آخر تحديث :الجمعة-19 أبريل 2024-09:05م

فن


(القناص الأمريكي): مصادفة التوقيت...أم تناغم هوليوود مع السياسات؟

السبت - 18 أبريل 2015 - 07:33 م بتوقيت عدن

(القناص الأمريكي): مصادفة التوقيت...أم تناغم هوليوود مع السياسات؟

د. خالد المشعان * - أورينت نت

هل كان من باب المُصادفة أن يترافق طرح فيلم " القناص الأمريكي " للمخرج كلينت إيستوود في دور العرض الأمريكية، مع قرع طبول الحربْ الجديدة ضد الإرهاب، والتي يُسمعُ صداها في أروقــة الإدارة الأمريكية. وأهمُها، على سبيل المثال لا الحصر، طلب الرئيس الأمريكي باراك أوباما منَ الكونغرس الأمريكي تشريع جديد يخوًل القوات الأمريكية توسيع نطاق عملياتِها ضدَ تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"؛ لتشمل جميع أماكن تواجدها في سوريا والعراق؟ والحال كذلك، على أي مدى تتناغم مقاربات السينما الأمريكية، الهوليودية بالذات، مع سياسية الولايات المتحدة الخارجية؟ 

الحبكة الروائية لفيلم "القناص الأمريكي"، والمأخوذة بتصرف عن مذُكراتْ القنّاص الأمريكي الُملقب "شيطان الرمادي" كريس كايل، والتي يدورُ مٍحورها حول قصة المواطن الأمريكي كايل، الذي ينخرط في قوات البحرية الأمريكية بعد الإعتداءات الإرهابية على سفارة بلدهٍ في إحدى الدول الأفريقية، يُجسد الدور الممثل برادلـي كوبـر . بعد إِتباعه دورة تدريب لقوات النخبة، يُصبح كريس كايل قنّاص مُحترف، ويتعرف أثناءَ هذه الفترة، على تايا ريناي، التي تصبح زوجته وأم لطفلته فيما بعد. لكنَ تكليفهُ بالإلتحاق بالقوات الأمريكية في العراق، يُبعدهُ عنْ عائلتهِ الصغيرة. في أرض المعركة، دقة التصويب التي يتمتع بها كايل ، والتي ساهمت بإنقاذ الكثير من الجنود، تجعل منه اسطورة بين رفاقه كما عند أعدائه، مما يدفع بالأخيرين لوضع جائزة للنيل منه. عند عودته لوطنه ، يعاني كريس من الأثار النفسية للحرب، ويجد صعوبة في التأقلُم مع الحياة المدنية؛ حيث يُخيلُ لهُ أنه فقدَ القُدرةَ على العيش بِشكل طبيعي، كما كانَ عليهِ الوضع قبلَ ذهابه إلى العراق. 

هذه الحبّكة التي حاولَ عبرها كلينت ايستوود تسويقَ وٍجهةَ نظر غير محايدة البتة، كما يستنتجُ المرء لاحقاً، فيما يخص مشروعية الحرب، وذلك عٍبر إخفاء وجهها القبيح خلفَ الصراع الوجداني الذي يعيشه بطل الفيلم.

في الحقيقة، هذاالتناقض بين رومانسية القنّاص في الفيلم وبشاعة الحرب في الواقع، أعاد تنشيط ذلكَ الجدل، القديم ،الجديد، الذي لم يخمد يوماً، حول مشروعية الحروب، والتي يُحاولُ الساسة الأمريكيون، الجمهوريين بالذات، ومن خلفِهم جوقة من مثقفيهم، تغليفها بأوجه حضارية أو إنسانية.

المدهش أيضاً، أن نقاط القوة تلك التي جعلت الفيلم يحقق إيرادات عالية في شباك التذاكر الأمريكي، ثم الأوربي لاحقاً، كالشجاعة والبطولة وإنسانية المقاتل الأمريكي، " السوبرمان" بالطبع، مع بعض اللقطات الإنسانية التي حاول المخرج إقاحمها بين المشاهد، هي ذاتها، وليس غيرها، التي أثارت حفيظة النُّقاد الذينَ كانَ لهم أكثر من مأخذ على الفيلم؛ أهمها: إغفال الخسائر البشرية والنفسية الثقيلة التي يدفعها الشعب العراقي حتى يومنا هذا، ناهيك عن تلك التي تكبدهاالجيش الأمريكي في العراق، وبالتالي المجتمع الأمريكي، من قتلى وجرحى ومعوقيين ومرضى نفسيين، لا يزال يعاني منها الكثير من الجنود. والمفارقة، المأساوية ربما؟ أن بطل الفيلم ذاته، السرجنت كريس كايل، في الواقع هذه المرة و ليس في الفيلم، دفع حياته ثمناً لها في الثاني من شباط / فبراير عام2013 في ولاية تكساس الأمريكية على يد أحد جنوده السابقين.

تناول هذه الإشكالية بشكل منحاز، وتغليف بشاعة الحرب بصورة حالمة عن انسانية القاتل و رومانسيته، لها ثمن على المستوى الروائي، على الأقل، كان لا بد للفيلم في المحصلة من دفعها من قيمته الأدبية والسينمائية؛ بغض النظر عن حصده الملايين عبر شباك التذاكر. 
وذلك بغموض موقفه من العنف كمبداء، بشكل عام، وإستغلال القتل المبرر، بشكل خاص، على الشاشة لتسويق وجهة نظر تمجد القاتل و تصنع منه بطل ومثال يحتذى بـــه. فالنأخذ، على سبيل المثال لا الحصر، اللقطة الإفتتاحية، والتي تلخص المقاربة السينمائية للمخرج : حيث يتذكر القناص، في مشهد مأساوي مرفق بموسيقى رومانسية، طفولته مع والده أثناء رحلة صيد بريئة، في ذات اللحظة التي كان يسدد فيها رصاصاته القاتلة الى صدر طفل عراقي، وهو يتمنى من الطفل ، عبر منولوج داخلي غير مقنع، أن لا ينحني لإلتقاط قاذف صواريخ، مفترض أن يكون تهديد محتمل لرفاقه على الأرض! السؤال الذي يفرض نفسه هنا من وجهة نظر سينمائية؛ ما هي رسالة المخرج في هذه اللقطة بالذات؟ هل هي إدانة للقاتل ؟ إدانة للضحية ؟ تعاطف مع الأول أم مع الثاني ؟ لا نستطيع التخمين. في الحقيقة المخرج نفسه لم يحسم أمره مبدائياً، على الأقل في اللحظة الراهنة، بل ترك التساؤل دون أي أجابة. ولكننا سنكتشف التحيز التام في اللقطات التالية ؛ حيث لم يكن أمام القناص خيار سوى قتل الطفل صاحب الأرض، المجهول الهوية بالطبع، للمحافظة على سلامة رفاق السلاح الطيبين، القادمين عبر الاف الكيلومترات لنشر الحضارة والديمقراطية.

ليس ذلك وحسب، بل أننا لن نتسطيع طوال الساعتين والإثناعشر دقيقة، هي مــــدة الفيلم، من استنباط أي إدانة لوقع الحرب على الطرف الأخر. الأنكى من ذلك، إستطاع المخرج كلينت إيستوود، أن يفرض علينا بحرفية عالية تبنًي وجهة نظره المنحازة تماماً، بالطبع ستكون بالمصادفة المقصودة ربما؟ هي ذاتها وجهة نظر القناص السوبرماني، كما أنها في المحصلة البدائية، والنهائية بالضرورة، وجهة نظر اليمين الأمريكي المحافظ. بل أن ايستوود أصر أن يغيب السؤال الجوهري الواجب طرحه، في افلام تتناول عادةً الجانب الأنساني من الحروب، وهو مشروعية الحرب، ، بتركيزه اللامتناهي على دقة وفعالية السلاح بيد بطله، وعلى جهوزيته وحرفيته القتالية؛ كما أنـــه لم ينسى تقديم النتائج المبهرة لتزاوج الرغبة بالقتل مع التقنية الأمريكية المتفوقة، بيد بطله " الإنسان جداً " قبل أي شيء أخر. مع تغييب، عامد متعمد، للضحايا، بتصويرهم كأرهابين غير جديريين بالتوقف عندهم، وتقديمهم ككتل هلامية ، دون أوجه واضحة، دون شخصيات مرسومة، بل قُدموا على أنهم أشياء مزعجة كالعدم، أو أقل شأناً، وجب التخلص منها بكل الأحوال، على يد الأمريكي المخلص حامل الديمقراطية والحضارة. 

هذه المقاربـــة السينمائية للرواية، المتحيزة ، إن لم نقل العنصرية، تخفي في الحقيقة نمط مقلق من التفكير، لطالما إدعـى الكثير من السينمائيين الأمريكيين مناهضته. المقلق أيضاً أن الفيلم، وعبر جميع لقطاته التي تصور البطل كأنسان له ذكريات جميلة وأحلام مؤجلة تنتظر التحقيق، يحاول تغطية مسلمة واضحة لا تستطيع كل تقنيات هيوليود السينمائية إخفائها، كما أنها محرجة لمنتجي الفيلم قبل مخرجه، في المستوى الأخلاقي قبل السينمائي على أسوء تقدير، وهي أن : القناص الذي يردي ضحاياه بأعصاب باردة كما يردي طرائد الصيد؛ هو في المحصلة قاتل جبان، حتى لو كان يقف في جانب "الأخيار"، كما يفترض الفيلم. 

والحال كذلك ،ألا ينبغي لنا أن نعزوا تمجيد القاتل في هذا الفيلم، لأيدولوجية ممجوجة كأيديولوجية الحزب الجمهوري الأمريكي، والتي، بالمصادفة الغير محضة أيضاً، ينتمي اليها مخرج الفيلم كلينت ايستوود؟ هذا التساؤل يستدعي تساؤلاً أخر لا يقل غرابة عن الأول : هل هي مصادفة أخرى ايضاً، أن إدارة هذا الفيلم أُسندت في البداية للمُخرج ستيفن سبيلبيرغ، الديمقراطي التوجه والداعم الكبير للرئيس الأمريكي الحالي باراك اوباما؟ ليعود المنتج ويسحب منه السيناريو بحجة المبالغة في الميزانية المقدمة من سبيلبيرغ والتي قدرت بستين مليون دولار، في الحقيقة الميزانية التنفيذية للفيلم تجاوزت هذا الرقم بعشرين مليون دولارإذا أضفنا لها ميزانية التسويق. ثم، ثانياً، الإدعاء بعدم توافق مقاربة ستيفن سبيلبيرغ السينمائية لمذكرات كريس كايل، التي حررها سكوت ماكوين بالتعاون مع جيم ديفيليس والتي صدرت في كتاب تحت نفس العنوان. 

نظرة سريعة على الإختلاف الروائي ما بين السيرة الذاتية لـ كريس كايل المكتوبة، والتي استوحي منها السيناريو وبين الفيلم نفسه، قد يتضح لنا أكثر الفخ الذي اوقع كلينت ايستوود نفسه بـــه، إذا إفترضنا جدلاً حسن النية لديه وخلو مقاربته من أي رسائل سياسية مبطنة. فالمخرج وقد جهد في إعطاء الفيلم مسارات رومانسية غير موجودة أصلاً في النص الروائي لمذكرات كريس كايل، بالذات لقطة قنص الطفل مثلاً، أو الشخصيات الغامضة التي تمثل الجانب الأخر، الشرير بطبيعة الحال، والتي حصل من خلالها كلينت ايستوود على القليل من التشويق إن صح القول، لكنه ابتعد في الواقع كثيراً، عن المصداقية التي تسم عادة افلام السيرة الذاتية. كما أنها، وهو الأهم، طبعت الفيلم نفسه بوصمة من العنف " الناعم"، إن صح التعبير، تدين الفيلم وتدحض المقاربة السينمائية لمخرجه. في النتيجة النهائية، آلا يحق لنا أن نعتقد جازمين، أن تسويق العنف الجمهوري اليميني المحافظ، بالذات و ليس غيره، هو بالضبط ما سعى إليه كلينت ايستوود، أو ممولي فيلمه، على أسوأ تقدير. 

* باحث سوري مقيم في سويسرا