مجتمع علمي فقير بالباحثين في الكثير من المجالات المتخصصة.

 


وأعتقد أن مؤسسات ثقافية أهلية كمؤسسة هائل سعيد يمكن أن تلعب دوراً كبيراً في تطوير إمكانيات وقدرات الباحثين, وذلك عبر تشجيع البحث العلمي, ومثلاً شهدت الجامعات الوطنية الحكومية والأهلية توسعاً كبيراً في مجال الدراسات العليا, إذ باتت برامج الماجستير والدكتوراه تنتشر كالفطر بعد المطر, والعديد من المهتمين يعرفون أن هذا التوسع طغى عليه التوسع الكمي ويفتقر إلى الإنتاج النوعي, وكما هو معروف أن البحث العلمي بات مكلفاً بالرغم مما يقدم من مخصصات لبعض الباحثين أحياناً, , وداخل هذا التوسع وعلى الرغم من المشكلات إلاّ أننا لا نعدم من وجود باحثين ومشرفين جادين, وإن كانت قلة أمام سيل الغثاء هذا. وإذا ما اضطلعت المؤسسات الثقافية الخاصة والعامة بتحديد جائزة أو أكثر للأبحاث العلمية الجادة رسائل ماجستير ودكتوراه, كنوع من التقدير والتعويض ومحفز للبحث العلمي الجاد, فإن جائزة كهذه ستلعب دوراً في شد أزر الباحثين والمشرفين الجادين لإنجاز أبحاث جادة, كما سيكون لها أثر في وقف التدهور الحاصل؛ فعندما يشعر الباحثون الجادون ومشرفوهم بوجود محفزات كهذه, فإنها يمكن أن تشد من أزرهم وترفع من معنوياتهم وتحفزهم على البحث العلمي الجاد. وبذلك يمكن أن نحافظ على ما هو موجود من تقاليد بحثية جادة, وننميها. حبذا لو تخصص مؤسسة السعيد جائزة كهذه للباحثين ومشرفيهم تقدم سنوياً, ويتم اختيار أطروحة من الأطاريح المقدمة ( ماجستير ودكتوراه) للجامعات اليمنية في كل عام (وللراغبين في المنافسة).

 

بقلم: د. سامي عطا

أستاذ فلسفة العلوم ومناهج البحث المساعد
قسم الفلسفة كلية الآداب جامعة عـــــدن