آخر تحديث :الجمعة-19 أبريل 2024-08:35ص

ملفات وتحقيقات


المباني القديمة في عدن : توافق وتجانس بين البيئة والإنسان

السبت - 13 ديسمبر 2014 - 12:36 م بتوقيت عدن

المباني القديمة في عدن : توافق وتجانس بين البيئة والإنسان
مباني عدن القديمة

عدن ((عدن الغد)) الجمهورية نت:

  استطلاع : فضل حبيشي

 

يُعتبر البحر والطقس الحار من أهم عوامل وأشكال البيئة في مدينة عدن ، فقد فرض هذان العاملان نمط حياة المجتمع المتمثل بنشاطه الاقتصادي ونوع العلاقات الاجتماعية بين أفراده وشرائحه وكذلك طبيعة البناء والإعمار على أرضه .

وإذا كانت المدن والمناطق والبلدان ـ كما يقال ـ من توظيف مساحاتها وتصاميم مبانيها وألوانها وأشكال عمرانها ، فإن مباني ومساكن عدن القديمة ماهي إلاّ نماذج ماثلة وحقيقية لعلاقة البيئة بالحياة الاجتماعية ومختلف مظاهرها وصورها .

وفي هذا السياق نحاول فقط في هذا الاستطلاع ، قراءة أثر البيئة في مدينة عدن على مجتمعها وأشكال وأنماط مبانيها ومظاهرها العمرانية وملامحها القديمة التي مازالت قائمة وتحافظ على نكهتها الخاصة حتى يومنا هذا .

       

تأثيرات الجغرافيا والمناخ

 لاشك أن العناق الأبدي القائم بين مياه بحر عدن وجبالها وسهولها كان له أكبرالأثر في اتجاه معظم النشاط الاقتصادي إلى الصيد والتجارة ، كما أضفى المناخ بقسوته وشدة حرارته ملامح واضحة ورسم بصمات ظاهرة في عدد من مظاهر الحياة لعل أهم أمثلتها مابرز في العمران شكلاً ونمط بناء .

وقد أثّرت عناصر المناخ ومن أهمها حرارة الجو وسخونته تأثيراً واضحاً وكبيراً على العمران في أنحاء عدن .. فدرجات الحرارة في هذه المدينة الساحلية القريبة من خط الاستواء ترتفع معظم أشهر السنة ،  وصيفها يمتد للفترة من منتصف إبريل إلى نهاية أكتوبر تقريباً ، فتتحول خلالها الأجواء إلى لهيب خاصة في أوقات النهايات العظمى اليومية لدرجة الحرارة حتى وإن هبت بعض نسمات الكتل الهوائية القادمة من سطوح البحر فإنها تساهم في تلطيف الأجواء بشكل محدود بسبب اقترانها بنسبة من الرطوبة غير قليلة .

أما شتاء عدن المعتدل الحرارة بوجه عام ، يكون لطيفاً طيلة الفصل ، غير أن نهار أيامه قصيرة ، وعدد أشهره قليلة إذ تمتد فترته من أوائل نوفمبرحتى منتصف مارس أو نهايته تقريباً .. وفيما يتعلق بفصلي الربيع والخريف من كل عام فلا أحد يلاحظ وجودهما ، بل نستطيع القول إنهما غائبان تماماً وليس لهما تواجد في سجل فصول السنة في عدن .

بالنسبة للزوابع الرملية فإن مدينة عدن وضواحيها تتعرض لهبوب زوابع حاملة ذرات الرمال والغبار تسمى محلياً (الغوبة) وذلك مرات عديدة وعلى فترات متقطعة في صيف كل عام ونادراً في الشتاء .. ويكون تركيزها في نواحي دار سعد والشيخ عثمان والمنصورة والمناطق المفتوحة ناحية الجهة القبلية التي تخلو منها الجبال ، وتبدأ هذه (الغوبة) المحملة بالرمال والغبار عادة بهواء حار ، وتعتمد كميتها وسرعتها أثناء هبوبها على مدى عمق المنخفضات الجوية التي يعتقد أنها ناتجة عنها .

أما المطر الذي يعتبر العنصر الثالث من عناصر المناخ فليس له تأثير واضح أو بصمات تذكر على نوعية العمران القديم في عدن بحكم تميزها بقلة الأمطار وتذبذبها ، كما أن هذه الأمطار إذا هطلت لا تصاحبها العواصف الرعدية إلّا فيما ندر .

      

مكونات ومميزات البناء

المسكن أو البيت العدني القديم يتألف عادة من طابق واحد أرضي أو طابقين ، وفي أغلب الأحيان تأخذ البيوت المتراصة والمترابطة أفقياً شكل السلسلة المتساوية حلقاتها وأحجامها وهي مربعة أو مستطيلة الشكل ، وبين بيت وآخر من هذه البيوت جدار واحد مشترك جميعها مبنية من الأحجار الصخرية الصغيرة وذات طراز متطابق وأحجام ومساحات تبدو للناظر متساوية ولها أشكال واحدة ولايوجد على جدرانها الخارجية ألوان طلاء مع الأخذ بعين الاعتبار ما أدخل عليها من تعديلات وزيادات نتيجة ارتفاع عدد ساكني البيت الواحد القديم ووفقاً لتطورات الزمن .

ويتكون البيت الواحد من غرفة أو غرفتين اضافة إلى صالة (دارة) وحمام ومطبخ صغيرين .. وقد تتعدد غرف البيت الواحد المستقل عن السلسلة التي ذكرناها آنفاً ويزيد عددها بحيث تتجاوز الغرفتين وكذا تتعدد طوابقه لكن ذلك يعتمد بدرجة أساسية على مستوى ايرادات أصحابه ومصادر دخلهم ومراكزهم الاجتماعية .. لكن المعروف عموماً أن اغلبية البيوت العدنية القديمة الصغيرة وغرفها ليست واسعة حتى لبعض ميسوري الحال إلّا القليل ، وجدير بالإشارة إلى أن هناك مبان ضخمة كقصر السلطان في منطقة كريتر وبعض المدارس والدوائر الحكومية والمشارب والمطاعم والمستشفيات والمساجد الفنادق الواسعة المساحة في أنحاء المدينة والتي تتناسب تصاميمها أيضاً مع المناخ العام السائد في عدن .           

في كثير من البيوت توجد أسطح ، لها أسوار أو جدران قصيرة تسمى بـ (الريل) بعضها تحتوي على غرفة صغيرة ملحقة بالسقف،  وتستخدم لأغراض شتى مثل نشر ثياب الغسيل ومواضع للأدوات التالفة أو غير المستخدمة .. كذلك تستخدم ليلاً للنوم سعياً وراء الهواء الطلق وهروباً من حرارة الجو في الداخل .. علماً أن هذه السقوف كانت تبنى من جذوع الأشجار أو الأخشاب المستوردة من بلدان أخرى كالهند .

أما بالنسبة للبيوت الطينية التي تركز بناؤها في مناطق دار سعد والشيخ عثمان بصورة خاصة فلا تختلف كثيراً من ناحية الشكل والمحتوى عن البيوت الحجرية لكنها غالباً منفردة وغير متلاصقة ، وتوجد في جدرانها من الداخل تجاويف تستخدم كمواضع للتحف والأدوات التقليدية الخاصة بالزينة أو بقصد الإنتفاع .

وفيما يخص البيوت الشعبية للشرائح الفقيرة المعدمة والتي تشكل الفئات المهمشة جزءاً كبيراً منها كانت ولا زالت أغلب بيوتهم مبنية من الصفيح والألواح الخشبية ، ولا يمنحون تراخيص إدخال الكهرباء للإنارة أوعدادات المياه الحكومية إلا إذا كان الجزء الأكبر من البيت مبني من الإسمنت والأحجارأوالبلوك (البردين) ، ولديه بيارة مجاري خاصة به ومتصلة بمجرى عام يرتبط بمجاري جيرانه .

وفيما يتعلق بنوافذ البيوت وبلكونات طوابق الدور الثاني فإنها مصنوعة من الأخشاب والألواح بشكل (شرائر) صغيرة وطويلة متراكبة على بعضها البعض بأشكال هندسية جذابة تتخللها ثقوب تسمح بمرور الهواء وتمنع نظرات الفضوليين .

أما الأبواب فلكل بيت بابان خشبيان عند المخرج تفصل بينهما سنتميترات فقط ، باب الجهة الخارجية يتكون كذلك من قطعة أو قطعتين طوليتين ويأخذ نفس شكل النوافذ والبلكونات وذلك لاستخدامه للتهوية والضوء أيضاً حين يكون الباب الداخلي مفتوحاً خاصة في النهار ووقت الحر القائض .

وإذا تحدثنا عن دورات المياه ( الحمامات) في المساكن القديمة فهي عبارة عن غرف صغيرة جداً لا تزيد مساحة الواحدة منها عن مترـ مترين تزود بالمياه إما بواسطة الشبكات الحكومية أو بواسطة (الوراد) وهو العامل المتخصص بجلب المياه على كتفيه أو بعربات تجرها البغال والحمير والجمال .. وجدير بالإشارة إلى أنه لم يكن لنظام الصرف الصحي العام وجود كما هو معمول به حالياً .. فقد كانت المخلفات تصرف بطريقة يدوية بدائية بواسطة مايسمى بـ (الخادم) أو (الجبرتي) وهو عنصر من أفراد الشريحة المهمشة اجتماعياً ، والتي كانت وما زالت مهامها تتركز على أعمال النظافة ، وهي أعمال تتأفف منها باقي شرائح المجتمع باعتبارها أعمالاً منفّرة .

  

امكانيات البيئة أساس الإعمار

استفاد أهالي عدن من الامكانات المتوفرة في بيئتهم والبيئات القريبة أوالمحيطة من المواد الخام في مجال البناء والتعمير .. فاستخدموا الرمال وضخور الجبال التي تزخربها مدينتهم وضواحيها واستخدموا كذلك الطين المتواجد في مناطق الأودية الجارية القريبة الواقعة في منطقة لحج والتي تصلها سيارة النقل وتقطع الطريق إليها في أقل من ساعة ولا تبعد إلا عشرات الكيلو مترات.

وفيما يخص استخدامات الأخشاب ولوازم البناء والأدوات الأخرى فقد جلبوها من الهند وشرق آسيا وبريطانيا ودول عديدة أخرى عبر الميناء ، حيث اتخم المستوردون الأسواق بهذه المواد لتغطية حاجة عدن وحاجة المناطق من حولها الشرقية والشمالية سواء القريبة أو البعيدة .

      

ماذا عن البريقة ؟

اختلفت منطقة البريقة في بنيانها نوعاً ما عن التواهي والمعلا وكريتروالشيخ عثمان وخور مكسر والمنصورة ، واتصفت بمواصفات منفردة ووضع خاص .. فقد أقام الصيادون منذ زمن بعيد في منطقة البريقة الساحلية أكواخاً خشبية على شريط شواطئها للإقامة الدائمة مع عائلاتهم ليكونوا قريبين من قواربهم ومصدر قوتهم في ذات الوقت الذي كانت فيها هذه المنطقة تكاد تخلو من العمران الحديث .. إلّا أن نهضة عمرانية نشأت في أوائل الخمسينات من القرن الماضي مع نشوء مصفاة النفط التي اقيمت وأنشأ القائمون عليها مبان سكنية خاصة بخبراء المصافي الانجليز وعائلاتهم وكذلك العاملين المحليين وعائلاتهم .. وتمتاز هذه المساكن بتصاميم وطرازات ذات طابع غربي حديث تشمل كل وسائل الراحة والترفيه المتوفرة حينها ، وامتازت شوارعها ومتنزهاتها وحدائقها بالأناقة والجمال الأوروبي .

 

تقليصاً للنفقات وبحثاً عن الظل والهواء

نتج عن بناء البيوت التقليدية المتلاصقة نشوء بعض الشوارع والحارات الضيقة التي لايكاد العديد منها يتسع حتى لمرور السيارات الصغيرة .. وكان الهدف من ذلك التضييق المتعمد هوتقليل نفقات وتكاليف خدمات البنى التحتية من مجاري وشبكات المياه والكهرباء والطرقات وخلافه .. ومحاولة معالجة ظاهرة الحرارة الشديدة عن طريق توفير الظل في الشوارع بتضييق المساحات بين المباني لتخفيف حدة أشعة الشمس اللاهبة وحصر اتساع رقعتها خاصة في فصل الصيف .. لكن هذا الاتجاه لم يمنع انشاء شبكة من طرق السيارات في الحارات والأحياء والشوارع تتوافق والحاجة لتوفرها .

أما الذين لا يوجد في بيوتهم تيار كهربائي فقد استعملوا المراوح اليدوية المصنوعة من سعف النخيل ومن ورق الكرتون ، وعملوا على كشف سقوف صالات بيوتهم (الدارة) من أجل تلطيف حرارة الجو والسماح لنسمات الهواء المنعش بالزيارة والمرور .

     

متنفسات وحدائق ونوادي

 

حرص المصممون والمخططون على ايجاد حدائق ومتنفسات للسكان على مختلف أعمارهم في كل المناطق السكنية تقريباً أو قريباً منها وذلك لقضاء اجازاتهم وتمضية أوقات فراغهم للتنزه والراحة والتسلية ، كما حرصوا على انشاء النوادي المختلفة التي اهتمت بالأنشطة الرياضية والثقافية ، ولعبت دوراً هاماً في توثيق عرى العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع وإظهار ابداعاتهم ومشاركاتهم في سائر الأنشطة في الخارج والداخل .

      

تعايش وتجانس

يتضح جلياً من خلال تلك القراءة ومما سبق استعراضه أن المنازل القديمة صممت أساساً لمواجهة حرارة الصيف والتحايل على المعطيات المناخية الصعبة .. ويستخلص من ذلك أن الناس رغم اختلاف مشاربهم وبيئاتهم التي جاءوا منها قد تفاعلوا مع الظروف المشتركة لبيئتهم الجديدة في مجال بناء مساكنهم ، فجاءت انماط البناء كنوع من التكيف البيئي والتحايل البشري الذي افرز صورة من التعايش والتجانس بين البيئة والانسان في عدن  .