آخر تحديث :السبت-22 فبراير 2025-10:54ص

بين الأصالة والاغتراب.. رحلة الإنسان في عصر التحولات

الخميس - 05 ديسمبر 2024 - الساعة 10:30 ص
ماهر باوزير

بقلم: ماهر باوزير
- ارشيف الكاتب


ثنائية الأصالة والاغتراب ليست مجرد حالة فردية، بل تجربة إنسانية ممتدة تعكس الصراع الأزلي بين الانتماء والتحرر، الأصالة تُعبّر عن ارتباط الإنسان بجذوره وهويته، بينما يُجسد الاغتراب الانفصال النفسي أو الثقافي عن الذات أو البيئة بفعل التحولات الاقتصادية والاجتماعية المتسارعة وبين هاتين القوتين المتناقضتين، تتشكل رحلة الإنسان في عصر الحداثة، حيث لا يبقى شيء على حاله .

الأصالة ليست حنيناً عابراً إلى الماضي، بل هي عملية واعية لإعادة قراءة التاريخ وانتقاء العناصر الحية منه، تلك التي يمكن أن تواجه متغيرات الزمن وتُعيد بناء الهوية بأسلوب يتماشى مع العصر، في هذا السياق، تتحول الفنون الشعبية، مثل الشعر والموسيقى، إلى أدوات مبتكرة تدمج بين التراث والتقنيات الحديثة، فتصل إلى الأجيال الجديدة عبر المنصات الرقمية، جاعلةً من الأصالة حالة متجددة وليست مجرد ذكرى ساكنة تاريخياً، لطالما كانت الأصالة عاملاً حاسماً في صمود المجتمعات أمام محاولات الطمس الثقافي، كما يظهر في تجارب الشعوب خلال فترات الاستعمار، حيث أُعيدت صياغة الرموز الثقافية لتصبح شعارات للمقاومة وإعادة التأكيد على الهوية .

على الجانب الآخر، يشكل الاغتراب جزءاً لا يتجزأ من التجربة الحداثية، المدينة الحديثة، بأبراجها الشاهقة وسرعتها الصاخبة، تُجسد حالة من الانفصال والانعزال، حيث يُصبح الفرد غريباً حتى وسط الزحام ويتجاوز الاغتراب كونه مجرد إحساس نفسي ليشمل أبعاداً لغوية وثقافية، حيث تُفرض مفاهيم ومصطلحات مستوردة تزيد من الفجوة بين الإنسان وجوهر ثقافته الأصلية ومع ذلك، لا ينبغي أن يُنظر إلى الاغتراب بوصفه حالة سلبية مطلقة؛ فهو في كثير من الأحيان يمثل فرصة لإعادة اكتشاف الذات وإطلاق شرارة الإبداع، والتجربة الاغترابية لدى العديد من المفكرين والفنانين على مر التاريخ ولّدت أعمالاً عظيمة، تجاوزت حدود المعاناة الشخصية لتصبح تعبيراً إنسانياً عالمياً .

الأصالة والاغتراب ليستا نقيضين متصارعين، بل جدلية حية تنبض بالإبداع والتوتر، الأصالة تمنح الإنسان جذوراً راسخة تحميه من التشتت، بينما يفتح الاغتراب أمامه أفقاً واسعاً للتأمل والتجريب، الإنسان الحداثي، في مواجهة هذه الثنائية، لا يسعى إلى اختيار أحدهما على حساب الآخر، بل يعمل على تحقيق توازن يضفي على وجوده معنى أعمق هذه الثنائية، رغم ما تحمله من تناقض ظاهري، تُثري التجربة الإنسانية، وتجعل منها حالة فريدة من الانفتاح على عوالم جديدة دون فقدان الارتباط بالجذور .

التفكيك الحداثي الذي هدم كثيراً من المسلمات الثقافية التقليدية، أتاح في الوقت نفسه إمكانية إعادة البناء على أسس مرنة، الأصالة، في هذا السياق، لم تعد مجرد دعوة للماضي، بل مشروع يتطلب قراءة نقدية للتاريخ واختيار ما يمكن أن يستمر في الحياة أما الاغتراب، رغم ما يحمله من ألم، فقد أصبح فضاءً خصباً للتأمل والإبداع، أعمال أدبية وفلسفية كبرى، تجسد هذه الثنائية بامتياز، حيث يصبح الاغتراب مدخلاً للتساؤل حول معنى الوجود وإعادة تعريف الهوية .

الإنسان في عصر التحولات يعيش حالة دائمة من التفاعل بين الأصالة والاغتراب، الأصالة تمنحه العمق الروحي، بينما يفتح له الاغتراب آفاقاً جديدة لإعادة تعريف ذاته وعلاقاته مع العالم، في هذا التفاعل، لا تُلغى إحدى القوتين لصالح الأخرى، بل تتشابك في جدلية حية تمنح الحياة عمقاً ومعنى، هذه العلاقة الديناميكية، بكل ما تحمله من توتر وإبداع، هي التي تجعل التجربة الإنسانية أكثر ثراءً، وتعيد تعريفها في عالم سريع التحولات .