آخر تحديث :الخميس-06 فبراير 2025-06:02م
أدب وثقافة

غموض ( قصة)

الخميس - 06 فبراير 2025 - 02:48 م بتوقيت عدن
غموض ( قصة)
بقلم / عصام مريسي

اللبس. الثالث


لم تتوقف الطواقم الطبية عن تقديم الإسعافات التي يحتاجها جسد الشاب غريب الأطوار مختلف الصفات وهو يرقد نزيلا على أحد أسرة المشفى ولم يترك طبيب أو استشاري في تخصصه إلا تم استدعاؤه للاشراف على الحالة التي لم يشهد الأطباء و الطواقم المساعدة لهم مثيلا لها وما هي عليه من تشبت واصرار علي الحياة رغم كل الآفات التي المت بجسده المنهك وعلى مرأى لفيف الاخصائيين ومرافقيهم يتلاشى الجسد شيئا فشيئا ويتسرب عبر أنابيب الأدوية والغذاء المتصلة بجسده كأنه ينبوع غدير يتدفق ببطئ ليخرج من دائرة الحصار ومن ضيق المساحة التي يرقد عليها لينثر فيضة على كل رقعة من حوله وهو يتسلل نحو الأفق البعيد وجموع الأطباء مبهورين بالمشاهد الخرافية التي تحدث وقبل أن يغادر المكان ويستعيد بنيته التي كان عليها قبل أن تلم به الحوادث و تتعاقب عليه الملمات يقف إلى جوار والدته التي ما زالت ترتدي لباس عرسها معاتبا لها:

أمي .. لا تدخلي هذا الغريب

بانكسار واحساس بالضعف يتجلى في قسمات وجهها و شرود عينيها عن ملاقاة عيني صغيرها وحروف مرتعشة في لسانها تتساقط عن فيها كأنها لهيب تقذفه من صدرها المحترق بالندم:

ظننت أنه سيكون عونا لي ولك بعد رحيل والدك يرعى مصالحنا

ينهض بعد أن كان جاثيا متشبت بفستان أمه الأبيض حتى يسمو و يتجاوز قامتها وهي ترفع بصرها نحو عينيه ويخاطبها قائلا :

لم تكوني تثقين بقدرتي على تصريف أمورنا دون أن نكون بحاجة لمساعدة الأخرين

تتنهد وترسل زفيرا قبل أن تجيب:

كنت أراك طفلا.. ولم انظر إليك رجلا

بصوت رجولي جهوري يحاورها:

نظرت إلي طفلا عاجزا فتسلق وتسلط علينا من يريد ابتزازنا والعبث بحقوقنا .

مازالت عينيها شاردتان تتجول في أنحاء المكان الفسيح تحاول الابتعاد واللقاء بعيني ولدها حتى لا ترى نظرات اللوم وهي تعترف بندم عن اندفاعها والخطأ التي وقعت فيه بخيارها المتعجل دون تأني ودراسة:

رأيت فيه شيم الرجل النبيل الذي سيصوت مصالحي ومصالحك وهو الغني الذي لن يطمع بما عندنا لكنه كان يخفي أطماعه و نواياه الدنيئة ويتحين الفرصة للانقضاض والسيطرة علينا ويعبث بنا وما نملك.

من بعيد ومن شرفات المكان الكثيرة و اللامتناهية يقف الأب وقد تجرد من أكفانه يرقب الموقف حتى يخيم الصمت ويسود الغموض الموقف وتلتبس الأحداث في ثنايا بعضها بين المعقول و اللامعقول وبين جلاء الحقائق و سراب الخيال ويتفجر حاجز الخوف وتنجلي شبهات التضليل فما أن يقدم زوج الأم باديا زيف قلقه وعينيه تذرف سيلا من دموع التماسيح متباكيا عن الحال الذي وصل إليه الشاب:

ماهي أخبار ولدي .. هل سيعيش ؟ هل صحته تتحسن؟ سيعود مرة أخرى إلى الحياة؟!

‌تنهض الأم وتبادر مخاطبته بلهجة يشوبها القنوط من وعوده وتظاهره بالنوايا الحسنة:

‌عليك مغادرة حياتنا.. هذا قرار خلعك... ارحل

‌تثور حفيظته ويفقد السيطرة على تصرفاته في صراخ عنيف:.

‌أنا من وفرت لكم الحماية والدعم والسند وحفظت كل مصالحكم

‌تقف في شموخ وبصوت متزن تجيب:

‌أرحل.. بنواياك الخبيثة .. لقد أخذت ثمن ما قدمت وأكثر.. عليك الرحيل

‌مازال الأب الفقيد يرقب المشهد من أحد زوايا المكان فيشعر بالارتياح ويقرر المغادرة بعد إن اطمأن عن حال أسرته ومن بعيد ينهض الشبل الصغير فيرتفع صبيا حتى يغدو شابا فرجلا.

‌تعصف الرياح حتى تكون أعاصير تعصف بكل شيئ فتتطاير الأكاذيب والأوهام وكل ما وضع على أساس هش ويقبل الشاب نحو والدته يقبل رأسها ويجثو تحت قدميها واعدا لها :

‌لن أبعد عنك بعد اليوم ولن أدعك فريسة لذوي الأطماع والنوايا السيئة . دائما سأكون سندك وعونا لك

‌تمد كلتا يديها نحو جسده وترفعه إليها مقبلة رأسه وهي تنظر نحو الغد بشموخ وعزة قائلة:

‌لن أطأطئ بعد اليوم رأسا ومثلك ولدا لي .

‌تغادر الأم وولدها في موكب الشموخ وانتصار النفس تاركة الماضي الذي جثم على أنفاسهم صريع يحتضر على قارعة الطريق المظلم للندم يعظ كلتا أصابع يديه ويشعر بالحسرة ويعتصره الغيظ على خسارته.

‌يدخل الشاب وأمه البيت الذي أرقه الغرباء حينا من الزمن وهما يعيدان ترتيب الأوضاع حتى يكون أمنا مستقر.

‌عصام مريسي