آخر تحديث :الجمعة-29 مارس 2024-12:56ص

أدب وثقافة


رواية د. أحمد ابراهيم الفقيه (9): الطريق الى قنطرارة

الجمعة - 21 مارس 2014 - 03:10 م بتوقيت عدن

رواية د. أحمد ابراهيم الفقيه (9): الطريق الى قنطرارة
رواية تاريخية عن قيام وسقوط الدولة الاباضية الامازيغية الرستمية

))عدن الغد)) إيلاف

 

ابن الوالي


 من قنطرارة جاء وافدا للدراسة في تاهرت سعيد ابن الوالي وسيم الويغوي. ارسله والده ليتحد بصديقه وابن منطقته نفات بن نصر القنطراري، والاقامة في بيت واحد معه، والتحق مثله بالمجلس الادبي العلمي الذي يعقد مرتين كل اسبوع في قصر الحكم، عند المساء من كل يوم احد واربعاء، ولم يكن الإمام عبد الوهاب في تزمت والده، وحبه للزهد والتقشف، رغم ورعه وعمق ايمانه، كان يبسط يده ولا يغللها في الانفاق فيما يراه ضروريا لهيبة الدولة والتسرية على ضيوف القصر، وقد هيأ لهذه الجلسة مكانا جميلا في ركن من احدى قاعات القصر، تجرى فيها المياه التي توصل بين القاعة والحديقة، وتحف بها تكوينات الارابيسك في اشكالها الجمالية المختلفة، وغالبا ما يتخلل الجلسات لحظات استراحة من العزف الجميل، يقوم بها عازف ماهر على العود مرة ومرة اخرى على الربابة او القانون، واحيانا اكثر من عازف، وربما صاحب العزف الغناء، دون خلاعة ولا مجون، ومع ما يتفق مع التقاليد الدينية الاباضية المحافظة، ولم تكن هذه الجلسات تقتصر على النقاش الفكري، وإنما تكون ايضا للمطارحات الشعرية، او لمجرد الامتاع والمؤانسة و الدردشة العامة، او الاحتفاء بضيف او صديق عنده مناسبة، لكن طابعها الغالب هو النقاش في الفكر والدين والسياسة، حيث كان نفات بن نصر يتفوق فيها بحيويته وحرارة نقاشه، وقدرته على استفزاز العقول، وتفتيح المواضيع الجديدة، والدخول في المعارك الفكرية التي يمكن ان يخوضها مع الإمام عبد الوهاب نفسه، على سعة علم الإمام وغزارة معارفه، الا انه كان يتجنب وضع نفسه موضع التقاطع مع نفات، لانه يعرف حدته وقوة شخصيته، لهذا فانه اذا راى موقفا يستحق الدخول في اشتباك فكري معه، تركه إلى حين الانفراد به، لانه لا يريد ان يحرجه ولا ان يحرج نفسه امام الحضور، فنجت علاقتهما مما يكدر صفوها على مدى الزمن، وكانت سياسة الإمام، الا يقتصر النشاط الفكري والادبي والعلمي، على العاصمة، إنما سعى على توزيع هذا النشاط على مدن اخرى صارت تنافس العاصمة في ازدهارها الادبي مثل مدينة الغدير ومدينة الخضراء ومدينة شعت، التي اتسع فيها العمران، وصار لكل واحدة منها مكتبة مركزية تنافس المعتصمة، مكتبة تاهرت، وكان يعهد لاعوانه الثقاة بتناوب الاشراف على الانشطة الفكرية لهذه المدن، يندب حينا نفات، وحينا سعيد، وحينا زميلا ثالث لهما، لانه كان يثق في ان الطريق إلى مزيد من الازدهار والتقدم، هوطريق الفكر والادب والعلوم. وعهد لاخته أروى، بان تفتتح مزيدا من مدارس النساء، في تاهرت، ومدارس اخرى في المدن الكبيرة الثلاث. وجاء خبر من قنطرارة يدعو سعيد بن وسيم إلى العودة على عجل، فقد توفى والده الوالي، ويجب ان يكون موجودا بجوار افراد الاسرة في ساعة المحنة، وان يتقبل واجب العزاء في والده، وبحزن واسى تلقى الإمام الخبر، وامر بتجهيز عدة جمال بالمؤن لاقامة وليمة على روح الراحل، وتوزيع الصدقات على فقراء المنطقة ليناله الاجر والثواب، واستصدر في الحال مرسوما بتعيين الابن سعيد مكان ابيه، عاملا على قنطرارة، ونائبا للامام في جبل نفوسه.


 وكان نفات بن نصر قد تطلع لان يكون هو عامل قنطرارة ونائب الإمام فيها، ويرى ان صديقه وابن بلدته سعيد بن وسيم ليس اكثر منه جدارة. ولم يكن الإمام عاجزا عن معرفة ما يخامر صديقه نفات من رغبة في هذا المنصب، لذلك انتحى به جانبا ليفضى له بحقيقة موقفه، وهو انه يثق بجدارته بمنصب الوالي هناك، لكنه ابقاه في العاصمة لضرورة الحاجة اليه، كصاحب اشعاع على كل مقاطعات الدولة وحواضرها، وليس على جزء واحد منها، ولا يريد في هذه الفترة ان يحدث ما يعرقل هذا النشاط الذي يقوده في تاهرت والمدن المجاورة لها، ولن يكون صعبا ان يحقق له رغبته في العودة إلى بلاده اذا اراد يوما ان يحتل مكانا مرموقا بين اهله.


 وربما كان الموت المفاجيء للاب وسيم الويغوي، هو الذي جعل الإمام، في لحظة تأثر عاطفي، يضع الابن في مكان الاب الراحل، دون مرور بالروتين المتبع في مثل هذا التعيين، عندما يأتي الاقتراح من جماعة العلماء وياتي مرسوم التعيين لاحقا، وهو يعرف ان علماء جبل نفوسه، لن يردوا على الإمام كلمته، ولن يعارضوا تعيين زميله، مع ان سعيد عالم في سن الشباب، اصغر سنا من كثير من علماء الجبل، لكنه صاحب اجتهاد، حاز على ارقى ما يتوفر في الدولة من تعليم. 


 وتوافقت عودة الشيخ سعيد بن وسيم من تاهرت، مع عودة شقيقه أبان من البصرة، فقد ارسله والده إلى العراق ليدرس على ايدي علماء تلك المدينة العريقة من اشياخ المذهب الاباضي، وجاء بعد سماعه بنبأ وفاة والده، وقد اكمل مشروع دراسته، يحمل اجازات من عدد من المراجع العلمية المعتمدة هناك، كما جاء محملا بكتاب اعتكف على تاليفه خلال سنوات البعثة، يؤرخ فيه لعدد من اعلام المذهب الاباضي في بلاد المغرب بدءا من مؤسس الدولة الاولى ابي الخطاب وصحابه الاربعة الشيوخ عبد الرحمن بن رستم، واسماعيل الغدامسي، وعاصم السدراتي، وداود النفزاوي، وصولا إلى الإمام الحالي عبد الوهاب وبعض اشياخ الجبل مثل نصر الدين القنطراري ووالده وسيم الويغوي ومن رافقهم في مسيرة نشر المذهب من علماء الريادة والمرجعية.
 وجاءت الاخبار من العاصمة، ان الكتاب وصل إلى الإمام عبد الوهاب، وانه شديد الاعجاب به، يستعجل قدوم المؤلف اليه، لكي يستطيع تكريمه والاحتفال به، وبطبيعة الحال لم يستطع الشيخ ابان ان يتاخر عن تلبية دعوة امام البلاد، واهتبل شقيقه الفرصة فزوده برسالة إلى رئيس الدولة، تحمل رغبة اعفائه من مهمة الوالي، وافصح لاخيه ابان بالسبب الذي اخفاه عن بقية الناس، فقد ابتلاه الله بكابوس لا يتركه كل ليلة، وهو كابوس لم تنفع في ازالته كل مطالعاته في ايات القرآن الكريم، وكل ما تارجح في عنقه من احجبة، وكل ما قرأ فقهاء البلدة عند رأسه من تعاويذ واوراد، وهو يرى في هذا الحلم او الكابوس ارتالا من طيور البوم، تأتي وتحط فوق بلدة قنطرارة، وتواصل الهبوط فوق اشجارها وابنيتها واسواقها بما في ذلك مسجدها ومعهدها ومكتبتها حتى تغطيها، وتواصل التكدس فوق بعضها البعض، دون ان تطير، وهو ما تفعله مع كل مناطق جبل نفوسه، حتى ينهض جبل من طيور البوم، له لون ريش هذه الطيور الغبراء الشهباء التي تشبه التراب، يعلو فوق الجبل الاصلي، وتغطيه بشرا وشجرا وحجرا، ويتناهي إلى سمعه صوت نائح ينوح قائلا، وهو يحاول النهوض مكتوم الانفاس، محاولا ان يتبين ما يقول صوت النواح، الذي كان ينعي الدولة الرستمية، وان المصاب الم بكل مناطق الدولة الاباضية، من وهران إلى سرت، فكلها تموت تحت ثقل هذا الجبل من طيور البوم، المنسوبة إلى الشؤم والخراب. ويستيقظ من نومه كل ليلة مذعورا يبحث عن هواء يتنفسه، وهو يسبح في بحيرة من العرق. ويبقى تحت تأثير الكابوس، وقد عكر مزاجه واتلف اعصابه، جل النهار

 

. وهو يتجنب ان يبحث عن تفسير لهذا الكابوس المرعب، لانه لا يحب ان ينظر اليه باعتباره رؤيا، تستحق التفسير والتأويل، وإنما اضغاث احلام من عمل الشيطان. حالة مرضية لا يجد لها علاجا، ولا يستطيع ان يواصل مع تكرار ظهورها في نومه، العمل في تصريف شئون الولاية، وعليه ان يترك المسئولية طالما انه لا يجد لهذا الكابوس علاج. الا ان اخاه لم يستجب لطلبه حال سماعه، واستمهله قليلا للتفكير والتدبر، قبل اتخاذ قرار الاستقالة، راجيا منه ان يواصل استشارة كبار القوم واهل الحكمة. وكان الشيخ نصر الدين القنطراري، قد لزم بيته بسبب الوهن وبرد الركب، فاقترح ابان ان يزوره في داره، ويستشيره سعيد فيما عرض له، وما ينتويه، وانصت اليه الشيخ باهتمام حتى فرغ من كلامه، فظل صامتا متفكرا، ثم شاهده الاخوان وهو يبكي بكاء صامتا لفترة طويلة، وقد بدا لهما واضحا ان الشيخ احزنه حزنا شديدا ما سمع، ورأى فيه فألا سيئا، فقد عاشت الدولة الاباضية الاولى، اربعة اعوام فقط، وهاهي الدولة الاباضية الثانية، تجتازالعقد وراء الاخر وهي بمنجاة من عوادي الزمان، وتزداد مع الاعوام امانا وتحصينا، وتنجح في عقد اتفاقيات الصداقة والسلام مع دول المنطقة بما فيها تلك التي تشكل تهديدا لوجودها، فزال التهديد وامنت الدولة الاباضية شرها، فهل يحدث بعد كل هذه الضمانات القوية، والبناء الذي يبدو في ظاهره صلبا منيعا، ان ياتي من يقوض حقا هذا الصرح الشامخ المتين للدولة التي تحقق بقيامها واستمرارها حلم الاجيال، وتصبح هذه الدولة اثرا بعد عين، حسب نبوءة هذا الكابوس. انه بالتاكيد امر يدعو إلى القلق والانزعاج. ثم جفف الشيخ دموعه، واضاف انه يرجع فيقول ان مصير الدولة ومقدراتها، امر موكول لخالق الكون، ومرهون بمجريات الاقدار وتصاريفها، ما يجب ان ينشغل به الشيخ سعيد في هذا الوقت، هوحالته الصحية، فسوف تهلكه مثل هذه المتاعب الليلية الناتجة عن رؤية الكابوس

. ويواصل البحث عن علاج، قد يجده عند مراهم ميمونة واعشابها ومهدئاتها.. فاجاب الشيخ سعيد بانه استعمل اعشاب العمة مريومة فلم تعد عليه باية فائدة. وهنا تحدث الشيخ نصر الدين عن الزواج قائلا للشقيقين، بانه يعرف ان طلب العلم شغلهما عن اتمام نصف دينهما، ثم عادا إلى قنطرارة لينشغلا بتبعات رحيل والدهما، ولم يكن ممكنا في ظروف المأتم والحداد، التفكير في مثل هذا الامر، الا ان الوقت صار الان اكثر ملاءمة لان يبدا اكبر الاخوين وهو الشيخ سعيد باتمام هذه الخطوة التي لا يتحقق الاستقرار للرجل الا بها، وفي هذه الحالة من القلق والمعاناة التي احدثها الكابوس، فان الزواج قد يكون طريقا لجلب الهناء النفسي الذي يطرد الكوابيس والقلق، فهناك هواجس تملأ راس العازب قد لا تزول الا باشباع العواطف والغرائز. واقترح على الشيخ سعيد ان يوجل قرار اعفاء نفسه من منصب الوالي، إلى حين انتهاء الاسابيع الاولى من الزواج، فاذا انتهى ظهور الكابوس، كان ذلك هو المطلوب، واذا استمر رغم الزواج، فلابد ان في الامر نذير شؤم، والعياذ بالله، وان الامر اكبر من الزواج، واكبر من الاشخاص، ويتصل بمآل هذا الوطن ومقدراته، نسأل الله العفو والعافية.


بدلا من العودة إلى بيتهما، سأل سعيد اخاه ابان ان يخرجا إلى المناطق الجبلية، فالطقس ربيعي، في غاية الاعتدال، وجلسا على حافة الجبل، امام جدول يجري في صفاء بين الصخور، وظهر امامهما سهل الجفارة وقطيس، وقد اكتست الارض بالاخضرار والاعشاب التي انبثقت بينها الوان كثيرة بدت كانها اقواس قزح لا تحصى مفروشة فوق الارض، وفي حضرة هذه الطبيعة الزاهية التي تتفجر جمالا ونضارة، صارح الشيخ سعيد اخاه بان اقتراح الشيخ نصر الدين بالزواج مسالة تحتاج إلى نظر، ولا يستطيع ان يربط الزواج بالكابوس، فلا يظن ان هناك رابطة بين الاثنين. انه يريد ان ينكر بينه وبين نفسه، ان الكابوس انذار بحدوث شر يهدد الدولة الاباضية، لكنه يستطيع ان يفصح له باعتباره شقيقه، عن هواجسه، ربما اكثر مما يعترف بها لنفسه، لانه لن يجد وهو على انفراد نصيرا يقدم له ما يحتاجه من دعم معنوي، بينما معه، يشاكيه ويبثه شجونه، فهو مطمئن إلى ان هذا الدعم موجود وحاضر، وسيسعفه اذا احتاج لمثل هذا الاسعاف، لهذا يقول له بان الكابوس، كما يراه بيقين جازم، انذار بالمصير الفاجع للدولة الاباضية يتمنى من صميم قلبه الا يحضره،. وان يكون يوم رحيله قد حان، قبل يوم رحيل الدولة ونهاية وجودها.

وهناك امر شخصي يريد ان يقوله له، وهو انه عندما كان يعيش في تاهرت، واثناء ذهابه إلى مدينة الغدير، مكلفا من الإمام بادارة الندوات الفكرية، إلتقي بإمرأة تعمل في المكتبة، في قسم يخص الكتب الاجنبية، اجنبية هي الاخرى، حصل بينه وبينها تجاذب عاطفي، عفيف ونظيف، وكان يفكر فعلا، في اخذ الاذن من الإمام بالارتباط بها، باعتبار ان الدين لا يمنع هذا الزواج بين المسلم والمسيحية، الا ان وفاة الاب، والعودة السريعة إلى البلاد، ومسئولية الولاية، امور شغلته عن هذاالموضوع الذي كان على رأس اولوياته، وهو مازال منجذبا اليها، عازما على الارتباط بها، واصلا لتفاهم كامل بينه وبينها، راجيا من اخيه ان يوافقه على اعطاء شئون القلب اهمية على اي شأن اخر، بما في ذلك مسئوليات العمل والقيادة. 


 في طريق عودتهما شاهدا البهلول محمد القنطراري، يتقدم منهما في مدخل البلدة، مادا يده بالتحية سائلا الشيخ سعيد عن حاله مع الكابوس، وإن كان قد شفي منه. وكان البهلول قد استجاب لطلب الشيخ سعيد بان يحاول اسعافه، فقام بتدليك راسه وجبينه طالبا له الشفاء، فابلغه الشيخ ان اسعافه كان مثل اسعاف غيره، لم ياته باية نتيجة، فالكابوس مستمر في الظهور، فكان رد القنطراري بان معنى ذلك انه سيستمر معه مدى الحياة، وعليه ان يتوقف عن السعي للشفاء منه لانه لن يشفى. وخطر للشيخ سعيد ان يسأل البهلول عن لماذا تخصه ملائكة النوم بهذا الكابوس دون غيره، فاجابه البهلول، بعفوية ودون كثير تدبر وتفكير، كأن هناك كائنا اخر يتحدث على لسانه، بينما هو مجرد اداة تسميع مثل البوق، قال بان الامر لم يأت من فراغ ودون سبب، وهو انه سيعيش حياة طويلة، اطول من اي انسان آخر في هذه المنطقة، وسيرى احداثا لن يراها غيره ممن تواجدوا معه في الفترة الزمنية نفسها، من اهل هذا الجبل وهذه الدولة، لانهم سيكونون تحت التراب عندئذ، ولن يتركه الحلم حتى ينتقل من عالم الاحلام إلى عالم الواقع، ومن عالم النوم إلى عالم اليقظة، عندئد سينعم بالسلام والهناء، ويستطيع ان ينتظر حلول الاجل، بعد ان يكون قد سئم من طول البقاء في هذه الدنيا.


 في اليوم التالي هيآ الشقيقان راحلتيهما للسفر معا إلى تاهرت.
 وكان السؤال الذي وقفا امامه طويلا هو هل يفصحان للامام عبد الوهاب عن تفاصيل الكابوس الذي يظهر للشيخ سعيد كل ليلة، بما يمكن ان يراه فيه من نذر الشؤم، وهل هناك حقا حاجة لاقلاقه وازعاج نومه بمثل هذا الكلام، الذي قد لا يكون غير حديث اوهام وخيالات. وكانا يتفقان حينا على حجبه عنه، ثم في لحظة اخرى يحس صاحب الحلم ببعض من تأنيب الضمير لانه يخفى على المسئول الاول في الدولة ما يمكن ان يكون انذارا و تحذيرا، قد يكون الهاما من الله لكي تاخذ الدولة احتياطها، قائلا لشقيقه بانه يمكن ان يكون للامام تدابيره التي يدرأ الكارثة قبل وقوعها، او على الاقل التخفيف من اضرارها، تبعا لمنطوق الدعاء الذي يقول " اللهم لا نسألك رد القضاء، ولكن نسألك اللطف فيه".


 ولم يستطيعا الا بعد ان وصلا إلى تاهرت، واستقر بهما المقام في بيت صديقهما وابن بلدتهما نفات بن نصر، ان يجدا حلا لهذه الاشكالية، وفي حضرة الصديق الاثير للامام عبد الوهاب، الذي لا يتحرج من طرق اي موضوع معه، وهي ان يكاشفا نفات بالموضوع، ويتركا له خيار نقله لصديقه الإمام او حجبه عنه، والتقى الشقيقان بعد ذلك بالإمام متحررين من عبء ذلك السؤال، وقد القيا به للشيخ نفات، وكان احتفاء الإمام بهما كبيرا، واقام في المكتبة المسماة "المعصومة" حفلا حضره علية القوم، وكبارعلماء المذهب الاباضي، تكريما للمؤلف وكتابه عن تاريخ المذهب الاباضي واعلامه في المنطقة، وفور انتهاء الحفل استأذن الشيخ سعيد في الذهاب إلى مدينة الغدير، للقاء المراة التي عاهدها على الزواج، ليقول لها انه باق على العهد، وان الوقت ازف للوفاء به، وليس امامه الان الا ان يستأذن الإمام وياخذ الاعفاء من عمله في قنطرارة.

وكانت هي قد ابلغته منذ بداية العلاقة بان ارتباطها بامها التي تعاني من مضاعفات الشيخوخة ولا تستطيع ان تغادر بيتها، يجعلها ملزمة بالبقاء في مدينة الغدير لن تقوى على مغادرتها، فاذا حصل ارتباط بينهما فان مكان الاقامة سيكون هذه المدينة وليس مكانا غيرها، كان هذا شرطها الذي استجاب له. 


 عاد لترتيب اموره في العاصمة، وما ان وصل إلى مقر اقامته، حتى وجد مبعوثا بانتظاره، لياخذه إلى قصر الحاكم، وهناك كان الإمام يريد في كثير من القلق والفضول، ان يسمع منه تفاصيل الكابوس الذي يتكرر ظهوره له كل ليلة، وما هو تفسيره له حسب رايه، ولماذا يظن ان الملائكة خصته وحده، دون غيره، بهذا الحلم، وما المدى الذي يستغرقه تحقيق النبوءة اذا تحققت، فيما يرى. اظهر الإمام اهتماما اكثر مما كان يتصور الشيخ سعيد، بالحلم الذي سمع تفاصيله من الشيخ نفات، فهو يعرف الإمام عبد الوهاب، رجلا من اهل الحصافة والتدبر، يستخدم عقله قبل ان يستخدم العواطف، ويثق في الحقائق اكثر مما يثق في الخيالات التي تتصل بعالم الاحلام وتفسيرها، ومن هذه الحقائق، تلك التي تتعارص مع مضمون هذا الحلم، فهي تقول ان الدولة الرستمية، تعيش تحت حكمه افضل عصورها، وتنعم بارقى ضمانات الحماية والامان، جيشا وتحصينا وموقعا شديد المنعة، علاوة على ما عقدته من تحالفات تضمن لها صداقة دول العالم، فلا تهديد ولا وعيد يلوح في الافق، ولا علامات تقول بوجود هذا النذير الذي يقول به كابوس طيور البوم، واراد الشيخ سعيد ان يحمل رده تطمينا للامام، فقال له بان اية قراءة للواقع، لا تنبيء بانه حلم قابل للتحقيق،و"عن لماذا خصتني الملائكة بهذا الحلم فلا املك الا اجابة قالها لي بهلول من بهاليل الجبل اسمه محمد القنطراري، بانني ساعيش طويلا لارى كل الناس من ابناء جيلي قد سبقوني إلى حتوفهم، فلا اموت الا بعد ان ارى العوالم التي عرفتها قد تقوضت وانتهت، فلعله حلم يخصني وحدى ولا يخص احدا غيري" 


 الا ان الإمام عاد إلى القول، بانه لا باس من اخذ الكابوس على محمل النذير والتحذير، فلا ضرر من اعادة النظر في الحصون وتجديدها، والجيش وتقويته، والتحالفات والصداقات والاعتناء بمراجعتها وتطويرها، ثم المضى متوكلين على الله. ثم قال انه سيدعو إلى اجتماع في الاسبوع القادم يحضره عدد من الشيوخ الثقاة، واهل العرفان والتبصير والتنجيم والنبوءة، لعلهم يجدون تفسيرا اكثر تحديدا ووضوحا للحلم. 


 حصل الاجتماع في القصر، الا ان امر الكابوس لم يبق محصورا بين اهل الاجتماع وما يناقشونه ويتداولون فيه من تفاسير وشروح، إنما خرج عن اطار القصر، واطار اهل العلم والتنجيم ممن حضروا الاجتماع، وتلقفته فئات شعبية تخلط بين الفلكلور والشعوذة والخرافات، وبسبب ما احسوا به من خوف على مستقبلهم ومستقبل بلادهم مما يقوله الكابوس المليء بطيور البوم، صاروا يتفنون في ما اعتبروه مكافحة للارواح الشريرة، باقامة حفلات الزار، ونوبات الذكر، وجلب المشعوذين المتخصصين في طرد النحس، والقيام بانواع من السحر، التي تقتضى احيانا ايقاد نيران كبيرة فوق الجبال، يحرقون فيها البخور فتنطلق سحائب دخانه تخالط سحب السماء، كذلك حرق اوراق ورقي كثيرة تحمل التعاويذ والادعية، اما اهل التقوى فقد مضوا يصلون صلاة التهجد في حشود كبيرة طوال الليل في الساحات العامة. حالة هستيرية دخلتها البلاد، لم يستطع اهل العقل ايقافها، بمن فيهم الإمام نفسه الذي صرف جهده لاعادة النظر في التحصينات، وتعزيز الجيش واخضاعه لبرامج تدريب وتطوير، والعمل على ادخال الجديد في فنون الحرب علي كوادره، وتسليحه بكميات كبيرة من المنجانيق وقذائف النار استعدادا لاي طاريء. كما ارسل للاقاليم، بالتزام الحذر واعادة النظر في الدفاعات على التخوم وتجديدها، ومعرفة مكامن الخطر ونقاط الضعف واخطار قيادة الجيش بها، خاصة تلك النقاط التي تتاخم الولايات العباسية، فالإمام عبد الوهاب يعرف ان هناك خليفة يقبع في بغداد لن يهنأ او يرتاح لوجود دولة امازيغية اباضية موجودة على ظهر الارض. ويعرف ايضا ان اقرب هذه الدول على حدوده، هي دولة بني الاغلب في القيروان، لهذا كان تركيزه في الاهتمام بتلك النقاط التي تحاذي دولة الاغالبة. 


 بالنسبة للشيخ سعيد فقد جلب له الحلم صيتا بين الناس، يتراوح بين الاستهجان والقبول بالامرالواقع، لكنه لم يكن يريد هذا الصيت، فاجتهد في ان يبتعد عن التعريف بنفسه، وان يمتنع عن الخروج للاماكن العامة، بما في ذلك المناشط الثقافية التي وجد انها لم تعد تناسبه، واستاذن الإمام عبد الوهاب، بعد ان وافق على اعفائه من عمل الوالي، ان يلتحق بالجيش، فهو يريد ان يكون وفيا لدولته، وطالما انه صاحب الحلم الذي اثار كل هذا الرعب في قلوب الناس، فلا اقل من ان يكون في الصفوف الإمامية التي تحمي الدولة من المخاطر التي تنبأ بها. وباشر بحماس ونشاط شديدين، التدريب على العمل العسكري،ليتبوأ مكانه بين ضباط الجيش. وبسبب ما ابداه من مثابرة واجتهاد واخلاص، صارضمن اكثر القيادات براعة في الادارة والتوجيه، وحدث ان زال العائق لسفر زوجته، فقد توفيت امها ولم يعد هناك ما يجبرها على البقاء في الغدير، فوجدها فرصة لان ينتقل قائدا عسكريا لمنطقة جبل نفوسه، رابضا هناك مع جنوده، للدفاع عن الدولة الاباضية في اكثر المواقع خطورة.

ورقة ثانية من دفتر الشاعر 


 جاءت الهستيريا وذهبت. شاهدت مثلها في تلمسان. هناك شعور باللذة يشعر به الناس وهم يحسون ان هناك خطرا يعملون على ابعاده. ربما يحرك هذا التهديد الذي يواجه حياتهم، وهذاالخطر الذي سيداهمهم، في نفوسهم احساسا بقيمة ما يملكون. ويجعلهم يزدادون تقديرا لما بين ايديهم، وتشبثا به، وحرصا عليه. فيعملون بكل جهدهم الا يتحقق هذا الخطر. لعل هذا الكابوس، حيلة اخترعها عبقري من عباقرة الحكم في الدولة الرستمية. رأى الناس في حالة استرخاء وانسجام وانشكاح عظيم فاراد ان يرسل هذه الهزة في اوصالهم، توقظهم، وتصدمهم، وتخرجهم من سبات الرفاهية وحالة الاسترخاء الذي تجلبه النعمة، فينتبهون لخطورة الموقف، ويشعرون بالعذاب اللذيذ لحالة الخطر، ويلهثون ركضا وراء الارواح الشريرة. يطاردونها بالمشاعل والتعاويذ السحرية وصلاة الجماعة الليلية، التي تدوم من اول الليل إلى اخره. اما انا فلم انشغل، كنت سعيدا لانني عثرت على قسيس يملك نبيذا معتقا في كنيسته، لكنه اشترط الا اخذ قطرة واحدة خارج عتبتها، وإنما اتناوله معه حيث يقيم. كنت قد توصلت إلى معرفة احد زبائن الخان، وتأكدت من وجود الحانة، لكن صاحب الخان الصقلبي، يحاول ان يكون قانونيا بمعنى الا يسمح بالدخول الا لامثاله النصارى او اليهود، اما امثالي من اهل دين البلاد فيخشى وصول امرهم إلى صاحب الشرطة، او ديوان المحتسب، فينال عقابهما. الا انني استطعت بشيء من الحصافة وحسن التدبير، ان ادخل إلى حانته، رغم ارادته، وذلك اثناء غيابه في يوم عطلته الاسبوعية، حيث تقوم الدراهم التي اعطيها لعامل الخان بتسهيل دخولي إلى الحانة، وطالما دخلت فلا حدود بعد ذلك ولا قيود للعبث واللعب واللهو، وبجوار الكأس، سوف استطيع الاختلاء بالغانية التي تعمل ساقية في الحان. نعم، مرة في الاسبوع، نعمة هبطت من السماء، فلا احتاج لاكثر من ذلك اذا عز وجود اكثر من ذلك. 


 مهما كان كابوس البوم، مزيفا او حقيقيا، فان الإمام عبد الوهاب، ظل اكبر من الجميع، متعاليا على مثل هذه المخاوف، يضع عقله وفكره في الافق العالي الذي يضمن له العزة والسمو. والدليل على ذلك انه وصلت اليه خلال هذين اليومين في تاهرت، قافلة تتكون من اربعين جملا، لا تحمل الا بضاعة واحدة، لا ينافسها مثقال ذرة من بضاعة اخرى، لا تحمل هذه الاربعين بعيرا الا الكتب، والكتب فقط. هناك من يقول انه ارسل في شرائها، وهناك قول اخر، هو ان مجموعة من العلماء، اصدقاء الإمام في بر الشام، ارادوا مهاداته بهذه الهدية التي يعرفون مدى حبه لها واعتزازه بها، وقد


اخذها إلى بيته، وما ان يكمل مطالعة عدة كتب منها حتى يبعث بها إلى المكتبة المركزية "المعصومة"، لاستنساخ عشرات الكتب من كل عنوان، ووضعها في متناول جمهور المكتبة، وسيكون بامكاني ان اذهب لاتفقدها في يوم قريب، املا ان اجد بينها ما يلائم ذوقي، لانني في حالة تناقض مع ما يحبه هؤلاء الفقهاء، هم يطالعون كتب الدين والفقه والشريعة، وانا ابحث عن الشعر والادب والفلك والتاريخ واساطير الشعوب، ولقد رايت صديقا شيخا يعكف في بيته على مطالعة كتاب حجبه اياما عن مجلسنا، فقادني الفضول لمعرفة الكتاب الذي استحوذ على عقله وقلبه كل هذا الاستحواذ، وزرته لكي ارى الكتاب واطالع عنوانه، فاذا به كتاب عن كيفية تغسيل الموتى، فسألته مستغربا، هل تهيء نفسك لمثل هذا العمل، فاجابني بانه يطالع الكتاب للمعرفة والتحصيل فقط. وما حاجة هذا التعيس، قلت في نفسي، لان يعرف غسل الموتى، وهناك اناس يحترفون هذه المهنة، دون ان يجدوا حاجة لمطالعة الكتب لانهم اساسا لا يقرأون ولا يكتبون، قاطعت من يومها هذا الرجل وتوقفت عن صداقته، ما حاجتي بمثل هؤلاء المجانين.


الحق ان الكتب تزدهر. مهنة الوراقين تزدهر. احمد الله انني واحد منهم. وانني اطالع الكتب بحكم المهنة باعتباري وراقا،واطالعها بحكم الهواية، مطالعة المتعة والتحصيل العلمي.

ورقة ثالثة


 اليوم ذهبت إلى قاعة الندوات في المكتبة، لاكون واحدا من اعضاء الامسية الشعرية الذين سيلقون اشعارهم، واجد هذه الامسيات فرصة لاظهار براعتي، وتفوقي على بقية شعراء تاهرت، فهناك شاعر واحد هو ابو خزار التاهرتي، من يحمل لواء الشعر في العاصمة، ويحلق في افاق عالية لا قدرة لاحد غيره ان يصل اليها. وتحديا لغلبة جمهور الفقهاء والعلماء والقضاة على الصالة، فقد صممت على ان استفزهم واغيظهم، واجعلهم يتململون ضيقا في مقاعدهم، وذلك بان اجعل قصيدتي نوعا من الغزل الصريح، الذي لا تصمد امام صراحته صراحة امريء القس وهو يتلقى نهد عشيقته، محروما من النهد الثاني الذي القمته لرضيعها. بل جعلت القصيدة تنويعا عليها، وحوارا معها، وتمجيدا لصدور النساء الجميلات، وزاد من قوة التحدي في نفسي، ليس جمهور القاعة من المستمعين، لكن جمهور المنصة من اهل الالقاء، فهم شلة من القضاة واهل الفقه، ممن لن يختلف شعرهم عن جلسات الاذكار وكتب الادعية والورد، مدركا ان نصف القاعة من الشباب سيحبون شعري وسيطربون لسماعه، لكن الله حرمني من هذه المتعة، وحدث ما اعاقني عن المضي في استفزازي ومكري، لانه من حيث لم نكن نتوقع وصل الإمام عبد الوهاب لحضور الامسية، فمن باب التقدير والاحترام لصاحب المقام الرفيع، اجريت تعديلا في الشعر الذي القيه، واخترت قصيدة حب في تاهرت، وتغزلا في مجد بهائها، وما ترتديه من حلل الطبيعة الجميلة القشيبة، في كل الفصول، فقلت قصيدة اخترت ان يكون استهلاها مباهاة وافتخارى بمواهبي الشعرية قائلا :
ها قد تجلى في صدى افكاري
اعجاز خالقنا الجليل البارى
وتبدى سر الكون في اشعاري 
تشدو بها الاطيار في الافجاري
 وعرفت بعد القاء قصيدتي ان ضمن الشعراء اليوم، شاعر خاص جدا، وان الإمام ما جاء هذا المساء الا لتقديم هذا الشاعر، وهو فتي صغير السن، كبير الموهبة كما قالوا، وهو ليس الا مفلح الابن البكر للامام عبد الوهاب نفسه، فقد كان الفتى يطالب والده بالحاح، ان يسمح له بان يغشى منتديات الشعراء، ويشارك بالقاء قصائده معهم، والاب يعارض الابن، لانه لم يكن يراه اهلا لمثل هذا المقام، الا انه استوثق اخيرا من موهبة مفلح عندما جاءه بهذه القصيدة التي وافقه على القائها اليوم، ولم يقم الإمام لتقديم ابنه، وعهد بهذا التقديم إلى نفات بن نصر، الذي اشاد بالقصيدة وموضوعها الذي كان اتحريضا على العلم، وتوقير اهله، لانه هو عماد نهضة الامم وتقدمها، واقول بعد ان سمعت القصيدة، انها تنبيء حقا بمولد شاعر سيكون له شأن في المستقبل 
كانت ابيات القصدة تقول:  
العلم ابقى لاهل العلم اثارا 
وليلهم بشموس العلم قد نارا
يحي به ذكرهم طول الزمان وقد 
يريك اشخاصهم روحا وافكارا

رحلة الإمام إلى الحج


 صحت تاهرت ذات صباح على صخب يعم شوارعها وموكب كبير يضم خيلا وإبلا وأهل حكم وعسكر يشق اهم ميادينها خارجا من قصر الحكم، مخترقا قوس المجد، وقد بلغت اعداد الفرسان ما لا يقل عن الف فارس، وتناقلت الحشود التي وقفت على جانبي الطريق ترقب المشهد، المعلومة التي تقول ان الإمام عبد الوهاب نفسه يتصدر مقدمة هذا الموكب، وانه ينوي الذهاب في رحلة طويلة، قاصدا الاراضي المقدسة لاداء فريضة الحج، دون تأكيد عما اذا كان هذا الموكب الحافل سينتهي عند اقرب شاطيء، ليستقل الإمام البحر إلى جدة، ام انه سيأخذ الطريق البري الذي تسير فيه القوافل إلى هناك.

كما دارت التساؤلات والتكهنات عمن سيحل مكان الإمام في غيابه الطويل الذي قد يصل إلى عام كامل، خاصة فيما يتصل بامور مالية وادارية ودينية والتعامل مع صراعات قبلية، غير الامور العسكرية، لان للجيش قياداته التي تدير شئونه في حضور الإمام وغيابه، وكانت اولى الاجابات تقول ان حامل اختام الإمام اثناء غيابه لن يكون غير ابنه مفلح، برغم انه فتى غر صغير لم يصل سن الحلم. ولا يملك عقلا ناضجا يصدر به الاوامر النواهي، الا ان والده سيترك مجلسا من العلماء الثقاة، يكون بمثابة مجلس وصاية يعود اليه الفتى في كل صغيرة وكبيرة، وياخذ رايه قبل اتخاذ اي قرار، ويعرض عليه ما يستجد من قضايا الحكم وشئون الدولة، وكان لابد ان تمضى عدة اسابيع حتى تتضح هذه الامور التي انشغل بها الناس، احداها ان مفلح حقا هو الذي يجلس على كرسي ابيه، لكن ادارة الدولة في الحقيقة، واتخاذ القرارات، موكول إلى السيدة أروى اخت الإمام، فهي الحاكم الفعلي للدولة في غياب شقيقها الإمام، إلى درجة ان بعض الخبثاء اطلقوا عليها اسما يتناقلونه سرا هو " الإمامة أروى"، دون ان يعني ذلك استهجانا لقيامها بهذا الدور، فاهل الدراية بامور القصر، يعرفون ان للامام عبد الوهاب، تقديرا خاصا لشقيقته أروى، وله ثقة في رجاحة عقلها، وحسن تدبيرها للامور، لهذا فلم يكن يحتاج لان يستعين باحد من خارج بيته وعائلته للمعونة في ادارة الدولة، اثناء غيابه. وأروى تملك الكفاءة والجدارة، ويغطي عن كونها انثى، وجود الصبي مفلح، تضعه في الصدارة للقيام بدور المردد لكلامها، والممثل لتعليماتها واوامرها.

 

 

كما اتضحت مسألة الطريق الذي سيسلكه إلى البيت الحرام في مكة، فمنذ الايام الاولى عرفوا انه لم يركب البحر، وإنما اتخذ مسارا لا يخرجه من اراضي الدولة الرستمية في المراحل الاولى للرحلة، فقد ذهب عبر طريق القوافل التي تغادر تاهرت إلى ارض الزاب، ووادي سوف، عبورا إلى تونس وبر الجريد الذي يقع تحت ولاية دولته، وصولا إلى جبل نفوسه، الذي ما ان صعد الجبل إلى اولى حواضره، نالوت، حتى وجد حشودا ضخمة من اهل الجبل في انتظاره، للاحتفاء والترحيب، تنحر الكباش والابل، وتصنع الولائم، وتقيم الافراح، ابتهاجا بهذا الشرف الذي اعطاه الإمام للاقليم حتى اختاره ليكون نقطة عبور في رحلته إلى مكة.

وغادر نالوت إلى كاباو، ثم إلى جادو، ثم إلى يفرن، حيث كان يبقى مع اهل كل مدينة لتناول وجبة غداء او عشاء، تلبية لدعوة اهلها وتقديرا للحفاوة التي قابلوه بها، ثم يواصل انطلاقه، إلى حين وصوله إلى حيث يقيم الوإلى ابان الويغوي في قنطرارة، وشقيقه الوالي السابق الذي استلم قيادة الجيش، سعيد بن وسيم الويغوي، وكان قد عقد معه صداقة قوية اثناء اقامته في العاصمة، وتصادف انه ابتنى لنفسه، عند عودته مع زوجته الاجنبية، بيتا على طراز حديث في بلدة ويغوا، فاصر ان تكون استضافة الإمام في هذا البيت، وسيجد هو مع زوجته براحا في بيت شقيقه الوالي حتى تنتهي مدة الاستراحة ويستانف الإمام رحلته إلى الحج، في حين هيأ الوالي براحا بين ويغوا وقنطرارة، يكون مقرا للخيام والسرادقات التي شيدها فرسان الركب لاقامتهم، وكان فعلا ينوي البقاء اسبوعا او اثنين قبل ان يواصل الرحلة، الا ان اشكالا شرعيا وامنيا ظهر له، عطل رحلة الحج، وارغمه على البقاء حتى ياذن الله بالحل، فاقليم نفوسه هو اخر اقاليم الدولة الرستمية، وعندما يغادره فسيغادر ارض دولته، ويبدأ السفر في ارض تخضع لدول وحكومات اخرى، وهناك بين هذه الدول، اناس يحملون ضغينة له، وقد يضمرون القيام بعلميات ثار وانتقام ضده، وهذا هو الجانب الامني الواجب تامينه، وينبثق عن هذا الجانب، جانب شرعي، يبدو انه اكثر تعقيدا وصعوبة، وفتوى تقول بعدم جواز رحلة الحج التي يقوم بها الإمام اي حاكم الدولة، اذا كان هناك خطريتهدده اثناء هذه الرحلة، فهو هنا لا يخاطر بنفسه فقط وإنما ببشر وحراس ومرافقين لا ذنب لهم، يسيرون في ركابه وسيلحقهم الاذى الذي يلحقه، كما ان هناك دولة يرتبط مصيرها بمصيره، وامنها بامنه وحياته، لا يحق لها ان يعرضها للمهالك بمثل هذه الرحلة التي تستهدف مرضاة الله، فلا مرضاة للخالق مع جلب الضرر للابرياء، وهي رحلة تدخل بوجود هذا الخطر، خانة المحظور والمحرم. وجمع الإمام عبد الوهاب بعض شيوخ الجبل يستشيرهم، فاشارو عليه بان مرجعيتهم لا تجيز الرحلة، اعتمادا على ما استقوه من مراجع عليا موجودة في المشرق، مثل الكوفة والبصرة، وايضا في المدينة ومكة،وهي تملك حق الرجوع في بعض فتاويها اذا تبين لها جانب يبيح التراجع والمراجعة، ونصيحتهم له هي ان يرسل الموفدين لاخذ مشورة هذه المراجع، فهم الاجدر بتقييم الموقف، وفي الوقت نفسه يستطيع تأمين الطريق بارسال الوفود إلى بعض الولاة والرؤساء، للدول والحواضر التي تقع في الطريق، لاعطائه عهد الامان، فربما ساعدت هذه العهود، في استصدار فتوى العلماء التي ترفع الحظر وتجيز له الذهاب إلى الحج.


 واستجابة لما قاله له علماء جبل نفوسه، ارسل الوفود إلى البصرة والكوفة وإلى المدينة ومكة، كما كتب الرسائل التي يطلب فيها الاذن بالمرور وتامين الطريق، لعدد من حكام الاقاليم التي تقع في الطريق، اعطاها لموفدين اخرين لمعالجة الشق الامني.


 غاب الإمام عن عاصمة ملكه، غيابا لم يكن في الحسبان، وطال وقوفه في محطة جبل نفوسه، باكثر مما كان متوقعا، فقد كانت العاصمة تنتظر عودته قبل نهاية العام، فانتهى اول عام وهو مازال في وقفته عند اولى المحطات التي لم يتجاوز فيها حدود دولته، وهو غياب عن قصر الحكم، كان سيمثل فراغا خطيرا يهدد مقدرات الدولة نفسها، لولا وجود أروى التي ابدت براعة في ادارة الازمات، بدهاء لم يكن ليتوفر لاخيها الإمام، فقد كان الصيف الذي جاء عقب غياب الإمام، صيفا ينذر بشر مستطير، وهو شر له سوابق، وصيف مهد له صيف قبله كان ساخنا عامرا بالزوابع، الا انه ينبيء هذه المرة بزوابع اكبر، نتيجة لان مشاكل كثيرة مرحلة من الماضي، كانت عصية على الحل، فكان واضحا ان الصيف القادم هو صيف الحسم الذي تنتظره قبائل تناويء الدولة، واعتبرت مطالبها استحقاقات واجبة التنفيذ، وهي استحقاقات لو تم تنفيذها، لهددت كيان الدولة، وكسرت هيبتها، ووضعتها تحت قبائل تميزت بالسلوك الهمجي، الذي قد ينسف المكتسبات الحضارية التي اشتهرت بها الدولة الرستمية، فهناك صراع يتجدد كل عام بين هذه القبائل وبين صاحب الشرطة، وديوان المحتسب وقاضي القضاة، ومكتب المكوس، فهذه القبائل البدوية التي تنتمي في اغلبها إلى جماعة اسمها الواصلية، ولها صلة نسب بقبائل زناته، ومدعومة منها، ومن اتباع قبائل اخرى مثل قبائل مغراوة وبني يفرن، تتقاسم معها المراعي في بادية تاهرت، وللواصلية جالية صغيرة مستقرة في تاهرت، لا تزيد عن ثلاثين الف نسمة، الا انها تتحول في الصيف إلى اكثر من نصف مليون، اذ انها جماعة بدوية تعيش على الرعي، وتنتشر خلال ثلاثة فصول من العام في نجوع تغطي البادية التي تمتد الاف الفراسخ جنوب تاهرت، الا في فصل الصيف، فهي تترك قيظ البادية وحرها وتيبس اعشابها ومراعيها وتلجا إلى هلال اخضر من غياط النخيل، قريبا من تاهرت في وادي اسمه شعب، يستفيدون من تمور هذه الاشجار في قوتهم، ويستخدمون اوراقها ونوى تمورها في اطعام مواشيهم، علاوة على ما يشترونه من اعلاف من المدينة، فهم عندما ياتون لمقرهم الصيفي في هذا الهلال الاخضر من غياط النخيل، تصبح تاهرت هي سوقهم و مكان تجوالهم، ويصنعون بهذا الوجود ثقلا بشريا، تستفيد منه الجالية الصغيرة التي تنتمي اليهم، وتنهض بمطالبها المؤجلة، تطلب من الدولة قضاءها والا استنفرت هؤلاء البدو، الذين يهبون لمناصرة ابناء قبيلتهم تبعا للقاعدة الذهبية العشائرية التي تقول انصر اخاك ظالما او مظلوما، ومطالب الجالية الواصلية، كلها مطالب ظالمين، فهناك منهم من دخل السجن لجريمة ارتكبها يريدون اطلاق سراحه، وبضاعة مصادرة بسبب مخالفات قام بها يريد استردادها او مكوس مستحقة لا يريد دفعها، وعامل طردوه بسبب التهاون والاهمال يريدون اعادته إلى عمله، بل ان بعضهم يغتصب ارضا ويسرق مالا ويريدون الدولة ان تبيح له الاستيلاء على الارض وان تدعه طليقا مع الاموال التي سرقها، مما جعل ثمة خصومة دائمة بين هذه المجموعة والدولة، وهناك من يقول العداء المستفحل للدولة يعود إلى ثورة بن فندين على الإمام عبد الوهاب، بسبب صلة نسب تربطه بهم، فهو من بني يفرن حلفاء الواصلية وابناء عمومتهم، وهناك في جيشه الذي تمت تصفية عناصره، فرسان من الواصلية ولهم اهل يؤججون مثل هذا الخلاف ويحملون ضغينة للدولة، وتشكل مجموعة الواصلية ومناصريها، صداعا مزمنا للدولة بما يثيرونه من مشاكل وصراع يتجدد بتجدد فصول الصيف، وهي ظاهرة تستقطب انتباه البلاد واهلها، خاصة قاطني العاصمة الذين يخشون انهيار الامن، اذا نجح الواصلية في اشعال الفتنة، خاصة وان لبعض ابناء قبيلتهم صلة بعامل الادارسة في العرائش وشمال وجنوب المغرب، و هي دولة لها طموح وتدعم مثل هذه القبائل بالمال وتقوم بتوظيفهافي مشروعها التوسعي باعتبارها دولة اشراف من سلالة النبي، هي الاحق بان ترث دول المنطقة وتصنع من هذا الارث دولة مغربية كبرى، المهم ان المواجهة مع هذه القبيلة ليست فقط ذات طابع اقتصادي اجتماعي لكن لها جوانب سياسية تآمرية، تقتضى اقصى درجات الحنكة والحذر.

وهناك اشاعات تقول ان الإمام نفسه توقع ان تكون المواجهة هذه المرةاكثر شراسة وعنفا، من سابقاتها، وان رحلة الحج لم تكن الا هروبا من المواجهة وابتعادا عن المشهد، لانها عندما تحدث في غيابه فلا يتحمل تبعاتها، وربما انتقل بعاصمة ملكه إلى جبل نفوسه، اذا وصل الصراع إلى مرحلة خطيرة تقتضى انهيار الحكم في تاهرت، فماذا فعلت أروى، وكيف تجلت مواهبها وقوة نباهتها في حسم الصراع لصالح الدولة، بل كانت على درجة من المكر والدهقنة، ان منعت وصول الصراع إلى الذرى التي كان يصل اليها سابقا، عطلته في بدايته، فتلاشى وضاع قبل ان يتنامي ويكبر.


عمدت إلى استدعاء اهل الثقة من ضباط الجيش، وهم غالبا نفوسيون لا علاقة لهم بجماعة الواصلية، وكاشفتهم بخطتها لابطال الفتنة التي يسعى لاشعالها اهل الواصلية في الصيف المقبل، عند احتشاد بدو القبيلة حول تاهرت، تاركين نجوعهم في اقاصي الصحراء، وكانت الخطة تقضى بان يتنكر عدد من العساكر في لبوس رعاة من اهل البادية، تعمل الدولة على تزويدهم بقطعان قليلة من الماعز، يدعون انهم بدو يسبقون بقية بطون القبيلة بالرحيل إلى وادي النخيل، ثم يتم التخلص من هذه القطعان موتا، وتنتشر الاخبار ان وباء قضى عليها، وهذا الوباء لن يقتصر على الاغنام، بل سيصيب براعم البلح في اشجار النخيل ويقضي علي موسم البلح لهذا الصيف الذي يعتاش عليه اهل البادية، وذلك بان يتم رش النخيل خفية، وتحت جنح الظلام،بمادة مسمومة، ثم تعمل كل اجهزة الدولة، من محتسبين وجيش وشرطة واهل قضاء واهل ديوان، على تحذير المواطنين من الوباء، حملة تستهدف اهل البادية قبل غيرهم، وربما يضاف إلى قطعان الماعز بعض اقفاص الدجاج تلقى ميتة في تلك المناطق باعتبار انها ضحية الوباء ايضا، ويمكن زيادة في حبكة المسرحية نقل بعض الموتى من المستشفيات ودفنهم هناك باعتبار ان الوباء وصل إلى البشر ايضا، كي تصاب نجوع البادية بحالة من الرعب تمنعها من الاقتراب من هلال النخيل، وفعلا نجحت الخطة، وانتشرت الاشاعات في طول البلاد وعرضها عن الوباء الذي اصاب غياط النخيل واهلك تمرها، وفتك بالاغنام التي وصلت هناك قبل غيرها، وكاد ان يقضى على البشر لولا عناية الدولة وحرصها بتبليغ الناس وتحذيرهم فانجتهم من الهلاك الذي كان سيلحقهم مع مواشيهم، وانقضى الصيف دون ان يجد اهل الواصلية فرصة للقيام بالاستعراض السنوي لقوتهم، وبدا واضحا ان الوباء سيترك اثرا في النخيل لاكثر من صيف قادم، نتيجة لفعالية السم الذي قضى على جزء من نضارة النخيل واخضرار جريدة واراح تاهرت من مشاكل الواصلية لعدة مواسم قادمة، وغاب الإمام بدلا من عام واحد، عدة اعوام، دون ان تحصل ازمة واحدة مما كان يتكرر حصوله من ازمات، مع هؤلاء القوم، لا يتغلب عليها الا بالاستجابة لابتزازهم وافراغ بيت المال لتلبية طلباتهم وكسر القانون لاخراج مساجينهم واعفائهم من مستحقات مدينون بها لديوان المكوس.


 في حين قامت أروى بدور الإمام في تاهرت، كان الإمام عبد الوهاب لا يجد عملا يقوم به، خلال انتظار وفوده المسافرين إلى المشرق، غير عمل والي جبل نفوسه، لان شيوخ الجبل نفسهم اعتذروا في حضرة الإمام تولى هذا العمل، معبرين عن الحرج الذي يمكن ان يحس به الواحد منهم، اذا كان سيتولى الافتاء، او اصدار الاوامر، او البث في الشكاوى والرد على اصحاب المصالح والقضايا، وهناك الإمام بجلالة قدره، قاعدا بينهم، فهو الاولى، بان تأول اليه الامور، فيبث فيها رأيا ومشورة وفتوى ودينا ودنيا.

هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فانه هو نفسه لم يكن لديه شيء يشغله، غير انتظار وفود، ارسلها ولا تعود، ورسائل بعث بها دون ان يتلقى ردا، فقد بدا واضحا ان تعهدات الامان من الحكام وخوفهم من عبور الف فارس لارضهم، عطل عودة وفوده اليهم، كما ان الفتوى التي طلبها من مراجع دينية، كان بعض هذه المراجع لا يرى نفسه كذلك، فيحيل الامر لمن يراه اكبر منه، واكثر جدارة، وهناك دائما من تواضع العلماء، ما يجعل الجدارة لا تستقر عند عالم بعينه، لانه هو يابى الاعتراف بها لنفسه، محيلا اياها إلى غيره الذي يدفع بها هو ايضا إلى غيره، والإمام عبد الوهاب يقضى ايامه، جالسا صحبة كتبه، منتهزا فرصة عزلته للقراءة والكتابة والتأليف، مخصصا بعض وقته للعلماء، والنظر فيما يعرض عليه من شئون اهل الاقليم.

وكان اهم عمل قام به اثناء هذه الاستراحة الطويلة، التي ارغم عليها ارغاما، هي مساهمته في ثورة قام بها الاباضيون الواقعون تحت سيطرة حاكم طرابلس التابع لدولة الاغالبة، فقد كان حاكما ظالما، فاسدا، طالب الاهالي بعزله، خاصة اهل المزارع والحقول القاطنين خارج المدينة، وعندما تأخر هذا العزل، وواصل الحاكم ظلمه وعسفه، استجمعوا قواهم واستنفروا فرسانهم واحكموا حصارهم على مدينة طرابلس، من اجل عزل الحاكم، ومنع اي تموين يدخل المدينة او احدا يخرج منها حتى يتم تسليم الحاكم اليهم، او اعلان عزله واحلال حاكم بدلا منه، وتناهي اليهم ان امير الاغالبة في القيران قد ارسل فرقة من الجيش لنجدة الحاكم وفك الحصار على المدينة، وهو ما دعا الثوار إلى الاستنجاد بامام الدولة الرستمية الذي استجاب لندائهم، فاستنفر الف فارس من اهالي الجبل، مع فرقة حراسته المكونة من الف فارس، وقاد فرسانه يعترض بهم الحملة القادمة من القيروان ويحول بينها وبين الوصول إلى الثوار، قائلا لقائدها بانه لا يريد الدخول في معركة معه، وما يطلبه هو ان يترك الثوار يصفون حسابهم مع حاكم مدينتهم، وخشى امير دولة الاغالبة في القيروان، ان يستولى الإمام الرستمي على طرابلس، فجاء مسرعا يطلب الصلح، ويستجيب لمطالب ثوار طرابلس، ويعقد صلحا مع الإمام، يرسم الحدود بين دولته والدولة الرستمية، بحيث لا يحتفظ الا بمدينة طرابلس وشريط ساحلي يوصلها بدولة الاغالبة في تونس، بينما يبقى كل البر الطرابلسي وإلى حدود سرت تحت سيطرة الدولة الرستمية.

وكان موجودا مع الإمام في حملته لنجدة طرابلس، قائد الجيش في جبل نفوسه، الشيخ سعيد الويغوي، ولم يكن شديد الحماس للدخول في اي حرب، ومتوجسا من حلمه الذي ما زال يظهر له كل ليلة، جالبا إلى نومه البوم الذي يغطي البلاد، واستجابة لمشورته وقف الإمام بجيشه، معترضا جيش القيروان، دون ان يقدم على اي نوع من انواع الاشتباك العسكري، وكان يحمد الله الذي اعفاهم من الدخول في حرب، وان ظروفا تمر بها دولة الاغالبة حتمت على اميرها، ان يذعن لمطالب الثوار، وياتي صاغرا للتوقيع على هذا الصلح المهين مع الإمام عبد الوهاب، الا انه لم يكن مرتاحا لما يضمره قادة الجيش الاغلبي، وصارح الإمام بما يشعر به، فهم يضمرون حقدهم في قلوبهم، ولا ينسون ضغينتهم، وسيعودون للانتقام حتى بعد قرن من الزمان
ــ سنكون على استعدا لهم باذن الله.
ــ لا ادري متى، لكن سيعودون.
ــ ربما اقتضى الامر مزيدا من الاستعداد.
ــ في جبل نفوسة لا نتوقف يوما عن تطوير دفاعاتنا
ــ وهو ما يفعله قادة الجيش في العاصمة 
ــ نعم، فالتحديات لا تنقص بل تزيد
ــ ودولتنا ايضا لا تنقص بل تكبر
نعم، قال الشيخ سعيد في نفسه، لكن لماذا يواصل حلم طيور البوم، ازعاجه طوال هذه السنين، دون توقف ولا هدنة، سؤال لم يكن الشيخ يملك له جوابا.


حدث اخر من احداث اقامته في جبل النفوسيين، لعله هذه المرة ادخل على قلب الإمام بعض الفرح والبهحة، لانه حدث يتصل بجانب شخصي عاطفي في حياته، فقد كان هناك بستان من التين يشكل جزءا من البيت الذي يسكنه، وعلى عادة اهل الجبل مع بساتينهم، يقومون بتاجيرها خلال موسم الغلة لمن يقوم بجني التمار وبيعها، وفي احدى الصباحات، والإمام يتنزه في حديقة البيت، وجد رجلا ايطاليا يقوم مع اسرته بجني التين الناضج من البستان، وكان للرجل الايطالي ثلاث بنات لهن جمال لم ير له الإمام مثيلا فيما راى من نساء، فساله بعد ان عرف من يكون، لمن ينتمي هذاالجمال، وكيف انه لم يكن على علم بوجود مثله في ارض البشر، فقال له الرجل انه تاجر يعيش في قنطرارة، ويتاجر مع الحواضر القريبة، الا انه من اصل صقلي، وهذا هو نوع الجمال الموجود في بلاده، ولا مانع لديه، طالما هو يعيش في بيت صاحب البستان، صديقه الشيخ سعيد بن وسيم الويغوي، ان يزوجه واحدة منهن اذا كان يريد، طالما ان دينه لا يمنعه من الزواج من فتاة مسيحية كاثوليكية، واستمهله يوما للتفكير، وفي المساء اختلى بصديقه الشيخ سعيد، يخبره بما راه من جمال هز وجدانه، وما عرض له في بستان التين من موقف مع التاجر الايطالي وبناته، فاحس الشيخ سعيد ان هناك ميلا في قلب الإمام للزواج من احدى البنات الجميلات اللاتي رآهن، وقال له ان هناك تقليدا للرحالة والتجار العرب الذين ينتقلون من مكان إلى اخر، بان يبنوا في كل بلد يذهبون اليه بواحدة، يقضون معها المدة التي يحتاجها عملهم في ذلك المكان، ثم عند الرحيل يصرفونها بمعروف ويعطونها مؤخر الصداق ويتحللون من الرباط الزوجي، ليتجدد هذا الرباط في بلد اخر مع إمرأة اخرى، وهذا في رايه لا يجلب ضررا ويحمي به المسلم نفسه من الوقوع في الحرام، واثار الإمام معه مشكلة ان يكون له خلف منها، فاجابه بان الحل سهل، هو استشارة احد الذين يعرفون حساب ايام الخصوبة، فيضع له حلا، يكفل له زواجا بلا بنين ولا بنات. وكان ما اراده الإمام عرسا سريا لا يصل خبره لاحد خارج النطاق الضيق لاهل الفتاة، وشاهدي العقد، الذي سيعقده الشيخ سعيد نفسه، وفي اليوم التالي عقد على الفتاة التي اختارها من بنات التاجر، واعطاه مهرا مجزيا اسكته عن المطالبة بعرس واشهار، وعندما اختلى بزوجته، سالها ان تدخل الاسلام علي يديه، فاجابته بان والدها منذ البداية اخبره بانها ستبقى على دينها، فقال لها الإمام امتناعها معناه طلب الطلاق، فظلت تبكي قائلة ان دينها يمنعها ان تطلب فك الرباط المقدس الذي جمعها به، واذعنت لرغبة زوجها في ان تسلم علي يديه، واشترطت الا يخبر باسلامها احدا من اهلها، لانها لا تريد ان تدخل الكدر على نفس امها وابيها اذا عرفا بحدوث تغيير في دينها. وابقى الإمام زواجه سريا، لا يعلم به احد من معارفه غير الشيخ سعيد. قضى معها عاما، اعطاها في اخره مؤخر الصداق، وارسلها حرة من رباطها المقدس، ولان الموفدين إلى المشرق تاخروا في العودة، فلم تصله الفتوى بالسفر، ولا مواثيق الامان من الحكام، فامر عساكره بطي الخيام، والاستعداد للعودة من حيث جاءوا، وكانت الفائدة الثانية التي عاد بها الإمام من تغريبته الجبلية النفوسية، غير عام الامتاع والمؤانسة صحبة الزوجة الايطالية، كتاب انجز تأليفه، معتمدا على حواراته مع علماء جبل نفوسه اسماه، "مسائل نفوسة الجبل".

 

ورقة ثالثة من دفتر الشاعر 


 لتاهرت ابواب اربعة، اضاف لها الإمام عبد الوهاب بابا خامسا هو اجملها واكثرها فخامة اسماه باب المجد، باب الامير مرداد، تخليدا لذكرى الانتصار على النكارية الذين هاجموا القصر، وفيه من اسمه جلال المعمار وشموخه، اما الابواب الاخرى التي تاسستْ مع بدء تأسيس المدينة، فهي باب الصفاء، وباب المنازل، وباب الاندلس، وباب المطاحن، وهي تتوزع بين الجهات الاربع لتاهرت، وعدا الباب الخامس الذي لا يخدم غرضا غير الزينة، فان لبقية الابواب وظائف تقوم بها، هي استقبال الوافدين من خارج العاصمة، وفي مقدمتها قوافل التجارة القادمة من اقطار اخرى، وقد يقف الحراس على هذه الابواب، يراقبون الداخلين والخارجين، ويرصدون من يوجب عليه دفع المكوس ومن لا مكوس عليه، وكان باب الاندلس هو احبها لي، لانه الباب الذي يقصده ويدخل عبره، بعض اهل مدينتي الاصلية تلمسان، ولا يعدم ان اجد انسانا اعرفه قادما من هناك، يحمل اخبار الاهل والصحاب، وقد تناقصوا مع مرور السنين، فلم يعد احد من اقارب الدرجة الاولى على قيد الحياة، مما جعلني زاهدا في زيارتها، لانني ساجد نفسي اعيش مع القبور، وهو شيء لا تقبله نفسي، ولا تقبل مجرد الحديث عن الموت وذكره، مع اقتناعي بانه اكبر حقائق الوجود، لكنني اقول فليات متى حا، دون ان يمنعني ذلك من ان اتجاهله واتناساه، ولا ارى حاجة لاستذكاره واستحضاره. قد يشدني الحنين إلى مرابع الصبا ورفاق ازمنة الطفولة، لكن للسفر متاعبه التي لا اجد حماسا لتحملها، وللسفر نفقاته التي ستكون ارهاقا لميزانيتي، زد على ذلك انني لا اطمئن إلى حكامها ونظرتهم المتزمتة للحياة، واسلوبهم المنغلق الذي يسوسون به الرعية، مما يجعلني الهج بالثناء على حكامنا في هذه البلاد، وسعة صدرهم، رغم انني لا اقترب من ابوابهم ولا اختلط بهم، واحتفظ بمساحة تفصل بيني وبين كبار العاملين في الدولة، لمعرفتي بان القرب منهم يجلب المهالك في النهاية مهما بدت المظاهر لامعة مغرية، وهم ليسوا جميعا محمودي السيرة مثل امامهم، فهناك حديث عن فساد واستغلال يتفشى بين صفوفهم، معنى ذلك انهم لا يختلفون عن امثالهم في الدول الاخرى. واذكر انني كنت صغيرا وغشيما عندما بدأت اعبر عن نفسي شعرا وانا في سن المراهقة في تلمسان، وجعلت من مثل هؤلاء الفاسدين في الدولة هدفا لقصائد هجاء اكتبها، ولم يكن والدي راضيا عن هذه القصائد، خوفا مما يمكن ان تجلبه لي من ضرر، فيحاول اقناعي بالعدول عن كتابة شعر الهجاء قائلا لي ان الله لو شاء لعالمنا ان يكون خاليا من الانحراف والعيوب، لابقانا في الفردوس، لكننا نعيش في عالم ارضي، عالم القصور الانساني، والخطيئة الابدية التي يتوارثها البشر، فلا تنشد، يقول لي، عالما انتهت فيه المشاكل وتحرر فيه البشر من عيوبهم وضعفهم واثامهم، لانه عالم لا وجود له الا في السماء. وهي نظرة واقعية موضوعية لا نهتدي اليها الا بعد الوصول إلى سن النضج والتجربة، ولا اقول بعد فوات الاوان.


 وتنشأ حول هذه الابواب، اسواق شعبية، وتقام اكواخ وتنصب خيام لتكون محلا لاقامة العابرين من اهل القوافل، وهناك تجار متجولون، يقصدون هذه الابواب، ويلتقطون رزقهم من صفقات يقومون بها هناك، واذا ذهبت متجولا في هذه الاسواق، فلا ابحث الا عن بضاعة واحدة، هي المخطوطات، اذ يمكن ان اصادف فقيها، او عالما يصاحب هذه القوافل، وفي يده مخطوط يريد بيعه ليحصل على نقود يصرفها اثناء الرحلة، فاشتريه منه لابيعه مقابل ربح بسيط إلى المكتبة المركزية، او احد دكاكين الوراقين.


 ميزة تاهرت ان بيوتها من زجاج، ودواوينها من زجاج، وقصر الحاكم فيها مصنوع من زجاج، ليس بالمعنى الحرفي، إنما بالمعنى المجازي الرمزي، اي ان لحيطانها شفافية البلور، فكل شيء خلفها مكشوف، لا تقدر ان تحجب او تخفي شيئا. 


 ايام قليلة بعد ان غادر الإمام تاهرت، في رحلة الحج، عرفت المدينة، وصار يتردد على السنة اهلها كبارا وصغارا، ان القائمة بدور الإمام، التي تتولى حكم البلاد في غيابه، هي شقيقته السيدة أروى، التي صاروا ينعتونها بالإمامة، وهي تسمية لم تعجبني، فاطلقت مقولتي التي استقبلها بعض الناس بفرح وحماس، في كلمات يسهل حفظها وترديدها " لا تقل أروى الإمامة، انها احلى يمامة" وهي حقا تستحق ان تكون يمامة الدوح، ومثلها مضرب الامثال في الوفاء الذي تتميز به، وفي مقدمته وفاؤها لاسرتها وصدق ارتباطها بشقيقها، وهناك عشرات يحومون حولها، يريدون الزواج بها، لكنها قررت ان تكرس حياتها لتربية ابنها وابنتها، ولم تستجب لاي اغراء او غواية. مع ما تعطيه من وقت وجهد للدولة، فانها لم تترك رسالتها التربوية التعليمية،وواصلت الاشراف والتوجيه والاعتناء بهذه المدارس برغم ما يكلفها ذلك من جهد ووقت اضافيين. 


 لا ادري مدى انعكاس شخصيتها على ادارة الدولة في غياب شقيقها، كل ما استطيع قوله اننا جميعا في تاهرت لم نشعر باي فراغ تركه غياب الإمام الذي استمر عاما وراء الاخر، لان السيدة أروى استطاعت بحكمتها وحصافتها وقوة ادائها، ان تملأ هذا الفراغ.


 حدث معي فصل مضحك منذ ايام، وهو ان الغانية التي اراها في حانة الخان، واسمها "مونيا"، ذات اصل يوناني، وأختلى بها مرة كل أسبوعين، واحيانا كل أسبوع، فاتحتني اثناء خلوتي معها في هجعتنا الحميمية، انها تريدني ان اتزوجها، فصارحتها بان هذا موضوع لا احب ان اخوض فيه، ولا اريد سماعه، ولا اضع في خطتي للمستقبل، وحتى نهاية العمر، ان اقترف عملا كهذا، وافهمتها ان حدود العلاقة بيني وبينها، تقوم على لقاء يتكرر مرتين او ثلاث او اربع مرات كل شهر، تاخذ ثمنه حسب الاتفاق، عدا ذلك فانا احب ان اكون عصفورا مغردا، ينتقل من شجرة إلى اخرى، او من وردة إلى خرى، او من بستان إلى اخر، حريتي هي مكسبي في هذه الحياة، الذي يعادل الحياة نفسها.

فاذا بالسيدة مونيا تنهمر في البكاء، قائلة عبر التنهدات والعبرات والاجهاش بالبكاء، ان في احشائها جنينا هو طفلي، فدقت في راسي كل نواقيس الحيطة والحذر، تقول ان في الامر ابتزازا وخداعا وتمثيلا، ربما لانني مسلم يرتاد حانة محرمة على امثاله، فيمكن اخضاعه لما تريد بالوشاية، وتهديده بتبليغ صاحب الشرطة. لم اجادل، ولم افاصل، ولم ارد بشيء على ما سمعته من ادعاء.

كانت ليلة اشتد بردها، وخالط البرد هطول ثلج خفيف، وكنت قد جئت إلى الحان متلفعا بعباءة ثقيلة من الجلد، كانت مطروحة بجواري، فاخذت العباءة ووضعتها على جسمي، وهرعت خارجا من الحان، دون ان التفت خلفي. خرجت اسوخ باقدامي في ثلج الطريق، احاول ان اتقي هطول المطر والثلج بالمشي ملتصقا بالجدران، ولم اعد منذ تلك اللحظة إلى الحان ولن اعود اليه.

انتظر صيفا سياتي بعد بضعة اشهر، لاجد في السرادقات التي تقام على ضفاف نهر سيرات، تعويضا لما افقدتني اياه حماقة إمرأة يونانية. فلا تقل لي ان هناك فرقا في الحماقة بين إمرأة من الغرب او من الشرق، أو من الريف أو من المدينة. هناك عطب يشتركن فيه جميعا، ويتصل دائما بتوريط رجل، يتخذنه حائطا يستندن عليه او عكازا يتقين به عثرات الطريق. ومشكلة مونيا انها صادفت رجلا مثلي، يكره ان يكون حائطا ويكره ان يكون عكازا، مصمما على ان اعبر طريق الحياة، من مبتداه إلى منتهاه، منفردا، لا اعزف الا لحني، ولا ارقص الا مع نفسي