آخر تحديث :الخميس-18 أبريل 2024-11:14م

أدب وثقافة


قصة قصيرة: الرحيل

الأحد - 21 أبريل 2013 - 12:08 ص بتوقيت عدن

قصة قصيرة: الرحيل

لحج((عدن الغد)) خاص:

 

يقال أن الموتى لا يروون القصص لذلك أظنني محظوظة فأغلبنا هنا ليسوا سوى رفات في قبر لا يزوره أحد. فإذا قرأت كلماتي فأعلم بأني ميتة الآن ولا تحزن فالموت في أحيان كثيرة راحة لا توصف.إن سمحت فلي رجاء عندك لا تقرأ كلماتي وحسب بل تأملها جيدا, عش فيها لا معها سوف تراني هناك في غرفة المشفى رقم(153)سيدة في الأربعين البسها المرض سن الثمانين,جسد أقرب لهيكل عظمي منه الى جسد ادمي.عينين ذابلتين,وجه شاحب وقلب ينبض على الرغم منه.انظر مليئاً هذه التي بقربي هي (سلمى)ابنة العشرين,شابة أفقدها مرضي بريق عينيها وجسدها بات يشكو الألم قبل أوانه.هاهي تقرأ سورة(مريم)صوتها المصحوب بأنه حزن أيقظني من غفوتي.

 

أمسكت يدها وقبلتها بصعوبة وتذكرت أول مرة قبلت فيها يدها قبل عشرين عاما كانت هنا في غرفة المشفى رقم(153)حينها كنت أتألم لكني كنت متمسكة بالحياة أكثر من الآن.لا تتعجب فحين ترى ذلك الكائن الصغير بلا حول ولا قوة يعتريك الخوف أن تتركه وحيداً فتتشبث بحبال الحياة وتطلب من الله أن يبقيك على قيد الحياة حتى يتم رضاعته وحسب وها أنت تتمنى على الله أن يطيل عمرك حتى يدخل المدرسة ثم حتى يتزوج ويرزق بالأطفال ولن تمانع بالتأكيد إن بقيت حياً الى أن يتزوج أحفادك. انه طبع بشري هكذا خلقنا نضل نبحث باستمرار عن عذر لنبقى على قيد الحياة. لكني كنت أحمل العذر الأقوى فأنا لم أكن مجرد أم لسلمى كنت الأب والأخ والأخت في نفس الوقت.

 

أرى الفضول قد حملك أكثر مما تطيق.سؤال كحل عينيك قبل أن تنطقك به شفتيك:لماذا كنت كل هؤلاء؟؟ إن من العدل أن تتعرف أولا الى الماضي, الماضي الذي عشته في منزل لم أكن أظن أني سأقضي حاضري فيه أنظر ملياً للبيت حجرتين احدهما بحجم قبري ثلاث مرات هل تصدق أنها الآن أصبحت واسعة في نظري!!اثنا عشر شقيقا هو عددنا أنا وأخوتي وأخواتي, أبي موظف حكومي صغير وأمي كانت خارقة  فمن لديها القدرة لتكون أثنتا عشر أما في نفس الوقت هي بالتأكيد أم خارقة ولكني لم أكن مثلها أبدا.بين ركام الذكريات والتي انبشها وهي مقبورة هنا أقصد اللحظات التي استرقت فيها السعادة لتزورني بعض الوقت. ثمانية عشر ربيعاً كان عمري, هل تستطيع رؤيتي؟؟شعر طويل,جسد مكتز, وروح تستقبل نور الحياة بحرارة يتسلل الأمل لقلبي حاملاً خبر خطبتي لرجل لا أعلم عنه سوى اسمه لكن المهم بالنسبة لي كان السفر معه الى بلد الغربة حيث يعمل. ذلك كان أساساً قوياً كفاية لأبني عليه مئات الأحلام والأماني أو هذا ما اعتقدته.

 

زغاريد عرسي التي زفتني الى بلد الغربة تتردد في ذاكرتي أو تتلاطم كأمواج البحر الهائج , يمر عام وأعود أنا العروس مطلقة من غربة الى غربة أوحش. حاملة في ثنايا حقائبي أحلاماً محطمة وأمالاً ممزقة وكائن بشري ينمو في أحشائي. أسقيت خيبة الأمل حتى كدت أموت مسمومة بها كان ترياقي الوحيد أول صرخات سلمى ,دبت الحياة في جسدي وتطايرت أفكار الموت من ذهني. حملت هذه الصغيرة عمراً جديداً لي ومن حينها قررت أن أحمل الحزن والألم وحيدة وأغلق عليهما مفاتيح صدري وألا أجعل سلمى تشاركني إياها.يمر عام آخر وأعقد عزمي أن أتم دراستي وأعمل وكلي أمل ألا تحتاج صغيرتي لأحد حتى والدها.

 

سنوات تمر وطفلتي تكبر وتكبر محبتي لها. لقد أصبحت في الخامسة عشر لكن السعادة شيء مبهم تزورني حينما لا أتوقعها وتغادر وأنا في أمس الحاجة لها. فحين بدأت أرى وردة طفلتي تتفتح قررت أوراق عمري أن تتساقط بالآم وأوجاع بلا سبب وأعراض مرض عجز الأطباء أن يشخصوه. يوماً بعد يوم أصبحت زائرة دائمة لهذا السرير وسنة بعد سنة صرت إحدى المقيمات فيه وقبل ثلاثة أشهر صار جسدي عاجز حتى على الجلوس. بدأت أشعر بأن يومي قد حان فجمعت أحبابي واستودعتهم أمانتي الوحيدة, إنها(سلمى) وحان الوقت لأسلم ما بقى من روحي.أشعر بأني أطفو وتنقطع أنفاسي لكن هناك ما يجذبني بشدة لأعود للحياة. انه صوتها مراراً وتكراراً تفعل ذلك بي كلما دخلت في غيبوبة الموت تخرجني منها. لكن في آخر مرة سمحت لي بأن أموت في هدوء فقد قبلتني وودعتني,سمعت كلماتها الأخيرة بوضوح:"أستودعك الله يا أماه". وأنا أستودعك الله يا أبنتي ..وسأستودعك كلماتي تأملها جيداً,عش فيها لا معها.

 

من: لبنى فضل الغزالي