آخر تحديث :السبت-20 أبريل 2024-05:21م

ملفات وتحقيقات


من مهد المخابرات إلى لحد تقويض الدول: «داعش».. الخلافة السوداء

الثلاثاء - 19 أغسطس 2014 - 09:56 م بتوقيت عدن

من مهد المخابرات إلى لحد تقويض الدول: «داعش».. الخلافة السوداء

المجلة- بقلم : يوسف الديني

تُشير الأحرف الأربعة الأكثر إثارة وتداولا «داعش» في عالم اليوم الواقعي والافتراضي إلى «الدولة الإسلامية في العراق والشام» على طريقة النحت اللغوي الذي يعمد اختصار الأشياء وربما ترميزها، لكن تلك الرمزية اللغوية ليست كل ما يبحث عنه مقاتلو «داعش» الذين تشكلوا في مطبخ «القاعدة» العراقي والذي كما هو الحال في المطبخ الأفغاني والبوسنوي والشيشاني سابقا تجري إضافة نكهات محلية من شأنها تقبل مذاق «القاعدة» محليا، وبالتالي هذا الاشتباه في فهم وقراءة وتفسير «داعش» كما سيأتي جزء من ضريبة اصطباغها بثقافات المكان الراسخة كالبعث لا سيما في وجود مشتركات قيمية وتاريخية بين كل التنظيمات والآيديولوجيات والأصوليات المتطرفة في شكلها الديني أو القومي أو البعثي أو الماركسي.

«داعش» مفاجأة الألفية الجديدة بلا شك، فالتنظيمات الأصولية المسلحة والجماعات التي تؤمن بالتغيير العنفي والتي نشأت في نهايات القرن الماضي اصطبغت بطبيعة العمل السري الذي تتقنه جماعات العنف المسلح، وتنأى بنفسها عن أي ظهور إعلامي أو حضور اجتماعي، كما أن شروط الانتساب عادة ما تتطلب فحصا فكريا وأمنيا وعادة ما يجري الانخراط في العمل السري عبر تكنيك «الشبكات» والمعارف أكثر من الانتساب المباشر أو من خلال الإنترنت كما تفعل «داعش» الجديدة في إشارة إلى التحولات الهائلة التي يعيشها «وحش» الإرهاب اليوم، فيما نكتفي نحن باجترار المفاهيم والتصورات القديمة عن «القاعدة» وأخواتها وبدايات العنف الدموي الذي رغم كوارثه التي نجنيها اليوم فإنه كان أكثر معقولية مقارنة بـ «داعش» الممثل الأهم للفوضى الخلاقة التي نعيشها اليوم.

صخب البدايات

أول ظهور للاسم الجديد «داعش» في أبريل (نيسان) 2013، ليس بهدف الإعلان الرسمي أو محاولة تضخيم شأن التنظيم كما يخطئ عادة من يقرأ جماعات العنف المسلح خارج نصوصها وسجالاتها الداخلية، فالتسمية كانت هدفا استراتيجيا للتنظيم لابتلاع كل الأسماك الصغيرة، حيث انتشرت إبان الثورة السورية عشرات المجموعات الصغيرة ذات الطابع المحلي أو الآتية من بعيد محملة بتجارب سابقة، فهذه الجماعات المتناثرة تجمعت منذ الغزو الأميركي للعراق الذي حرث المنطقة فكريا قبل أن يجتاحها عسكريا لتشكل جبهات ذات أهداف متباينة لكنها بمجموعها تريد العيش وفق أسلوب حياة «القاعدة» وأخواتها، فالانهيار المدوي إثر إسقاط دولة البعث وليس صدام بما يعنيه ذلك من انهيار مؤسسات الدولة والجيش والقيم والمكتسبات الناظمة للدولة القوية وبما يعنيه من صعود قوى وأقليات كانت مضطهدة وتراجع قوى أخرى كانت مهيمنة وحاكمة ولو تحت ظل البعث الوارف آنذاك قبل أن يحدث التقارب والاندماج الذي بعث مع سقوط صدام ثم النهاية المروّعة التي جمعت شتات الفرقاء تجاه هدف واحد وهو مقاومة الاحتلال الجديد.

الهدف الأول لإعلان «داعش» لم يكن قرارا دعائيا أو محاولة تضخيم قدرات التنظيم الذي يجول طولا وعرضا في مناطقه المحببّة في العراق والشام بقدر ما كان تحديا وجوديا لافتراس الأسماك «القاعدية» الصغيرة وهو ما أدركته «جبهة النصرة» مبكرا فرفضت الاندماج وبدأت معارك إثبات الوجود التي لا تزال مستمرة إلى الآن وإن كانت الغلبة على مستوى أبناء «القاعدة» ويتامى بن لادن لـ«داعش» رغم أن التنظيم رسميا يرفض الاعتراف بالهزيمة حتى اللحظة.
التقاسم الإرهابي لكعكعة الشام والعراق كان سببا في الخلاف بين التنظيمات المسلحة؛ «داعش» و«النصرة» بالأساس وبقية الصغار حسب ولاءاتهم ومصالحهم الصغيرة وإن كانت المبررات المقدمة للأتباع والجمهور العريض هو «الشرعية» فالاتهامات المتبادلة بالبغي والخروج على سلطة الحاكم الشرعي والمفاوضات بل والمحاكمات المجانية والإعدامات كشفت ما كان مستورا ولم تظهر واقعا جديدا في الخلاف بين التنظيمات المسلحة حول أحقية تمثيل «الجهاد» وهو ما يعني إدراكهم لدورهم والانتعاش المقبل لدورات الإرهاب والعنف بعد انهيار الربيع العربي.

بدايات بنكهة محلية

في البداية كانت «القاعدة» في العراق مستقلة وأقرب إلى التشكل المحلي مع إضافات هائلة في الخبرات والموارد من قبل المتحولين من «البعث» إلى «القاعدة» سواء كان التحول على سبيل الاقتناع والتبني وهو أقل أو على سبيل التحالف والولاء المشترك لفكرة طرد المحتل واستهداف الحكومة الطائفية، ووقتها كانت «داعش» تعمل تحت شعار «جماعة التوحيد والجهاد» ليتحول لاحقا إلى تنظيم «القاعدة في بلاد الرافدين» بعد تولي أبو مصعب الزرقاوي قيادته في 2004 ومبايعته زعيم «القاعدة» السابق أسامة بن لادن، ولا يخفى أن إضافة «الرافدين» إلى التنظيم هو جزء من التواضع لقيمة ومكانة بن لادن الذي تسبب مقتله على يد الأميركان إلى تحول كبير في التنظيم بعد الفراغ الهائل الذي خلفه.
«القاعدة» في بلاد الرافدين كانت حريصة على المحليّة والاهتمام بالشأن العراقي إلى الحد الذي اصطبغت فيه بمواصفات جديدة، فهي أكثر قدرة على التشكل والاصطباغ بالطابع المحلي، كما أن أفقها مفتوح تجاه كل التيارات المقاومة للاحتلال والبعث على رأسها، كما أن استجابتها للتحركات الاستخباراتية للدول التي تعمل فيها هو جزء من تضخم دورها السياسي على حساب الآيديولوجي على خلاف تنظيم القاعدة المثالي في تصلبّه تجاه الفكرة الأساسية، الفصل بين عالمين وبين فسطاطين.

تراجع مؤقت

مقتل الزرقاوي في يونيو (حزيران) 2006 على يد القوات الأميركية في العراق، ساهم في تقلص دور «القاعدة» لحساب أدوار جديدة مفاجئة لم تكن مرصودة آنذاك في صخب عمليات «القاعدة»، فأبو حمزة المهاجر الذي خلف الزرقاوي قاد التنظيم إلى الإغراق في الشأن المحلي المناطقي للعراق على حساب أي اهتمامات أخرى، فكان له البقاء والتمدد والتجذر الاجتماعي وهي تحولات في مسألة الاندماج لم تعرفها «القاعدة» إلا بشكل محدود في اليمن والصومال، وحين تمكنت القوات الأميركية في أبريل 2010 من قتل البغدادي ومساعده أبو حمزة، انتقل التنظيم إلى مرحلة جديدة هي مرحلة أبو بكر البغدادي «أمير المؤمنين» الذي فجّر كل المفاجآت وأعاد الحالمين بدولة الخلافة الطوباوية إلى صفوف الانتظار والترقّب ودخل أتباع الإسلام السياسي على اختلاف مراتبهم وبدرجات متفاوتة في دين الخلافة أفواجا وإن كان بعضهم اعترض على خلافة أبو بكر مع التأكيد على أهمية الخلافة في حد ذاتها كهدف منشود وأقصى!

كيف نصنف «داعش»

إذن «داعش» هي منتج إرهابي منفصل عن «القاعدة» بعد أن كان جزءا منها، ثم أضيفت إليه أفكار جديدة إلى أن آل الوضع إلى هذا المزيج الذي يقترب من العصابات المنظمة منه إلى عمل جماعات العنف المسلح الدينية.
تعود بذور «داعش» للخلاف الفكري بين تيار الصقور الذي كان يمثله الزرقاوي، و«القاعدة» التقليدية، وبعد مقتله ومقتل أبو حمزة المهاجر دخلت «داعش» مرحلة مشروع الدولة في العراق.

التقاسم الإرهابي لكعكعة الشام والعراق كان سببا في الخلاف بين التنظيمات المسلحة؛ «داعش» و«النصرة» بالأساس وبقية الصغار حسب ولاءاتهم ومصالحهم الصغيرة

جزء من أزمة تحليل «داعش» تعود إلى أسباب كثيرة وأهمها القراءة الخاطئة لـ«التيارات المنغلقة»، فالصورة المغلوطة عن جماعات العنف المسلح منذ حركة الخوارج تاريخيا ووصولا إلى «القاعدة» وأخواتها، فهناك أولا تغيرات بحكم التاريخ وتغير الوضع السياسي وأخرى بسبب التأثر والتأثير على الواقع نفسه، فالنواة الأولى لمجاهدي الثمانينات قبل نشأة «القاعدة» تختلف عنها عن مرحلة «مطبخ بيشاور» التي أشرنا إليها، كما تختلف جذريا عن مرحلة القتال بالوكالة التي مارستها «القاعدة» عبر إرسال مقاتليها إلى البوسنة والشيشان.

الخلاف إذن ليس فقط على مستوى الأفكار وهذا فرق جوهري بل على مستوى موقفهم من الأنظمة العربية أو قتال العدو القريب أو البعيد، موقفهم من التحالف مع استخبارات دول أخرى في مصلحة التنظيم، التدفق المالي، وأيضا انفصال المرجعيات الشرعية للتنظيم عن المناخ الشرعي السائد من حيث تحرير مسائل الجهاد أو فقه الثغور والذي تغير عدة مرات من تكوين علماء تنظيم مختصين وصولا إلى غياب الرؤية بحكم دخول أطراف قادمة من خلفيات بعثية وأخرى أقرب إلى الثوار المناطقيين كالعشائر في العراق وبعض المناطق السورية.

لغز محيّر

تبدو «داعش» في عيون «الجميع» لغزا محيرا ينسب تارة إلى إيران وتارة إلى العراق وتارة إلى بشار وتارة إلى الولايات المتحدة، ناهيك عن الاتهام الاستعدائي الذي يعبر عن أزمة ترحيل الأزمات السياسية الإيرانية الشهيرة والتي اقتبسها المالكي حين أطلق اتهاماته جزافا تجاه المملكة والخليج وبشكل يدرك هو أنه جزء من إنتاج شرعيته المتوهمة التي تلفظ أنفاسها الأخيرة عند عقلاء شيعة العراق قبل سنتهم (إدانة أداء المالكي الطائفي أهم وأنجع من تثوير الطائفية وإنتاج حرب أهلية عراقية، وهنا يمكن أن نشيد بالبيان السعودي المتعقل والذي يدعو إلى تسوية سياسية رغم الحملات المغرضة ورغم رعونة عدد من رموز الإسلام السياسي، تغريدات حاكم المطيري وأمثاله كارثية إذا ما علمنا حجم تأثير هذه الشخصيات على جمهور غير قاعدي).

العودة إلى المصادر

لقطع هذه الحيرة في فهم لغز «داعش» كان الأحرى بسيل التحليلات التي تقترب من روايات الخيال العلمي قراءة نتاج «داعش» وهو منشور ومبذول، سواء المنتج الفكري (رسائل/ فتاوى/ وصايا شهداء/ الردود على المخالفين.. إلخ) أو المجتمع الداعشي على الإنترنت (معرفات «تويتر»/ منتديات جهادية/ وحتى كتيبات تحريضية عادة ما تحاول عمل دعاية مضادة لخصوم «داعش») وأيضا من المهم معرفة قراءة «داعش» النسخة القاعدية ثم «داعش» النسخة العالمية التي تجتذب الآن عناصر أجنبية (لك أن تتخيل أن أكثر لغة يجري التحدث بها من أنصار «داعش» هي الفرنسية بحكم غلبة العنصر المغاربي والأوروبي) ودخول قوميات فرعية صغيرة مرتبطة بحدود سوريا وهو ما يعني واقعا إرهابيا جديدا أقرب إلى التحالف الأممي للذين لا يرون أي جدوى في التغيير إلا من خلال العنف باعتباره الصوت الذي يجلب الإعلام والاهتمام الدولي والغرب وبالتالي يعيد إنتاج دعاية عكسية لأتباع التنظيم (منذ الهجوم على «داعش» زادت شعبية التنظيم لدى الأوساط المتعاطفة مع جماعات الإرهاب)، بل ويستعطف تيارات أخرى كما نلحظ الآن تحولا خطيرا وكارثيا لدى ما تبقى من منظري الإسلام السياسي على الإنترنت الذين قفزوا من صف العزاء الإخواني إلى طوابير المشجعين في جرائم «داعش» وبشكل فج يكرس نظرية «الجذر الواحد» التي تدرس ظاهرة العنف والإرهاب عبر امتدادها التاريخي منذ ولادة لحظة الإسلام السياسي قبل قرنين من الزمان.

من رحم «الإهمال»

عاشت «داعش» العراقية والتي كانت تعرف بـ«القاعدة في بلاد الرافدين» فترة كمون بسبب الاستهداف الأميركي لها بالتعاون مع القوات العراقية وذلك من أوائل 2006 وحتى بدايات الثورات العربية وهي فترة زمنية طويلة نسبيا في عمر التنظيمات المسلحة التي تقاتل دولا مركزية، لكن سر بقاء «داعش» على قيد الحياة هو قدرتها على التشكل والانحناء للعاصفة وإعادة ترتيب الصفوف وبالطبع سيساهم سلوك دولة المالكي الطائفية في عودة التنظيم إلى التعافي سريعا. نسبيا في عمر التنظيمات المسلحة.

الأكيد أن التعامل الإعلامي مع «داعش» في بداياتها المبكرة من الإهمال إلى التفاجؤ إلى الصدمة ثم الذهول، حوّل هذا التنظيم الفوضوي التجريبي إلى أسطورة حيث الممارسات الإرهابية التي لا يقبلها عقل أو دين تتحول إلى كارد سياسي مهم تلعب كل الأطراف حتى المعادية على استغلاله بشكل جيد وهنا لب «الأزمة»؛ فالاستغلال السياسي يجب أن لا يحجبنا عن قراءة ظروف تعملق وتضخم هذه التنظيمات بعد فشل الربيع العربي، فأصبحت «داعش» خلافا لمثيلاتها تتسابق إلى نشر صور حز الرؤوس والتفاخر بذلك بل واعتباره منجزا يجلب الأطفال لالتقاط الصور معه في ظل صمت دولي مخيف.
بقي أن يقال إن الغموض الذي يكتنف علاقة «داعش» بالنظام السوري والإشارات المتناقضة التي تبعثها، فباعثها هو عدم التمييز بين ركيزتين مهمتين في قراءة تيارات العنف المسلح، البنية النظرية الصلبة للتنظيم متمثلا في الأفكار التأسيسية: تكفير المجتمعات، حلم دولة الخلافة، المشروع الانقلابي المسلح على الأنظمة العربية، الامتداد الاجتماعي للعنف كفكرة قادرة على التغيير في ظل عطل السياسة، الركيزة الثانية هي آليات العمل في الواقع والذي يختلف من مكان إلى آخر. للتذكير لو أخذنا شريطا زمنيا لتطور أفكار العنف المسلح منذ النواة الأولى لمجاهدي أفغانستان إلى «داعش» لرأينا اختلافا كبيرا على مستوى المواقف السياسية خاصة بعد دخول أسلوب «إطلاق اليد» الذي استخدمته إيران ويستخدمه ببراعة بشار الأسد، لكن المالكي حين حاول تكرار التجربة واجه فشله الذريع الذي جعل كل الناقمين عليه وحق لهم أن يجدوا في «داعش» ذريعة لإسقاطه لكنهم مخطئون في ثقتهم أيضا بالقدرة على التخلص من سم الثعبان لاحقا.

في مواجهة الصحوات

خلال تلك السنوات الممتدة من نشأة التنظيم ارتكبت القوات الأميركية والعراقية حماقات متعددة في مواجهة التنظيمات المسلحة، إلا أن أكبرها فداحة كانت محاولة تعويض الجيش العراقي بقوات الصحوات في المناطق السنية من مقاتلي العشائر السنية ودفعها لمقاتلة «القاعدة» ثم التخلي عنها لاحقا بوعود ظهرت أنها كانت مجرد سراب طائفي كبير فالعراق للعراقيين فكرة لم تولد لتكبر بعد الغزو ثم الانسحاب الأميركي وإنما كان الهدف هو الخروج من المستنقع بأقل قدر من الخسائر.

العودة السريعة

في نهايات عام 2011 وعلى وقع المخاضات الكبيرة التي كانت تعيشها المنطقة إثر الربيع العربي الذي اندلع وأشعل الحرائق السياسية ملهيا عن حرائق «القاعدة»، عادت دولة العراق الإسلامية أكثر قوة وتنظيما بعد أن استطاعت تأليب السنة في العراق لا سيما ما تبقى من الصحوات المخذولة من أميركا وحكومة المالكي في أجواء كانت تستعد المنطقة فيها ليس إلى دخول الربيع الديمقراطي كما بدا لأول وهلة وإنما لربيع الإرهاب الجديد وبدافع هذا الفشل المتلاحق للأميركان في العراق والمنطقة.

عودة «داعش»، الدولة الإسلامية، آنذاك، كانت تستهدف زعزعة النظام العراقي ولذلك كرّت سلسلة من التفجيرات العبثية في بغداد وحصدت الآلاف من الضحايا الذي دفع الأميركان إلى التحرّك من بعد وتخصيص مكافآت للقبض على زعامات التنظيم الجديد، لكن شيئا من ذلك لم يؤت أُكله شأن كل السياسات الأميركية في حملة الحرب على الإرهاب التي لن تفلح ما دامت على طريقة «طائرات دون طيار»، فهذا الاستسهال في مواجهة العنف حول العراق آنذاك إلى جحيم حقيقي، وكانت الكارثة هي تغلغل التنظيم بل وقدرته على فتح السجون واستهدافها بالهجوم لاستخراج كوادر «غالية» ستكون لاحقا الوقود الحقيقي لـ«داعش» وستصنع الفرق الذي نجني عناقيد غضبه اليوم.

براءة نظام صدام

على عكس ما يشاع لا سيما من أعداء «داعش» الطائفيين وعلى رأسهم إيران والنظام السوري والعراقي بقيادة المالكي رأس الحربة ضد «داعش» والمستفيد الأكبر من تمددها لم تثبت أي علاقة بين نظام صدام قبل سقوطه المدوي وبين «القاعدة» وأخواتها، فبعد الانهيار لم يتم العثور على أي وثائق تثبت ارتباطه بـ«القاعدة»، رغم الإرث الكبير من السجلات الموثقة التي ظهرت بعد ذلك، ومن أبرزها ما ترجمته وكالة الاستخبارات العسكرية الأميركية عام 2006 ونشرت عنه العديد من مراكز الأبحاث الأميركية تقارير مطولة لخصت أكثر من 34 مليون صفحة من وثائق صدام ولم تعثر على أي أثر تحالفي لـ«القاعدة»، بعدها بسنتين أكد «معهد التحليلات الدفاعية» المرتبط بالبنتاغون في تقرير بثته الصحف الأميركية أنه جرى فحص 600 ألف وثيقة رسمية شملت تسجيلات صوتية ومرئية أن تلك العلاقة لم تكن سوى ضرب من الأوهام والخيالات الجامحة.

أعضاء ألوية العباس، الذين تطوعوا لحماية الأماكن المقدسة الشيعية في كربلاء ضد المسلحين  من داعش الذين يقاتلون حكومة بغداد،( 26 يونيو 2014) (أ ف ب / غيتي)

أعضاء ألوية العباس، الذين تطوعوا لحماية الأماكن المقدسة الشيعية في كربلاء ضد المسلحين من داعش الذين يقاتلون حكومة بغداد،( 26 يونيو 2014) (أ ف ب / غيتي)

تدخل «القاعدة» في العراق ما بعد السقوط وصعود نخبة حاكمة طائفية وضعت تهميش السنة على رأس أولوياتها، ساهم في تطور الخطاب الطائفي لدى الزرقاوي الذي تفرّد في الوصول إلى الغايات القصوى طائفيا متجاوزا منطق «القاعدة» المضطرب تجاه الشيعة فساهم هو والوجه الآخر من عملته الطائفية إلى الوصول بالعراق إلى الحرب الأهلية بما تعنيه الكلمة حيث تمثلت استراتيجيته في استهداف الشيعة قبل الأميركان حيث باتت عملياته تستهدف مواكب الزوار والمجتمعات الشيعة المغلقة وكان ذروة سنام العنف الهجوم على «المسجد الذهبي» في سامراء

كسر سايكس بيكو أم تصفية الخصوم

ظلت الدولة الإسلامية تبني نفسها خلال السنوات التي انشغل العالم فيها بالربيع العربي البرّاق ليفاجئنا البغدادي في أوائل 2013 بحركة تصحيحية للتنظيم عبر عنها في بيانه بابتلاع جبهة النصرة وأنها امتداد تنظيمي لـ«داعش» التي تنوي التحول إلى دولة عابرة للحدود وكاسرة لحدود الدولة التقليدية التي رسمها سايكس بيكو، لكن الأمر كان أبعد من الكفر بحدود الدولة القطرية إلى استهداف شرعية رفاق الأمس بمبررات ذات مضامين شرعية وإن كانت الغايات والدوافع سياسية الطابع، فبقاء «داعش» مجرد تنظيم مستورد من العراق للشام كان سيجهز عليه في حال تقوية التنظيمات الأخرى والجيش الحر الأقرب إلى الشأن السوري، كما أن تمرّد «القاعدة» المستمر على «داعش» كان إيذانا لاتخاذ خطوة «آخر العلاج الكي» والذي ترفعه عادة كل التنظيمات المسلحة والميليشيات والأحزاب الماركسية الراديكالية وهو ما يعرف بـ«تصفية الخصوم».
تصفية الخصوم من «داعش» استحضر الأسلوب الأكثر وحشية وهي ماركة مسجلة باسم الزرقاوي سيئ الذكر في قطع الرؤوس وحزّها، وهو الأمر الذي مارسه التنظيم تجاه عناصر من الجيش الحر وجبهة النصرة وأحرار الشام بدم بارد، بل وتوثيق للحظة الدموية الأكثر فظاعة في الفيديو بخلفيات إنشادية وكلمات عنيفة على شكل محاكمات سريعة وحاسمة وكان الهدف قبل ترويع العالم إيصال رسالة واضحة للتنظيمات الأخرى بقيادييها وكوادرها التنظيمية أن «داعش» لا تطلق وعودا في الهواء الطلق وإنما رؤوسا وأجسادا لا تدري فيم قتلت.

«داعش» لم تعد شأنا إقليميا خاصا، لا يجدي الآن التنصل من المسؤولية عن «داعش» من قبل طريقة الولايات المتحدة في الحملة على الإرهاب والتي لم تجد صدى نقديا يليق بتبعاتها الكارثية، كما أن إدانة «داعش» على المستوى الأمني والسياسي لا يحل المعضلة إذا لم يترافق مع تتبع للجذور الفكرية والاجتماعية وبيئة الاستقطاب والخطاب السائد وتفكيك المفاهيم الأساسية ورصد نماذج التجنيد والتسويق والدعاية على الإنترنت.
هذا على مستوى التنظيم بما يعني القيادات، الكوادر، التمويل، التحالفات مع تيارات ورموز أخرى يبدو أن «داعش» أملها الوحيد بعد سقوط تجربة «الإسلام السياسي» لكن هل تكفي محاصرة «داعش» للخروج من حالة «داعش» بما تعنيه من أفكار جديدة وطرائق للعيش والحرب والسلم، فاستدعاء التدخل الغربي تحت أي مظلة لسحق التنظيم لن يكون كافيا للقضاء بل سيتكرر السيناريو ويدخل التنظيم في حالة بيات ليعود بشكل أقوى كما أخبرتنا تجارب طالبان و«القاعدة» و«القاعدة في جزيرة العرب».

المستنقع السوري

واحدة من أكثر ملفات «داعش» غموضا هو تغلغلها في المستنقع السوري وتعملقها سريعا رغم أن تاريخ مشاركتها جاء متأخرا ثورة الشعب السوري بسنتين كاملتين! فـ«داعش» دخلت سوريا بعد أن حرر الثوار قسما كبيرا من سوريا وكانوا على وشك بناء دولة حديثة، إلا أن «داعش» ومن خلال تكنيك إطلاق اليد قامت باستدعاء «داعش» لا لتحاربها بل لتحارب بها عبر التأثير عليها بذكاء استخباراتي كبير.
استهدفت «داعش» كل المكتسبات للثورة السورية وثلاثية الثورة والتنظيمات العسكرية والشعب المقاوم الثائر، فقامت بسلسلة من عمليات الاغتيال والاختطاف لأهم رموز الكتائب والفصائل المقاومة ودمرت عددا من المؤسسات المدنية والعسكرية الناشئة، وهي أدوار لم يكن يحلم بها النظام السوري في مواجهة ثورة فتية.

تفكيك الثورة

أولوية تفكيك الثورة السورية كانت هدف «داعش» غير المعلن، وكانت آثارها مدمرة حيث مواجهة «داعش» من قبل المعارضة السورية كانت تؤدي غالبا إلى التعرض للقتل أو الملاحقة والاعتقال والإهانة والتعذيب في سجون دولة البغدادي، التي لا تقل سوءا ودموية عن سجون النظام السوري، الأمر الذي استدعى أمير جبهة النصرة إلى التحرّك المتأخر وإصدار البيانات لكن بعد خراب مالطة، فأمر بحلّ الدولة وعودة الساحة السورية إلى ما كانت عليه قبل «داعش»، إلا أن البغدادي رد عليه بأحسن منها وكانت الشعار الدعائي الكبير لـ«داعش» الذي تحول إلى ما يشبه الرمز التسويقي «دولة الإسلام في العراق والشام باقية وتتمدد» حتى يظهرها الله أو نهلك فلا سبيل للرجوع والاستسلام.
هذه الخطوة الشجاعة من البغدادي والمتهورة نسبيا أحدثت انشقاقات غير متوقعة في الجسد الجهادي في سوريا حيث انشغل العديد من المقاتلين ما يزيد على النصف بكثير إلى «داعش»، وكان أغلب حصيلة المتحولين من «داعش» هم القادمون من الأقاصي ممن عرفوا بلقب «المهاجرين» على سبيل التشريف إضافة إلى مجموعات محلية سأمت بطء نجاحات الجيش الحر وانحازت إلى آيديولوجيا «داعش» المتكاملة نظريا والمحددة لهدفها وهو الوصول إلى مرحلة الدولة.

التناغم مع نظام الأسد

في نهاية 2013 كانت مدينة حمص قد وصلت إلى ذروة المعاناة والألم بعد حصار سنة ونصف أنهكت فيها كل قواها إلا أن «داعش» لم تر في ذلك أي ضغينة وزادت من معاناة السوريين حين قررت احتلال ريف حمص الشرقي بدعوى فك الحصار فأرسل مقاتليه ليحاصروا الرقة وريفها واتخذت من الشرق مقرا رئيسا ومركزيا لها، لتجتاح لاحقا إدلب وحلب وطرابلس والباب وتل رفعت وحريتان ورتيان ودارة عزة في ظل صمت الجميع، وفي خلال أقل من ستة أشهر سيطرت «داعش» على مناطق واسعة من

الشرق والشمال لحلب

كانت حروب «داعش» في سوريا من أكثر حروبها ذكاء وحنكة، فهي تدرك أن قوتها محدودة لا تقارن بحجم حضورها في العراق فساهمت إلى تقليل خساراتها الحربية والعسكرية عبر تجنب الصدام مع نظام الأسد واستهداف المناطق غير الخاضعة لسيطرته فيما ظن كثير من المحللين أن ثمة تعاونا مباشرا بين النظام و«داعش»، إلا أن الأمر لا يعدو توافق مصالح، لا سيما وأن «داعش» كانت تعيش مرحلة تجريب سورية ساهمت في تضخم دورها لدى نفسها قبل الأرض، فاستهداف المناطق المحررة وصولا إلى بناء قوة عسكرية على الأرض لا يمكن الاستهانة بها.
التوسع في المناطق المحررة قابله إهمال كبير لكل المناطق التي يسيطر عليها النظام مثل الريف الجنوبي لحلب، كما أن استراتيجية «داعش» تمثلت في استهداف المجموعات الصغيرة والضعيفة نسبيا بهدف احتوائها أو إنهاكها ثم احتلال مناطقها وكان تنظيم أحرار الشام أكثر التنظيمات سقوطا في يد «داعش» مستغلة حالة الفوضى والخلافات المتكررة إلى طرح مشروعها الوحدوي لكل المقاتلين بهدف بناء دولة ومنح الأمان لأهالي المناطق المنكوبة وهي استراتيجية فاعلة غفلت عنها باقي التنظيمات التي انشغلت بالشأن العسكري ومقارعة النظام.

مع إعلان دولة الخلافة وتنصيب أبو بكر البغدادي أميرا للمؤمنين كانت «داعش» في طريقها إلى اكتساح المشهد ليس الجهادي فحسب، بل المشهد الإسلاموي برمته معتدليه ومتشدديه

الخلاف بين «داعش» و«جبهة النصرة» انتقل من الداخل السوري إلى الأتباع والأنصار والمتعاطفين مع الفكرة العنفية في الخارج، وأصدر عدد من رموز التنظيمات المسلحة الفكرية تصريحات هنا وهناك تجاه «داعش» أو ضدها، وكان أبرزها هو سجال أبو محمد المقدسي أيقونة ومرجعية التيارات الجهادية الحديثة الذي بدا ناقدا فناصحا ثم محذرا من «داعش» باعتبارها صوتا نشازا سيسيء إلى الفكرة الجهادية ما لم يفعله الأعداء على حد قوله، إلا أن تحذيرات المقدسي وآخرين لم تمنع شخصيات أخرى على الدخول في الخط ومحاولة الوساطة وهي محاولات كثيرة متعددة ومبثوثة في سجالات الجماعات بمنتدياتها الإلكترونية إلا أن أبرزها محاولة الشيخ السعودي المقرب من المجموعات الجهادية عبد الله المحيسني والذي أصدر بيانات وفتاوى حكم فيها على «داعش» بضرورة وقف القتال ضد الجماعات المسلحة في سوريا، وخاصة الإسلامية منها، كما حض زعيم «داعش» قبل إعلان الخلافة على العودة إلى العراق وترك القتال في الشام لجبهة النصرة فيما يشبه توزيع التخصصات والمهام، كما أنه عاد مجددا ليطرح مشروع مبادرة «المحكمة الإسلامية» للفصل بين التنظيمات المختلفة في سوريا، وبينها «داعش» و«جبهة النصرة» فيما يشبه المحاكم الدولية لفض النزاعات، إلا أن هذه الفكرة الرائدة التي كانت ستساهم في توحيد صفوف الجماعات الإرهابية ضد أهدافها المتشابهة برفض قاطع وصارم من «داعش» التي ردت عليه على الأرض واستهدفت مقرات التنظيمات الأخرى بعمليات انتحارية أفضت إلى انهيار مشروع التقارب وتحول «داعش» إلى قوة ردع عنيفة وقذرة ودموية إلى الحد الذي دفع بأحد شبابها المغرر بهم إلى قتل ابن عمه في جبهة النصرة في حادثة تعكس حجم الاستلاب والتشويه الذي تعيشه كوادر هذه الجماعات الموتورة، انتهت مبادرة المحيسني رغم كل كلمات الاستعطاف التي حواها بيانه الأخير الذي استحلف فيه البغدادي بالله أن يقبل بالمحكمة وأن يحقن الدماء وأن يحافظ على «داعش» لتكون غصّة في حلوق الرافضة والغرب إلا أن البغدادي كان يفكر أكثر في لقب أمير المؤمنين ودولة خلافته التي لا يمكن أن تقوم دون سحب الشرعية من كل المنافسين في ظل صمت علماء الإسلام الذين يتابعون المشهد وكأن ما يجري اختطافه من مفاهيم ومسلمّات وأفكار تنتسب إلى أديان وآيديولوجيات أخرى ولا تجري عبر تشويه اسم الإسلام وبطريقة عميقة تستحضر حتى أدق الرموز والشكليات والأيقونات القديمة ومنها ختم النبوة المحمدية الذي اتخذته «داعش» كـ«logo» دعائي لها.

تحركات متأخرة

عصام البرقاوي أو أبو محمد المقدسي الرمز الفكري للحركات الجهادية المسلحة في العصر الحديث أصدر عددا من البيانات أهمها بيانه إلى «قادة المجاهدين في خراسان واليمن والمغرب الإسلامي وسيناء والصومال والقوقاز» (وهي مناطق توتر تحضر فيها «القاعدة» بقوة) قال فيها إن ما يجري في سوريا من «اختلاف واقتتال بين المجاهدين» قد «حرق قلوب الغيورين على الجهاد والمجاهدين»! وذكر الشيخ أبو محمد كما يلقب بأنه قام بمراسلة زعيم «داعش» المعروف بـ«أبو بكر البغدادي» كما وصفه في ذات الوقت الذي راسل فيه من وصفه بـ«أخانا الشيخ القائد المجاهد أيمن الظواهري»، لتدشين مبادرة أخرى غير مبادرة المحيسني لكن لذات الهدف، فهي مبادرة إصلاح أو تحكيم بين تنظيم الدولة وجبهة النصرة.. وأن رفضه لهذه المبادرة سيحملهم المسؤولية أمام كافة المجاهدين، وسيحصدون عواقب وخيمة وراء ذلك الرفض.
المقدسي لم يكتب بتوجيه خطابه إلى أمير المؤمنين المزعوم بل خاطب أيضا القيادات الشرعية الداعشية التي يعول على مكانتها الحركية فاتهمها بقسوة بـ«التدليس واللف والدوران والكذب على قادة الجهاد». المقدسي أعاد الأضواء إلى نجومية الظواهري بعد اتهامه الصريح لـ«داعش» بالانحراف عن بيعة الظواهري مؤكدا أن تنظيم الدولة في العراق والشام؛ تنظيم منحرف عن جادة الحق، باغ على المجاهدين، ينحو إلى الغلو، وقد تورط في سفك دماء المعصومين، ومصادرة أموالهم.. وندعو أفراد تنظيم الدولة إلى تركها والانحياز إلى جبهة النصرة.

رموز مناوئة

البيان المقدسي ذهب بعيدا وفتح المجال لشخصيات جهادية أخرى أن تعلن عن رأيها في «داعش» كان من أكثرهم هجوما أبو قتادة المقدسي المرحّل من لندن إلى الأردن والذي أشيع عنه أنه أفتى بجواز قتل سجناء «داعش» في قبضة الجماعات الأخرى
وأضاف: «عذرا أمير (القاعدة).. إننا كنا ولحين قريب نجيب من يسأل عن علاقة الدولة بـ«القاعدة» بأن علاقتها علاقة الجندي بأميره ولكن هذه الجندية يا دكتور لجعل كلمة الجهاد العالمي واحدة ولم تكن نافذة داخل الدولة كما أنها غير ملزمة لها وإنما هي تنازل وتواضع وتكريم منا لكم ومن الأمثلة على ذلك عدم استجابتنا لطلبك المتكرر بالكف عن استهداف عوام الروافض في العراق بحكم أنهم مسلمون يعذرون بجهلهم فلو كنا مبايعين لك لامتثلنا أمرك حتى لو كنا نخالفك الحكم عليهم هكذا تعلمنا في السمع والطاعة ولو كنت أمير الدولة لألزمتها بك ولعزلت من خالفك بينما التزمنا طلبكم بعدم استهدافهم في إيران وغيرها».

سجالات عنيفة

إلا أن الرد الداعشي لم يتأخر طويلا فأصدرت الدولة الإسلامية في العراق والشام عددا من البيانات العنيفة تجاه الظواهري وتنظيم القاعدة وخاطبته بلهجة حادة جاء فيها: «لقد وضعت نفسك وقاعدتك اليوم أمام خيارين لا مناص عنهما إما أن تستمر على خطئك وتكابر عليه وتعاند ويستمر الاقتتال بين المجاهدين في العالم وإما أن تعترف بخطئك وزلتك وتصحح وتستدرك وها نحن نمد لك أيدينا من جديد لتكون خير خلف لخير سلف فقد جمع الشيخ أسامة المجاهدين على كلمة واحدة وقد فرقتها نمد لك أيدينا من جديد وندعوك للتراجع عن خطئك القاتل ورد بيعة الخائن الغادر الناكث فتغيظ بذلك الكفار».

هذه اللغة التي يفهمها أتباع «القاعدة» من اقترب من التنظيم تعني الانفصال عن جسد «القاعدة» إلى أجل غير مسمى ما دامت تقاد برأس وعقل الظواهري الذي بدا مصابا بالدوار من وثوقية وعنف وقسوة «داعش» التي اتهمته بإيقاد الفتنة ودعته إلى العودة إلى نهج «القاعدة» القديم والتصريح كما قالت: «بردة الجيش الباكستاني والمصري والأفغاني والتونسي والليبي واليمني وغيرهم من جنود الطواغيت وأنصارهم وعدم التلاعب بالأحكام والألفاظ الشرعية».
«داعش» استغلت بذكاء فتور موقف «القاعدة» والظواهري من نجاحات الإخوان وحكومة مرسي، ووصف أمير «داعش» الظواهري بأنه فاسد الحكم ومشرع للطاغوت الفرعوني الجديد (مرسي العياط) وخلفه ممثل حكم العسكر (السيسي)، داعيا إلى ضرورة أن تعلن الحركات الجهادية رأيها في ردة النظام المصري والدستور الباطل والدعوة صراحة لقتال جيش مصر أو كما وصفته «جيش السيسي الفرعوني الجديد وإلى التبرؤ من مرسي وحزبه والصدع بردته وكفاك تلبيسا على المسلمين».

خذلان «القاعدة»

كلمات العدناني التي هاجم فيها الظواهري كانت تعبر عن شعور نفسي عام لدى المتعاطفين مع التيارات العنفية في المنطقة وهو خذلان «القاعدة» لمناطق التوتر لا سيما سوريا والعراق فالعدناني خاطب الظواهري المعزول بعيدا في الشريط الحدودي لباكستان قائلا: «عذرًا أمير (القاعدة) لقد بايعنا الله على قول الحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم، إنك في شهادتك الأخيرة لبست على الناس وأوهمتهم أمرا أجهدت نفسك لإثباته ولم تثبته ولن تثبته إذ تعسفت بإخراج مقاطع من رسائل سرية إلى الإعلام لتحملنا جرما أنت اقترفته وأنت من يسأل عنه ويتحمل وزره.. أجهدت نفسك لتضعنا موضع الناكثين الغادرين الخائنين الشاقين صف المجاهدين.. ليس لجندي صغير مثلي أن يرد على مثلك، على أمير (القاعدة) ولكن لصاحب الحق مقال وإننا والله يعلم كم يعصر الألم قلوبنا ونحن نرد عليك».

 طفلة عراقية  تنظر  عائلتها خارج  مخيم النازحين بعد اشتعال القتال بين داعش وقوات الامن العراقية  داخل وحول مدينة الموصل يوم 26 يونيو 2014 (غيتي)

طفلة عراقية تنظر عائلتها خارج مخيم النازحين بعد اشتعال القتال بين داعش وقوات الامن العراقية داخل وحول مدينة الموصل يوم 26 يونيو 2014 (غيتي)

هذا الألم الذي تبديه «داعش» على الانفصال عن جسد «القاعدة» لم يكن إلا محاولة حثيثة للاستقلال والتخلص من الإرث القاعدي الذي يشكل عبئا على هذا التنظيم الجديد الذي يضم لجنباته خبرات حديثة مستقاة من تحالفات واستقطابات لكوادر البعث والميليشيات المسلحة التي لا تتبنى بالضرورة نهج «القاعدة» وأفكارها وخطاباتها الدينية.
إلا أن الخاصرة الرقيقة والهشة التي طالها سهم «داعش» المسموم، هو كان موقف «القاعدة» من إيران والرافضة على حد قوله، والذي مر بتحولات كبيرة أفضت إلى تقارب قاعدي إيراني كانت «داعش» له بالمرصاد، مذكرا الظواهري بكلمات بن لادن قبل مقتله ورسالته الشهيرة لأهل العراق التي قال فيها: «إن كل من يشارك في الانتخابات العراقية والتي سبق وصف حالها عن علم ورضا يكون قد كفر بالله تعالى ولا حول ولا قوة إلا بالله، وينبغي الحذر من الدجالين الذين يتكلمون باسم الأحزاب والجماعات الإسلامية ويحثون الناس على المشاركة بهذه الردة الجموح ولو كانوا صادقين لكان همهم في الليل والنهار إخلاص الدين لله تعالى والتبرؤ من الحكومة المرتدة وتحريض الناس على جهاد الأميركيين وحلفائهم فإن عجزوا فلينكروا بقلوبهم ويتجنبوا المشاركة في برامج المرتدين أو القعود في مجالس الردة وكل ما ذكرناه في العراق ينطبق تماما على الوضع في فلسطين فالبلاد تحت الاحتلال ودستور الدولة وضعي جاهلي الإسلام منه بريء، والمرشح محمود عباس بهائي عميل كافر».

دولة الرايات السوداء

انتظرت «داعش» حتى مطلع هذا العام 2014 لتحول استراتيجيتها من الاهتمام بالمستنقع السوري إلى العودة إلى أرض التمكين كما يسميها أتباع «داعش» (العراق) وأوفياء العيش بأسلوب حياتها في المدن العراقية التي تحتلها وعلى رأسها «الفلوجة والرمادي» ثم الموصل لاحقا فمحافظة الأنبار التي كانت مسرح ولادة دولة الخلافة، إلا أن السيطرة على محافظة صلاح الدين كانت الحدث الأهم لـ«داعش» حيث حلقة الوصل بين شمال العراق ووسطه وحيث الدخول في مرحلة دولة الخلافة النفطية وهو ما ساهم في غرور «داعش» وطغيانها إلى الحد الذي جعلها تصل إلى لحظة رمي «حجر النرد» للإرهاب الجديد عبر إعلان دولة الخلافة الإسلامية.

اكتساح شامل

مع إعلان دولة الخلافة وتنصيب أبو بكر البغدادي أميرا للمؤمنين كانت «داعش» في طريقها إلى اكتساح المشهد ليس الجهادي فحسب، بل المشهد الإسلاموي برمته معتدليه ومتشدديه والحائرين بين أساطير البارود وأحلام الحور وبين الموجوعين من التجربة العنفية وتبعاتها الاعتقال والعزلة.. إلخ. لكن إعلان دولة الخلافة بعثر كل تلك الأوراق وأعادها جذعة مرة أخرى «الخلافة» وإن كانت في شكل أقرب للكوميديا جعلت العالم ينشغل عن فظاعة الحدث وتبعاته الفكرية والقيمية إلى الاهتمام بماركة ساعة أمير المؤمنين وحراسه وجواريه، لكن أمير المؤمنين لم يلتفت إلى كل هذا الصخب الإعلامي بل سعى إلى الاهتمام بمجريات الأرض فالتمدد الكبير للتنظيم يفرض تفكيرا عميقا في الموارد الاقتصادية والوصول إلى الاكتفاء الذاتي الذي تسعى له «داعش» لتحقق رقما قياسيا جديدا في سباق الإرهاب الطويل المليء بالحواجز، إلا أن تخطي هذه العقبة التمويلية سيساهم في تعاظم دور دولة الخلافة على الأقل بين جمهورها الجديد وما أكثرهم، استهداف البنوك المركزية كان الخطوة الأولى ثم تبعتها الاستفادة من نفط المناطق المحررة رغم محدوديته حيث بات التنظيم يبيع النفط الخام بأسعار زهيدة جدا كما أن المكوس الشرعية الجديدة على رفاق الأمس من المهربين وتجار الممنوعات وكل مجتمع اللادولة الذي عادة ينشأ في مناطق التوتر ساهمت في رفع اقتصاد «داعش» بنسب معقولة.

شرعية ناقصة

بعد إعلان الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) على لسان أبي محمد العدناني ولد شلال من الأسئلة الجديدة حول شرعية هذا الإعلان وأدلته وآثاره وكتبت عشرات المقالات وآلاف التغريدات في السجال على شرعية ذلك، لكن على الأرض والواقع حصل الانقسام الكبير داخل المجموعات العنفية التي تعمل على الأرض فالمبايعون كثر على الرغم من غياب تنظيمات كبرى مثل «جبهة النصرة» إلا أن حضور تنظيمات أخرى ساهم في تغلغل فكرة وحلم «داعش» في الخلافة في السياق على الأرض بين تلك الجماعات، من أبرز تلك الجماعات الموافقة جيش الصحابة في سوريا بل إن هناك من قام بالانضمام إلى «داعش» وإن كان محسوبا على «جبهة النصرة» كما هو الحال في منطقة البوكمال الحدودية التي صرح زعيمها لقناة «CNN» بأن التحالف مع «داعش» جاء لمصلحة شرعية وهي «وقف سفك الدماء وحماية إقليمنا وريفه من خطر الحروب».
طبيعة الخطاب المزدوج ما يقال للإعلام والأنظمة والعامة، وما يقال للأتباع «رأس المال الثقافي» جزء من تركيبة «الجذر الواحد» للتطرف، فالتوافق في أصول المسائل والموقف من الذات والآخر والدولة الحديثة والمرأة والفن وأسلوب الحياة والعيش وطبيعة المسائل التي تثار فور اكتساب أي أرضية أو موقع، البدء بهدم المعالم الثقافية باعتبارها رموز شركية فرض أسوأ الاختيارات المتشددة دينيا لتكون نمط عيش اجتماعي هو ما يجعل من «داعش» الحالة أخطر بكثير من «داعش» التنظيم.

مجتمعات «داعش»

ما قد يفاجئ القارئ غير المتتبع لجغرافيا الإرهاب اليوم، هو وجود كانتونات/ مجتمعات مغلقة متناثرة تعيش هذا النمط من العيش لحين الانتقال إلى أرض الأحلام دولة أمراء المؤمنين وجنة الخلافة الواعدة، هذا النوع موجود في ضواحي باريس كما هو في أبين وجنوب اليمن كما في القرن الأفريقي ودول القوقاز ويكاد يكون النمط المضاد للدولة الفاشلة في رقعة كبيرة من العالم الثالث (بالطبع لا يمكن إلقاء الضوء على هذه المناطق إعلاميا بسبب زحام أخبار القتل والدمار والثورات وانهيار الدول)، والسؤال: قبول هذا النمط واندماجه اجتماعيا وتحالفه مع العشائر ومع الخطابات الدينية الأخرى التي توصف بالمعتدلة يعني أن تحول إلى «حل بديل» لدى الطبقة المسحوقة في البلدان التي تقف على حافة الفشل، وأيضا تحول إلى خطاب «بديل» ومعارض في الدول المستقرة التي لا زالت مصدومة من رأس جبل الجليد الداعشي الذي لم يظهر إلا نزق بضع مئات من الانتحاريين الذين يعيشون عصابا جماعيا مدفوعا بغرور التفوق والانتشار والغطاء الإعلامي على الإنترنت، لكنه يخفي تحته فشل عقود من المواءمة بين خطاب ديني معتدل وحياة حديثة تتجه نحو التعقيد يوما بعد يوم.

اقتصاد «داعش»

في تقرير لمجلس العلاقات الدولية صدر مؤخرا أكد على أن بدايات الانتعاش الاقتصادي لتنظيم داعش كانت متأخرة في حدود 2013 قبل تحول الاستيلاء على الموصل الذي يعده الخبراء نقطة تحول اقتصادية كبرى ليست في مسيرة «داعش» فحسب، بل كل العمل المسلح في المنطقة، فـ«داعش» ما قبل الموصل كان يحصل على ما يقارب العشرة ملايين دولار شهريا عبر سرقة الأموال وفرض الضرائب على أصحاب العمل المحليين بل واقتطاع حصص من المساعدات الإنسانية في المناطق الخاضعة لسيطرتها في مقابل الإذن بالدخول، وهو سلوك لم يأت مصادفة بل من الواضح أن «داعش» وخلافا للتنظيمات الأخرى تطور من سلوكها الإداري على الأرض على طريقة العصابات أكثر من بناء برنامج عمل مستقى من التصورات الإسلاموية لشكل الدولة، وتتحدث التقارير باستفاضة حول ميزانية «داعش» بعد التحولات الجديدة بينما تجزم معظمها أن رأسمال التنظيم لا يقل عن ملياري دولار.
بداية، ركز البغدادي على السرية عبر خلايا صغيرة غير مترابطة بما يصعّب من اكتشافه، وكذلك على التمويل. كان أسلوبه يتمثل في فرض الخراج على سائقي الشاحنات، وتهديد أصحاب الأعمال بالتفجير في حال لم يستجيبوا، وكذلك بسرقة البنوك ومحلات المجوهرات.

ويتساءل الخبراء عن قدرة «داعش» على تطوير مصادرها المالية، فهناك موارد متعددة تأتي عادة من الضرائب والإتاوات التي فرضها في المناطق الخاضعة، ويؤكد الباحثون أن غياب أي سجلات محاسبية متاحة تثبت عدم تورط أي جهات اعتبارية كبرى لتمويل «داعش» كمنظمة.
وفي تقرير مهم نشرته «سي إن إن» كشف أهم محاور التمويل لـ«داعش» التي احتكمت إلى منظومة أخلاقية مفارقة للأسلوب التقليدي في التمويل الذي كانت «القاعدة» تتبعه في مراحلها السابقة وأبرز تلك المحاور التي طرحها التقرير:

المنح:أغلب المنح والتبرعات تأتي من شخصيات ثرية من مناطق مختلفة من العالم، ومع المراقبة الكثيفة من قبل عدد من الدول، إلا أن هناك طرائق عديدة لنقل الأموال عبر التحويلات الصغيرة والمباشرة من قبل منظمات وأثرياء طوروا من أساليب تعاملهم بما يناسب الإجراءات الأمنية الجديدة، كما أن إرسال الأموال من دول بعيدة وغير تقليدية وسيلة أخرى للتمويه على التحويلات القادمة من دول مجاورة.

النفط:من المعلوم أن شمال سوريا من المناطق النفطية التي تحت سيطرة «داعش»، فالمدن السورية في الشمال تتحكم الدولة في إنتاجها من النفط الخام وهناك العديد من الأخبار عن قيام النظام السوري بالشراء عبر وسطاء «داعش» التقليديين وهم تجار الأزمات والحروب عادة من قطاع الطرق والمنتفعين من مناطق التوتر وهي تجارة رائجة في الحدود الملتهبة منذ حرب الخليج الثانية.

المخدرات وغسل الأموال:تتوفر لدى الحركة قدرات هائلة في استخدام التقنية لصالح مشروعها، لذلك لا يستبعد التقرير قيام «داعش» بالتواصل مع منظمات المافيا العالمية والاستفادة من تجربتها المالية وهذه نقلة لم تكن تعرفها المجموعات الجهادية الصغيرة

بيع الكهرباء:أشار تقرير لصحيفة «نيويورك تايمز» أن «داعش» تبيع الكهرباء من محطات توليد الطاقة بالمدن التي استولت عليها بشمال سوريا لصالح حكومة الأسد، وهي تجربة سبق أن حدثت في العراق وجرى بيع الخدمات لجماعات أخرى تعمل على الأرض

الابتزاز:بعد سقوط الموصل وخروجها من سيطرة الحكومة العراقية عام 2013 قامت «داعش» بفرض نحو ثمانية ملايين دولار شهريا كطريقة للابتزاز النقدي ودفع ضريبة لصالحها من جانب الشركات المحلية، ومع استيلائها على مساحات واسعة من العراق تقوم بفرض مزيد من الضرائب على كافة المدن مما زاد من نسبة الأموال النقدية

الغنائم:الغنائم واحدة من أشهر الطرق التقليدية للثراء من الحرب والأزمات، لكن «داعش» أظهرت قدرات كبيرة في التحكم بالغنائم ونهب مناجم الذهب والبنوك المركزية والمؤسسات المالية، وهناك حديث عن ثروة عينية من الذهب فقط تقدر بـ430 مليون دولار.

التطور العسكري:الحالة الجديدة لـ«داعش» بعد الدخول في مشروع دولة الخلافة وسقوط أجزاء واسعة من العراق تحت سيطرته استلزمت تطورا على مستوى التجهيز العسكري، وتتوالى الأخبار والتقارير الصحافية المصورة من قبل التنظيم أو مستقلين، عن ابتهاج كبير في المجتمع الداعشي بعد ما أشيع عن حصوله على صاروخ سكود وتجول أتباع التنظيم في مهرجان احتفالي بذلك في شوارع الرقة السورية بمرافقة دبابات ومقاتلين ملثمين بالعشرات فيما يشبه العرض العسكري الاحتفالي

أمير المؤمنين.. سيرة مجهولة

لم يكن أمير المؤمنين المزعوم أبو بكر البغدادي شيئا مذكورا قبل أن تقوم الولايات المتحدة في عام 2013 برصد جائزة قدرها عشرة ملايين دولار، لمن يساهم في اغتيال وقتل أو اعتقال البغدادي، المكنى بـ«أبو دعاء» وهي ثاني أعلى جائزة ترصدها وزارة الخارجية الأميركية لرأس إرهابي بعد زعيم تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري.

صورة مأخوذة من شريط فيديو نشر 5 يوليو 2014 في وسائل الإعلام  يظهر لاول مرة زعيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) أبو بكر البغدادي خلال صلاة الجمعة في مسجد بالموصل. (غيتي)

صورة مأخوذة من شريط فيديو نشر 5 يوليو 2014 في وسائل الإعلام يظهر لاول مرة زعيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) أبو بكر البغدادي خلال صلاة الجمعة في مسجد بالموصل. (غيتي)

الشيخ أبو دعاء ويلقب بالشيخ الشبح لما يقال عنه من ارتدائه الوشاح حتى في لقاءاته الخاصة مع المقربين من العراق وتعود أصوله كما يزعم أتباعه إلى آل البيت وهي إضافة رمزية مهمة يجري استخدامها لاحقا في منافسة الظواهري ثم شرعية إعلان الخلافة، ولد الشيخ أبو دعاء عام 1971 في سامراء العراقية. كان يعمل في خدمة المساجد أثناء الغزو الأميركي بالدعوة وجمع الأموال والتدريس الشرعي والإفتاء بحكم أنه يحمل دكتوراه في الفقه الإسلامي اعتقل لاحقا في معسكر بوكا الأميركي جنوب العراق ونجا مجددا من محاولة اغتياله بغارة جوية عام 2005، ثم ظهر بعد صمت سنوات عبر صفوف «القاعدة» مقاتلا وموجها ومرشدا وهو ما كان كفيلا بتصعيده خلال خمس سنوات تقريبا ليتربع على عرش تنظيم الدولة الإسلامية في العراق 2010.

نجاحات متوقعة

إذن المسألة لم تعد ارتباكا سياسيا أو تقدير موقف خاطئا، هذا إهمال سيجرّ ويلات كبيرة على المنطقة رغم أن «داعش» ليست أعظمها وأخطرها، فالتنظيم بالنجاحات الباهرة التي سيحققها بإعلان الدولة على مستوى الاستقطاب والتمويل والدعاية المجانية وإيقاظ الحلم ليس فقط في دوائر المؤمنين بالعنف المسلح كطريقة للتغيير بل للقادمين من دهاليز سرّية بعد فشل دولة الإسلام السياسي.

خليفة للشام أيضا

«داعش» تلعب جيدا على مركزية الشام في الفكر الجهادي في الوقت نفسه الذي تلعب بإيقاع سياسي محترف يحاول استغلال الفراغ الأمني على طول الشريط الحدودي للعراق وسوريا ولبنان، فهو من جهة يشكل بديلا لتجربة «حزب الله» الدولة غير المعلنة وهنا يذكي الجانب الطائفي ويلعب على مسألة حدود الدولة القُطرية بهدف دغدغة مشاعر كوادر الإسلام السياسي وكل التنظيمات ذات التفكير الأممي من السلفية الحركية إلى حزب التحرير مرورا بشخصيات قد تصمت عن جرائم «داعش» في مقابل انتظار قفزاتها السياسية لاحقا نحو مركب «داعش» متى ما استقر لها الأمر وهو ما نجده في ثنايا تعليقات نجوم الدعاة المسيسين، حتى الآن لم تظهر أي شجاعة إلا من قبل الفقيه الأصولي المغربي أحمد الريسوني وهو مقدّر عند الإسلامويين والذي وإن استغل الحدث باعتباره تعبيرا عن فشل إيقاف الظلم تجاه الإسلاميين المعتدلين فإنه أكد أن إعلان الدولة المجهولة هو افتئات على المسلمين يجب ردعه ولو بالقتال.. ماذا عن بقية التيارات الدينية من المعتدلة إلى الرسمية إلى الحركية لا شيء تجاه «داعش» مع أن إعلان الخلافة هو أهم مسألة سيواجهها الخطاب الشرعي الآن، فإبطال هذه الدعوى يلزم منه سحب شرعية «داعش» والقبول بها يلزم منه وجوب الهجرة إلى دولة الخلافة وهو خيار يقترب من حدود الكوميديا في عالم اليوم المعقد بحيث لا يمكن تصور قدرة «داعش» على إدارة نفسها في حال بقاء الإهمال الدولي فضلا عن قدرتها على تحقيق حلم الخريطة السوداء التي باتت أيقونة الجدران والسيارات في الشام والعراق ومناطق أخرى.

مقتل الزرقاوي على يد القوات الأميركية في العراق، ساهم في تقلص دور «القاعدة» لحساب أدوار جديدة مفاجئة لم تكن مرصودة آنذاك

أمير المؤمنين بإعلانه دولة الخلافة أصاب تنظيم القاعدة وما تبقى من مجموعات قتالية وجهادية لا زالت تدين لـ«القاعدة» القديمة بقيادة الظواهري في مقتل، لذلك جاءت كلمات أبو محمد العدناني، المتحدث باسم «داعش» حول هذا الحدث الخطير معبرة ومفاجئة حيث وصف ما حدث بقوله «هذا وعد الله» مؤكدا أن الدولة الإسلامية تمتلك كل مقومات الخلافة ولا يوجد مانع أو عذر شرعي لعدم إقامتها! واللافت أن «القاعدة» ترى أنها هي المستهدف الأول بإعلان الدولة لأنه يعني قتال كل من خرج على إمام المسلمين وهو ما سيلقي بظلاله على كافة المتعاطفين مع هذا النوع من التطرف الذين خاطبهم العدناني بقوله: «صار واجبا على جميع المسلمين مبايعة ونصرة الخليفة حفظه الله وتبطل شرعية جميع الولايات والإمارات والتنظيمات التي يتمدد إليها سلطانه ويصل إليها جنده» وهو ما يعني حصر التجنيد والاستقطاب والتمويل لصالح «داعش»، بالطبع «النصرة» و«القاعدة» أكثر من أدرك مهزلة الخلافة الوهمية وهم من كان ينتقد اسم الدولة أصلا باعتبارها لا تعبر عن حقيقة «داعش».

الخلافة أم الشرعية

على الأرض لن يتغير شيء، فإعلان «داعش» للدولة هو أقرب إلى «حملة تسويقية» ذكية تعكس طموح التنظيم وزهوه بتقدمه العسكري، إلا أن إعلان الدولة أيضا ضرب عصفور العشائر الثائرة والفصائل السنية أيضا بدفعها إلى العمل تحت مظلة الدولة وبالتالي تدرك هذه العشائر أنها ستسحل من قبل المالكي في حال تخليها عن كنف «داعش» كما أن «داعش» تعلم أن المالكي وحتى الفصائل والميليشيات الشيعية المناصرة له تدرك أنه لا يمكن سحق «داعش» في العراق وسوريا متى ما اتسعت دائرة تحالفها مع أهل الأرض المضطهدين من السلطة المركزية.

شكل الدولة

حرصت «داعش» بعد مضي نحو أربعة أشهر على إعلان تأسيس التنظيم الجديد (الدولة الإسلامية في العراق والشام) بتأسيس مشروع الدولة على الأرض ولو بشكل رمزي عبر تحويل المدارس والفيلات والبيوت التي هجرها أهلها إلى مقرات وزارية ومحاكم ومدارس للتنظيم ومعسكرات تدريب وجمع أموال، وعلى الأرض فرضوا أنظمتهم الاجتماعية المتطرفة التي من شأنها دب الذعر في نفوس الأهالي، فانتشرت في المناطق المحررة مقرّات تحمل اسمَه ورايته، كما أقيمت الحواجز الجديدة داخل المدن والقرى وفي مداخلها وعلى الطرق الموصلة بينها.
بعد السيطرة على الأرض قام التنظيم بإظهار مخالبه القاسية التي طالت عددا كبيرا من الإعلاميين وناشطي الحراك المدني داخل المناطق المحررة، كما اعتقلت «داعش» المئات من الموظفين التابعين لمنظمات إغاثية

هيكلية «داعش»

واحدة من أكثر الملفات غموضا باستثناء كل الرمزيات والأيقونات الداعشية الطافحة في الإعلام ولأهداف أغلبها دعائي وتسويقي، هو ملف البناء الهيكلي والتنظيمي لـ«داعش»، وهو ملف غامض وصعب لتداخله بين شخصيات جهادية متطرفة مؤسسة للتنظيم وشخصيات فاعلة ومؤثرة قادمة من بقايا البعث والعشائر وضباط المخابرات والعملاء المزدوجين إلا أن الرسائل الصغيرة المتداولة في الأوساط الجهادية على الإنترنت تشير إلى عدد من الشخصيات الهامة التي اعترف بها أو أشار لها في الغالب، المتحولون من «داعش» إلى «القاعدة» أو الذين هجروا مناطق التوتر إيمانا منهم بأنها غطاء وهمي لعصابات وجماعات وكيانات مشبوهة.
من أشهر تلك التدوينات الرسالة التي ألفها أبو صفية اليمني، وسماها على طريقة «القاعدة» العنيفة حتى في الأسماء: «الانفجار في كشف وفضح الأسرار»، قنبلة أبو صفية طالت العناصر الأمنية في «داعش» وكان دافع كتابتها كما يقول أبو صفية هو قول كلمة حق أمام سلطان جائر يعني البغدادي وجماعته، فهو يؤكد أنه حين قام هو وأتباع من «القاعدة» بـ«المطالبة بحقوق الناس في بلاد الشام من تنظیم الدولة الإسلامیة في العراق والشام قام القوم بأخذنا واعتقالنا من خلال وضع تهم لنا لا نعرف أي شيء عنها».
ويشير أبو صفية إلى الأساليب القذرة التي تتبعها «داعش» والتي تشبه أساليب المخابرات السرية التي لا تمت بصلة إلى سلوك المجاهدين، كما يؤكد، حيث تقوم «داعش» بعملیات اختطاف واسعة للمطلوبين وتصفيتهم جسديا، وتبرير ذلك بقتل المصلحة.

أهم الشخصيات المؤثرة

البناء الأمني
1- أبو علي الأنباري وأبو محمد الأنصاري: الموكلان من قبل البغدادي كما يزعمان، وهما أعلى شخصيتين شرعيتين في تنظیم الدولة الإسلامیة في العراق والشام ويقومان بالقطع في أحكام الإعدام وغیرها من فتاوى التعذیب أثناء الاستجواب، وأخذ هذه الاعترافات على أنها مصدر اعتراف رسمي، يؤكد أبو صفية أن 98 في المائة من هذه الأحكام تكون حكما بالإعدام على الأشخاص الذین أُخذ منهم الاعتراف من خلال التعذیب.
2- أبو الأثیر الحلبي: وهو والي حلب السابق، وهو شاب يصفه أتباع «القاعدة» بالسلوك الطفولي وحبه للفتنة والاقتتال والتأليب، وكانت من أبرز مواقفه سجن الشیخ أبو عمر حسین رضا الكویتي تلمیذ الشیخ سليمان العلوان في سجون «داعش» ليس لأي تهمة سوى أنه اقترح على «داعش» خطة متكاملة في كیفیة الحفاظ على تنظیم دولة الإسلام في العراق والشام وذلك بتجنب الدخول في اقتتال مع باقي التنظيمات !
3- أبو مسلم المصري: وهو القاضي العام للتنظیم، وهو صاحب الأحكام الغريبة الصادرة عن دولة «داعش»، فهو لا يرى بتوبة المرتد أو الواقع في شبهة كفرية ويرجح عدم استتابته أو التفريق بين الردة المغلظة والمخففة كما يقول أبو صفية الذي يؤكد أن هذا النوع من الشخصيات الشرعية المتطرفة سبب تهور التنظيم في مسألة الدماء، ويرجع المتحولون من «داعش» سبب تصلب شخصية أبو مسلم المصري هو أنه قادم لـ«داعش» من تنظيمات قطبية حركية سياسية تغلب جانب المصلحة على الشرع محيلا إلى شهادة سجين سابق معه إبان فترة سجنه في مصر وهو الشيخ أبو شعيب المصري
4- أبو عبیدة المغربي: وهو رئیس الأمنیین للمخابرات العامة لتنظیم الدولة الإسلامیة في العراق والشام، ويصفه أبو صفية بأنه رجل قلیل الحدیث كثیر الحركة ذو نظرة باردة ترى من خلالها الموت البارد، وهو المتسبب في سجنه بشكل شخصي وقد لقيه عدة مرات وهو معتقل وطلب أبو صفية من معتقل آخر اسمه أبو عبيدة المغربي أن يشفع له لينظر في قضيته إلا أن رد أبو عبيدة جاء مفاجئا: نسیت قضیته؛ سأنظر فیها عن قریب.
5- أبو أحمد الحلبي رئیس مخابرات حلب: رجل یعرف بانتمائه لحزب البعث سابقا، وانطوى تحت تنظیم الدولة بعد ظهور الدولة بشهر من انشقاقها عن جبهة النصرة، ويؤكد أبو صفية أن أبو أحمد «كان قبل هذا ینتمي للدولة النصیریة، وقد كان مسجونا مع ابن أخيه نور حاووط وشاب آخر اسمه مجد مستوا وهم یعرفون تاریخه السابق، فهو ممن كان یعطي المعلومات للشبیحة عن مواقع المجاهدین والثوار، فكیف أصبح رئیس مخابرات حلب للدولة!
6- أبو حیدر شخصية غامضة يشاع أنه تم القبض عليه مع الجيش الحر إلا أنه بعد التحاقه بـ«داعش» اشتهر بالتحقيق مع المساجين والتخصص في تعذيبهم واستخراج الاعترافات منهم، وقد قتل على يده شاب كردي كما ينقل أبو صفية عن شهود عيان التقاهم.
7- أبو مریم العراقي: أحد أشهر محققي «داعش»، شخصية ذائعة الصيت لدى كل من فرّ من جحيم سجون «داعش»، يصفه أبو صفية بأنه «محقق قبیح اللسان وقد اتهم أحد قادة الجیش الحر بأن أخته تعینه على الدعارة! ويؤكد أنه ناقشه هو وأبو شعيب حول شرعية السجن كعقوبة وأنه لم يكن موجودا في العهد النبوي إلا أن رده كان لم يسجن الرسول ولكننا في «داعش» نسجن!
8- أبو محمد الفرنسي: شاب من أصول مغربية قادم من فرنسا يحتل منصب إدارة شؤون سجون داعش، يصفه أبو صفية بأنه ذو خلق، مستدلا على ذلك بأنه كان یعذب المساجین ویعلم الشباب طرق التعذیب حتى تحدث معه الشیخ أبو شعیب المصري في الأدلة المجیزة للفعل، وقد تحدثت معه ومع بعض الشباب سابقا ولكن لم یسمعوا لنا بالشكل الذي ینبغي حتى جاء الشیخ أبو شعیب المصري حفظه الله فكان سببا في العون لإنهاء كثیر من التعذیب الواقع على المساجین !!

سجون عامرة بالفزع

قصص تجربة السجن في جحيم «داعش» غير مسبوقة، حتى أنك وأنت تقرأها يخيل إليك أنك أمام فيلم رعب حقيقي، فالاعتقال يمتد لشهور وسنوات دون توجيه أي تهمة، كما أن طبيعة هذه السجون كما يصفها أبو صفية الذي كتب رسالته هذه مناصحا أمير المؤمنين «أما حالة السجون فهي عبارة عن مقابر جماعیة وفردیة، وحالة مزریة من الناحیة الصحیة». ويسترسل في وصف الحشرات والبراغيث ونكت المجاهدين عليها بل ويشير إلى بعض الشخصيات الشرعية في السجن ألفت قصائد على سبيل الترفيه لوصف حالة السجون الداعشية التعيسة التي تبدأ بلحظة الاعتقال وتنتهي بلحظة الفرار أو الإعدام.
التعذيب في سجون «داعش» كما تصف هذه الشهادة القاعدية «فهو تعذیب ممنهج مرتب له مسبقا من الناحیة الإداریة، والفتاوى ملقنة للشباب مسبقا للرد على من یعترض على فعلهم وعلى جواز الأمر شرعا؛ فیقولون: إن هناك حدیث أجاز فيه النبي صلى الله عليه وسلم ضرب السجین لأخذ المعلومات منه وهو قوله: «مسوه بشيء من العذاب»، أو كما یقولون. ثم ینسبونه للبخاري، كما أن التعذیب بالكهرباء أعجب ما رأیت، فهذا النوع من التعذیب یعمل حفرا في الجسد وهذا النوع من التعذیب الجسدي لم أره عند من كنت مسجونا عندهم مثل سجون بشار!

تجارب كيميائية

جرائم «داعش» في سجونها لا تقل عن جرائمها على الأرض فهناك العشرات من الشهادات حول استخدام «داعش» لتجارب كیمیائیة خطرة على أجساد المساجین من خلال مسؤول السجن نفسه أبو محمد الفرنسي، فقد جربوا مادتین على بعض المساجین ممن یقولون إنهم محكوم عليهم بالإعدام، وقد كان مفعول هاتین المادتین قويا على بعضهم، فقد أغمي على أحدهم مباشرة بعد شمه لهذه المواد، وآخر قامت المواد بتعطیل كلیتيه، وثالث قامت هذه المواد بحرق أنفه حتى أصبحت أرنبتهُ سوداء وحرق بلعومه وصدره، ویقومون كذلك برش الغاز الخانق لإسكات المساجین من حین لآخر، وهذا كاد یؤدي إلى موت بعضهم لقوة المادة التي یستخدمونها. ويضيف آخر: «كل من يكون تحت التعذیب وینطق اسم الجلالة كأن یقول: یا الله. أو یقول: اللهُ أكبر. فإنهم یزیدونه من أصناف العذاب! ويؤكد أن أتباع «داعش» یمنعون الناس من أخذ المصاحف في السجون الانفرادية، «وكانوا یمنعوننا في أول الأمر من الدعوة وتعلیم الناس في السجون من وراء الباب، ولكن حینما تحدثت مع من كان یحقق معي أذن لي بالحدیث مع المساجین من باب الدعوة فقط أي التجنيد للفكرة العنفية للمساجين من العوام»!

مستقبل داعش

اللحظة التي تعيشها «داعش» الآن هي لحظة زهو وسكر بكل تلك المنجزات السريعة التي ساهمت الأوضاع المتردية في العراق وسوريا إلى التسريع بوتيرتها، فتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام بلغ من التيه والفخر بمنجزه أن يقوم بتنفيذ إعدامات ميدانية ويرجم النساء ويتطرف في تطبيق شريعته المزعومة، لكن لم يقف عند ذلك بل الآن وطبقا لتقارير صحافية عديدة يستقطب كوادر من خارج منظومته الفكرية فيعلن عن وظائف بالغة الحساسية في قطاعات عسكرية ونفطية.
من جهة أخرى ينتشر التنظيم عبر مملكته المفضلة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي بشكل غير مسبوق حتى يصح عليه أنه ماض في شعاره (باقية وتتمدد)، ومؤخرا عززت «داعش» تمددها ليس العسكري وإنما الاجتماعي وعلى مستوى أسلوب الحياة، حين أعلنت مؤخرا عن تسيير رحلات «سياحية» لعناصرها والمدنيين بين شمال سوريا وغرب العراق، لتعريفهم على الأراضي التي يسيطر عليها وأعلن فيها إقامة «الخلافة» قبل نحو شهر.
ويستغل بعض الجهاديين هذه الرحلات، التي تحدث في حافلات ترفع رايات التنظيم السود، لقضاء شهر عسل مع زوجاتهن في محافظة الأنبار العراقية، بحسب ناشطين من مدينة الرقة، أبرز معاقل التنظيم في شمال سوريا.

حلم الخلافة

المسألة ليست في إعلان دولة الرايات السود المؤقت والتجريبي وإنما في بقاء الفكرة عالقة في الأذهان لدى قطاع واسع وعريض من المؤمنين بالخلافة، في إحدى المفاجآت التي يرويها رجل أعمال خليجي كبير استفتى أحد الدعاة الوسطيين من وجهة نظره حاله في ذلك حال كثير من الأثرياء الذين عادة ما يبتعدون عن الرموز الدينية التقليدية، سأله مداعبا عن «داعش»، فكر الشيخ بعدها نقدا لاذعا لـ«داعش» لأنها سلبت حلم الجميع إقامة خلافة على منهاج النبوة كما قال، الأمر ذاته يمكن اشتمامه دون عناء من كل بيانات وتغريدات إدانة «داعش» القادمة من فسطاط الإسلام السياسي، كلها عنيفها ومعتدلها لا ينقض الأفكار الأساسية لـ«داعش»، وإنما طريقة احتكاره لها وتطبيقه بدءا بسحل الخصوم وذبحهم بحد السكين وصولا إلى إقامة الحدود كيفما اتفق وصولا إلى كل تفاصيل دولة الخلافة المرعبة.

دولة عقائدية سوداء بات حلم الكثيرين حتى من منتقدي «داعش»، فهذا التمثيل العقائدي الآيديولوجي على أعلى مستوى لم يكن له إلا أن يوقظ أحلاما قديمة لدى قطاعات واسعة من كوادر الإسلام الحركي الحديث والذي يعد البذرة الأولى لإعادة مشروع الخلافة بعد سقوطها قبل أن تتلقفه التيارات الجهادية وحزب التحرير والمستقلون، لذا الابتهاج بمفهوم الخلافة المناوئ لمشروع الدولة الحديثة والمدمّر لسيادة الأوطان واستقلالها لم يقتصر على أنصار «داعش» والمتعاطفين معها، بل كان مطلب العديد منا للقيادات الإسلامية في أفغانستان والصومال وباكستان والخليج، والعراق ذاته وهو ما يعني أن داعش فقط التمثيل الأكثر سوءا في قائمة طويلة من مشاريع «الدولة» داخل الدولة التي تعيشها المنطقة، فمن السهل عند اختلال أي نظام سياسي أن تخرج هذه الخفافيش الحالمة من جحورها وتسيطر عبر مجموعات مسلحة سلفا من أيتام «القاعدة» فكريا، وتعلن فيها قيام دولة خلافة يقودها في ذلك مهارات واسعة في التقنية والدعاية والعمل المؤسسي الإغاثي وبخبرة واسعة في بث خطابات شعاراتية تصل إلى قلوب العامة بلا استئذان أو أي محاولة نقدية فطرية.

ظروف مشابهة

ما بعد الربيع العربي يمكن الحديث عن أكثر من خمسين مشروعا انفصاليا «دولة داخل الدولة» عبر عدد كبير من التيارات والأحزاب والمنظمات والميليشيات التي تعمل في رقعة كبيرة على امتداد العالم الإسلامي طولا وعرضا إضافة إلى خلايا أخرى في أوروبا وأميركا، تعيش الخلافة ذهنيا وتعد ما استطاعت من قوة لإرهاب أعداء الله في اللحظة المناسبة، وسيكون مصير هذه المجموعات الصغيرة في قادم الأيام حسم أمرها بالانخراط والذوبان في كيان أكبر، أو انتظار لحظة تاريخية لتقليد «داعش» بالانقضاض على واقع الدول الهشة المهددة بالفقر والانهيار الاقتصادي والاقتتال الأهلي.
يعكر صفو هذه المنظمات إزعاج الغرب والولايات المتحدة وإخراجها من صمتها وارتباكها إلى حيز الفعل وذلك متى ما شكلت تهديدا خطرا على مصالحها الإقليمية وهو ما تقرأه «داعش» بذكاء أكبر و«القاعدة» بدرجة أقل، فاستحدثت نقلة مفاهيمية جديدة منذ تحولها إلى العالمية، وهي أولوية قتال العدو القريب (الأنظمة والدول العربية) بما تحمله من مؤسسات ومجتمعات ووحدة وطنية أو ما تبقى منها.

الاحتراب الإقليمي في حال إهمال هذه المجموعات سيتطور، وستتدخل دول وكيانات أكبر في القتال والاصطفاف مع هذه المجموعة أو تلك، وإذا كان أهل «داعش» ينعتون أحزابا كحزب الله بـ«داحس» على سبيل التندر، فإن ولادة كيانات شيعية مشابهة تخضع لذات الظروف والمناخات السياسية التي أنتجت دولة الرايات السود، وهو ما يعني أن تكرار ذات التجربة في نسق شيعي مغاير غير مستبعد إذا ما أدركنا في الأساس أن ثمة تشابها كبيرا في ولادة الحركية السنية والشيعية من حيث طرائق التجنيد والانتشار والتأسيس الفكري لكن في خط معاكس.

ما تفعله «داعش» أن الخلافة ليست مجرد شعار، فمفهوم الدولة بما تحمله من عبء كبير ومسؤوليات في غاية التعقيد لا يحيل إلى الاستدعاء الديني المثالي لإعلان الخلافة بل يطرح أسئلة الواقع كيف يمكن لمجموعة من البشر مهما أخلصوا لفكرتهم أن يعيشوا بمعزل عن العالم مهما حاولوا الاندماج عبر التحركات غير الشرعية وغسل الأموال والضرائب والجباية وطرد الأقليات المسيحية فإن تغيرا بسيطا في المعادلة على الأرض كفيل بنسف أحلام الخلافة وتحويلها إلى أضغاث تأخذ مكانها الضيق في جسد تاريخنا المثقل بالجراحات.