الإبهام الأول
يخترق الريح ويسابقها بسرعة جنونية وهو يقود سيارته بيد واحدة والأخرى يتكئ بها على زجاج نافذة السيارة لا شيئ يعترض طريقه فالطريق خال من السيارات لا شيئ يشاركه غير تطاير بعض الأوراق و الأكياس الفارغة على جانبي الطريق وحفيف أغصان أوراق الأشجار المصفوفة على جانبي الطريق تذاعبها الرياح المندفعة و اضاءات أنوار كشافات الأعمدة تنعكس تارة على إطار سياراته وتارة على على قارعة الطريق الممتد وهو يغوص على ايقاعات الأغاني الصاخبة المنبعثة من جواله عبر البلوتوث إلى سماعات تسجيل سيارته الفارهة فلا يستفيق إلا على ارتجاج عجلات السيارة في حفرة من حفر الطريق المهترئ
فيتضجر مما لحق بالسيارة وهو يلعن تلك الحفر :
اللعنة.. اللعنة
لكنه يواصل السير المندفع على طول الطريق لا يرافقه إلا نسمات الهواء المندفعة في عكس اتجاهه وأعمدة الإنارة المرصوصة على جانبي الطريق وبصره منصرف صوب الأفق الممتد إلى ما لا نهاية .
من بعيد يلوح في الأفق ضوء كشاف منبعث يتحرك يمنة ويسرة يخفف من سرعة السيارة كلما اقترب من مصدر الضوء المنبعث وكلما كان قريبا من مصدر الضوء الذي يدعوه للوقوف يتبدد الضوء ويتلاشى وكأن شيئ لم يكن فيقول في نفسه :
تهيؤات .. ربما لأني لم انم منذ يومين
يواصل السير فالطريق طويل و المنعطفات تزداد تعقيد والظلام يشتد في تلك الليلة غير المقمرة واختفاء أعمدة النور كلما توغل في السير وبدأ الطريق يتعلق بالمرتفعات ويتجه نحو القمم وتغير المناخ انخفضت درجة الحرارة وأخذ الصقيع يلفح جلده وأطرافه ؛ اغلق زجاج نافذة السيارة واستدار نحو المقاعد الخلفية يبحث عن رداء أو شال يتدفئ به يتحسس المقعد بأصابع يده فيشعر بدفئ كف انسان وانفاس تتصاعد شهيقا وزفيرا يتسلل الخوف إلى قلبه يهدأ من قيادة السيارة يحاول الوقوف على جانب الطريق يفتح الباب يترجل خارج كبينة مقعد القيادة يشعل مصباح السيارة فلا يضئ يشغل مصباح الجوال يحاول النظر في المقاعد الخلفية فلا يرى شئ فيحدث نفسه،,:
إنها تهيؤات.... ساحاول النوم قليلا
يجلس في المقعد الخلفي لسيارته ثم يضجع على شقه الأيمن ويضع كفيه تحت رأسه والظلام يحيط به من كل مكان يغوص في نومه فينقطع عن محيطه ليدخل في عوالم من ماضيه المؤلم .
تمتد إليه يد تتدفق دفئ وحنان يسترسل في نومه حتى تستمر أمه في مداعبته وهي توقظه:
بني وقت المدرسة .. هيا أنهض
يتظاهر بالمرض ويبالغ في عدم قدرته على النهوض وبصوته الطفولي يطلب من أمه تركه على فراشه:
ماما لا استطيع النهوض .. أنا مريض
من ناحيه من نواحي المنزل يهمهم صوت والده:
دلعك المبالغ للولد سيضيعه
وكلما أرتفع صراخ والده ارتعدت فرائصه فيضع اللحاف على كامل جسده وهو يتحسب قدوم والده لتوبيخه:
قم أيها المدلل
تتقدم الأم وهي تصرخ :
اترك الولد .. أنه مريض حرارته مرتفعه
يزمجر الأب غاضبا من طريقة تربية الأم لولدها ومبالغتها في تدليله وهو يقول:
بهذه الطريقة تضيعين الولد
يغادر الوالد نحو عمله يسمع صوت المحرك يتصاعد ودوران إطارات السيارة تغادر فينهض من تحت لحافه ويقبل نحو جواله الخاص يلعب بالالعاب الالكترونية المحفوظة بذاكرة الجوال .
صفير أبواق السيارات يملأ المكان ضجيج يفتح عينيه مازال الظلام الدامس يخيم على المكان يحاول النظر فلا يرى شئ يرتدي معطفه الثمين ويضع طاقية الصوف فوق رأسه ثم يفتح باب السيارة ليغير وضعيته فترتعد أطرافه من شدة البرد فالبرد قارس ودرجة الحرارة هبطت إلى المستويات يسارع للجلوس في مقعد القيادة يوصل الوقود للمحرك فتنطلق السيارة نحو الأفق البعيد الممتد دون نهاية.
الصمت يلف كل شئ ولا أنيس في وحدته يكسر خوف نفسه ويخفف من هواجسه في حلكة الليل الموحش والظلام القاتم سوى ذكريات الماضي رغم ضجيج صوت مكبر التسجيل تتردد عبره الأغاني الصاخبة لكنه يقترب من مشاهدة والده عندما عاد بعد انقطاع عن البيت في مراهقته الفوضوية الثائرة على كل توجيهات والده ومحاولته كسر كل ما زرعه والده فيه من قيم .. يعود بعد خوضه تجربة السجن في سجون الأحداث وبعد خروجه لم يكن إلا البيت المكان الذي شعر بأن الأمان لن يكون إلا فيه عائد وهو يفكر في حضن والديه يعيد لنفسه الإطمئنان لكن البيت محاط بجموع من الرجال يعرف بعضهم وينكر الأخر وما أن تقدم نحو المنزل يبادر البعض بمصافحته و عناقه وهو يلقي إليه دعاء التعزية:
عظم الله أجرك
تتصاعد أنفاسه شهيقا وزفيرا يبادر بالدخول نحو باب منزلة وفي غرفة المعيشة يلمح السواد يغطي المكان فكل النساء يرتدين السواد حتى أمه في أحد أركان المنزل يصرف نظره نحو غرفة النوم يلمح جسد مسجى على حافة السرير يكسوه البياض فيرتفع صوت الأم بالبكاء وترافقها النساء في النواح:
مات والدك
تتصاعد انفاسه شهيقا وزفير حتى يسمع صداها وهو يجرجر قدميه نحو جثمان والده ليلقي عليه النظرة الأخيرة
عصام مريسي