آخر تحديث :الجمعة-29 مارس 2024-11:23ص

أخبار المحافظات


عشت حميداً فنم قريراَ إن شاء الله .. سطور في الفقيد الشيخ علي الجفيلة ـ رحمه الله

الإثنين - 22 ديسمبر 2014 - 01:14 م بتوقيت عدن

عشت حميداً فنم قريراَ إن شاء الله .. سطور في الفقيد الشيخ علي الجفيلة ـ رحمه الله

كتب / عبدالعزيز بن سعيد بن عيلي الكثيري

كعادتهم كل يوم كان العشرات في استراحة الزوار ينتظرون خبراً مفرحاً عن صحة الشيخ فأتى المُخبر بالخبر: الشيخ مات، أصبح الكل ما بين سائل ومجيب الشيخ مات؟؟ نعم الشيخ مات ، ما إن انتشر الخبر إلا وتوافد المئات على بوابة العناية المركزة في المستشفى من هول الصدمة وعظم الفاجعة لا يدرون لماذا جاؤوا !! وما عساهم أن يفعلوا !! لم يغادر أحد منهم المستشفى حتى أُخرج الشيخ مسجى على السرير المتنقل من العناية المركزة سار الجميع خلفه حتى أُدخل ثلاجة الموتى مشاهد لا يمكن نسيانها ، الشيخ مات وبموته عبرة لمن اعتبر وعظة لمن اتعظ .

 الشيخ مات عبارة ما خلتها             إلا كصاعقة على الوجدان

   الشيخ مات أما لديك عبارة             أخرى تعيد بها اتزان جناني

                   قلي بربك أي شيء ربمـــا             أنقذتني من هذه الأشجان

                   أنسيت أن الموت  حق واقع           ونهاية كتبت على الانسان

الشيخ مات صدقت إني مؤمن         بالله مجبول على الإذعان

                   الشيخ مات عليه أندى رحمة           وأجل مغفرة من الرحمان

ذكرني رحيله رحمه الله برحيل العلماء والعظماء والقادة الكبار والشيخ رحمه الله واحد منهم؛ لم يؤذن لصلاة العصر يوم دفنه إلا والجامع قد اكتظ بالمصلين وآخرون وقوفٌ على أبوابه وآخرون يفترشون الساحات المحيطة بالجامع ، أُغلقت الشوارع تعطلت حركة المرور، بحسب القائمين على مقبرة جنوب الرياض لم تشهد المقبرة جنازة مثلها حتى أن الطريق الرئيسي المؤدي إلى المقبرة أصبح موقفا للسيارات من كثرتها وتكدسها ، كثير من المشيعين اضطر لإيقاف سيارته خارج المقبرة والمشي على أقدامه مسافة تقارب ثلاثة كيلو مترا، بعضهم لم يصل للمقبرة إلا بعد الفراغ من الدفن وبعضهم لم يتمكن من الوصول بتاتاً ، ما من شك لديّ أن معظم تلك الوفود والجموع لم تلتقِ بالشيخ يوماً ما، ولم تعرفه عن قرب ولم تكن صفحات الجرائد تخبرهم بأخباره، ولم تكن أعماله تتناقلها شبكات التواصل الاجتماعي ، ولكنه القبول والمحبة ــ نحسبه كذلك ــ إذا كتبها الله لعبد أظهرها على عباده ولو بعد حين ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا)، كنت واقفاً عند جثمان الشيخ بعد تغسيله وكانت الجموع تدخل لتسلم عليه وتلقي عليه نظرة الوداع وإذ بشخص يتسأل بعد تقبيل جبين الشيخ: هذا الشيخ علي الجفيلة ؟ وتبدو على ملامحه التعجب والاستفسار!! فأُجيب بنعم، علمت بعدها أن هذا الشخص لا يعرف الشيخ ولم يقابله وإنما كان للشيخ مع أحد قرابته قصة من قصص المعروف ، تيقنت حينها أن تلك الدمعات التي سالت والزفرات التي خرجت والأحزان التي بدت على الجموع المشيعة لم تخرج عبثاً وإنما تخفي ورائها قصة أو موقفاً مع الشيخ رحمه الله لقد عاش الشيخ رحمه الله خفياً وهي منقبة يصطفيها الله لمن شاء من عباده.

                     فالناس كلهم لفقـــــدك واجد        في كل بيت رنة وزفيــر

                    عجباً لأربع أذرع في خمسة        في جوفها جبل أشم كبير

 

إن من الوفاء للشيخ اليوم وقد فاضت روحه إلى بارئها أن نتذكر مواقفه ومآثره حتى نستلهم منها العبر وحتى تبقى الألسن تلهج بالدعاء له بالرحمة والمغفرة ، لقد عاش رحمه الله وهو ينظر للأمانة التي تحملها والمسؤولية التي تقلدها مغرماً في الوقت الذي يراها الآخرون مغنما، يراها تكليفا وينظر إليها الآخرون تشريفاً فقد كانت أخباره ومواقفه تحكي قصصاً من الصبر والهمة والعزيمة والمواساة والبر والتضحية رحمه الله رحمة واسعة، فيما مضى من الأيام تحدثت لمن رأيت عن بعض مواقف الشيخ رحمه الله فطُلب مني تسجيلها وها أنا في هذه السطور أسجلها كأقل الواجب الذي يمكن أن أقدمه لفقيدنا رحمه الله.

 

(1)

كان رحمه الله لا ينتظر من يطرق بابه لحاجة أو ضائقة بل يبادر من تلقاء نفسه ، امرأة وبناتها لقيت من زوجها شتى صنوف التنكيل والإيذاء حتى أنه أسكنهن في بيت لا يصلح للسكن توفيت المرأة ، وما أن علم الشيخ بأمرها وأمر بناتها إلا وسارع باستئجار بيت للبنات وأوصى من يقوم بشؤونهن، شاب آخر اعتدى عليه رجل بسكين في متجره دافع الشاب عن نفسه فدفع المعتدي حتى سقط المعتدي على سكينه فجرح عرقا فنزف حتى الموت أُودع الشاب السجن لم يجد من يترافع عنه حوكم وصدر عليه حكم بالقصاص لم يكن لهذا الشاب إلا زوجة وطفلة ووالدان كسيران علم الشيخ بخبره فبادر من تلقاء نفسه وزار الشاب في محبسه وأخذ منه وكالة لمتابعة قضيته والاستئناف على الحكم.

                        اليوم أشعر بالمصائب جمعت      والنفس تغرق في دجى الظلمات

                        ياقلب حســبك حسرة وتخاذلا      فاصمد على المكروه والعقـــبات

 

(2)

كان قدوة في العفو والصفح وقد ضرب مثالا مشرفاً في ذلك فحينما أوذي باتهام هو منه براء بسبب سيره في قضاء حاجات الناس ولمّا صدر حكم من المحكمة ببراءته مما اتُهم به أشار عليه محبوه بمقاضاة المتسببين وتأديبهم ورد الاعتبار إلا أن الشيخ لم يكن من خلقه الثأر لنفسه وكأني به متمثلاً لقول الامام ابن حزم رحمه الله : (من تصدى للناس في حاجاتهم فعليه ان يتصدق بعرضه فلا محالة انه مشتوم ) رحل من الدنيا وهو يدرك أنها لا تساوي أن يُقال فيها مات فلان ، وفلان يجد في نفسه على الجفيلة شيئا فعفى وصفح، رحل منها وهو لا ينتظر اعتذاراً أو إنصافاً من البشر فرغب في إعذار رب البشر .

رحل الصباح وتفجرت شمس الجراح

والحب راح فارحل هنيئا ضاحكا مستبشرا

واذهب سعيدا ولتدع لقلوبنا النواح

 

(3)

توفير الوظائف لمئات الشباب سواء في القطاع العام أو الخاص والتي كانت ديدن الشيخ وشغله الشاغل ربما يظنه البعض أنه أمراً عاديا، لكن لكم أن تتخيلوا مشاعر تلك المرأة المسنة العجوز التي لم يكن لها من بين أبنائها المعاقين إلا واحداً معافى صحيحاً وقد كانت تأكل وأبنائها من الصدقة وتعالجهم من الصدقة اتصلت تلك المرأة ذات يوم علي الشيخ تدعو له وهي تجهش بالبكاء وأخبرته أنها ومنذ سنة ومن حين حصول ابنها الوحيد المعافى على فرصة عمل استغنت عن الناس وقد كان الشيخ رحمه الله بعد مشيئة الله سبباً في توفير هذه الفرصة ، وشاب آخر رأيته في المستشفى يجهش بالبكاء كالطفل الصغير حزناً على فراق الشيخ كان يقسم لمن حوله لولا أن ساق الله لي الشيخ وانتشلني مما كنت فيه لكنت في طريق الغواية ، كما أن لكم أن تتخيلوا كم كان الزواج بالنسبة للشباب العاطل حلما بعيد المنال وبفضل الله وحده ثم بما ساقه على يد الشيخ من توفير الوظائف تمكن المئات من الشباب من الزواج .

 

(4)

لم يكن معروف الشيخ وبذله قاصر على عشيرته وقبيلته بل يبذل ما يستطيع لمن كان، حادثة لم يكن لأحد أن ينساها عائلة قادمة من حضرموت  لأداء العمرة بسيارتها الخاصة من منفذ الوديعة ووقع عليها حادث أليم توفي بعضهم والبعض الآخر مصاب لم يكن لهذه العائلة أقارب أو معارف في المملكة حالتهم يرثى لها نساء وأطفال ذويهم خارج الحدود ليس بيدهم حيلة ولا يستطيعون سبيلاً لدخول المملكة علم الشيخ رحمه الله  لم يهنأ ولم يهدأ له بال وهو يرى تلك العائلة على هذه الحال المأساوية في ظرف ثمان وأربعين ساعة وبوجاهته وكفالته استطاع الحصول على إذن رسمي لذويهم بدخول المملكة لدفن موتاهم ومعالجة مصابيهم ، والحديث عن مواقف الشيخ مع المرضى لا تحصر وممن أعرف شخصيا ثلاثة مرضى ساهم الشيخ بتوفير علاجا لأمراضهم المزمنة تبلغ قيمتها شهريا آلاف الريالات.

              أين الذي مذ لم يزل مخشيـــــة      مرجوة رهباته وهباتـــــه

              أين الذي كانت له طاعــــــــتنا      مبذولة ولربه طاعاتــــــه

              لا تحسبوه ممات شخص واحد      فممات كل العالمين مماته

 

(5)

لم تكن مجالس الصلح والاحتكام عند الشيخ رحمه الله خاصة بالجوانب القبلية مثل عامة مشايخ القبائل، بل إنه رحمه كان يبذل جاهه لحل الخصومات الشخصية والتجارية بل والعائلية، بل إنه في مواقف كثيرة وصلت الخصومات للجهات الأمنية والقضائية وسعى جاهداً للصلح بين الأطراف وسحب القضية برمتها من الجهات المعنية ، ولو لا أن تلك المواقف تتسم بالخصوصية لعرضت شيئا منها.

 

(6)

كان رحمه الله قريب من الناس في أفراحهم وأتراحهم، فلا أبالغ إن قلت قد يمر عليه أحياناً الاسبوع الواحد وهو متجول بين جنوب المملكة ووسطها وشرقها قاطع بسيارته آلاف الكيلو مترات من أجل تلبية دعوة فرح أو مشاركة في دفن ميت أو تقديم واجب عزاء أو تفريج كربة.

 

(7)

ومع مسؤوليات الشيخ العامة وكثرة زوّاره ورواده إلا أن جميع ذلك لم يشغله عن بره بوالدته ، تلك الوالدة التي لم تُرزق في دنياها ابنا سوى الشيخ فكان رحمه الله كل حياتها ، في رحلاته الطويلة لمدينة الرياض كان دائماً ما يصطحبها معه ليكون قريبا منها ، قضى الشيخ مع والدته آخر أيامه في الرياض لعلاج والدته من مرض أصابها لم يتخلف رحمه الله عن مرافقتها أثناء العملية الجراحية ولا أثناء الجرعات العلاجية أو حتى المراجعات العادية ، وبحمد الله  تعالى قُرّت عينيه رحمه الله قبل موته برؤية والدته وهي تتماثل للشفاء وتُرد لها عافيتها ، ومن يدري فلعل الله اطلع على رضاها عن ابنها فرضي عنه وأرضى عنه الناس أحسب أن أم علي كانت أوسع باب ولج منه رحمه الله إلى قلوب الناس ؛ صبّرها الله وأعانها على فراق وحيدها وجمعها به في جنات النعيم.

 

(8)

قضى الله وقدر؛ ومما قدر أنه لم يمد في عمر شيخنا كثيراً فحكمته سبحانه بالغة وقضاؤه لا يرد ،فقد توفي الشيخ وعمره خمسين سنة ونيفا ملأها بالذكر الحسن وبذل المعروف ومن يسمع سيرته ليظن أنه قد بلغ من العمر السبعين أو الثمانين ولكنها البركة والتوفيق في العمر ، آملنا كبير في أبناءه أن يحذو حذو والدهم ، ولقد كان وفاءً من آل كثير حينما اختاروا الشيخ عبدالله الجفيلة خلفاً لوالده ، فلئن قبض الله روح والده فقد سخره الله لكي يكون لوالده صدقة جارية وامتدادا لعمله الصالح يكمل مسيرة والده وينتهج نهجه فيكتب الله لوالده أجره.

 

وإنها لأمانة عظيمة ومسؤولية كبيرة تقلدها الشيخ عبدالله الجفيلة هو عليها محاسب ومسؤول ، ولثقلها وعظيم أمرها لم يكن لمثلي أن يفرح لأخيه بها؛ ولكن ثقتي بأنه أهل لها وكفؤ لتحملها وثقتي بالله أكبر بأن الله موفقه ومعينه قال صلى الله عليه وسلم : ( يا عبدالرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها).

 

ما كتبه وما سطرته شذرات ذهب وعناقيد لؤلؤ هي غيض من فيض لم يكن لمثلي ممن هو مُقل في مجالسة الفقيد رحمه الله أن يأتي على جميعها، لكنه جهد المقل وواجب المقصر تذكرة للغافل وسلوان للواجد ودعوات للراحل.

سقى الله قبرا في الرياض محله

مزنَ السماءِ تصبُ فوق ثراه

فقدتُكَ يا عليُ وكان دوما

يقرُ بعينيْ حيـــتن كنتُ أراه

بكاك الناس حين رحلت عنا

وما لُــمْتُ  العشــية من بكاه

بكاه العز والخُلقُ المُعلَّى

وقد قلتُ لولا الصبر واأسفاه

يبكيه بالدمع الغزير أحبه

رماهم في الفجيعة ما رماه

 

نعم أمثال الشيخ في وطننا من أهل الخير والعطاء والبذل كثير إلا أن في الفقيد ما يميزه عن غيره الكثير، الخفاء في البذل ، بذل الخير لمن يعرف ولمن لا يعرف ، معروفه ليس قاصرا على من يطرق بابه ،عبر وعظات تقودنا لأن نقول موعدنا يوم الجنائز، لقد أظهر الله بموتك يا شيخنا حياتك وكشف صفاءك وأبان نقاءك فكما عشت خفياً حميداً مت عزيزاً عظيماً فنم قريراً يا عليا وبُعثت بإذن الله نقياً تقياَ.