عندما انطلقت الاحتجاجات الشعبية في العالم العربي قبل أكثر من عقد، استبشر البعض بأن المنطقة تتجه نحو "ربيع عربي" يحمل معه أزهار الحرية وأحلام الديمقراطية، إلا أن ما بدا وكأنه لحظة فارقة في التاريخ سرعان ما تحول إلى مسار محفوف بالتحديات، حيث تساقطت أوراق الأمل سريعاً، لتدخل المنطقة في خريف جاف مهد الطريق أمام شتاء قاسٍ ما زال يلقي بظلاله على واقع الدول والشعوب .
في السنوات التي أعقبت تلك التحولات، برزت ملامح مرحلة جديدة اتسمت بتفكك الدولة الوطنية في العديد من الدول العربية وصعود شبكات النفوذ الإقليمية والدولية التي أعادت رسم الخريطة السياسية وفق مصالحها. هذا الشتاء العربي لم يكن مجرد فترة انتقالية عابرة، بل جاء كمرحلة تجمدت فيها طموحات الشعوب، واشتدت فيها الانقسامات الطائفية والمذهبية، وتفاقمت الأزمات الاقتصادية التي جعلت الشعوب عالقة بين مطرقة الفقر وسندان الصراعات متعددة الأوجه .
ليس خافياً أن هذه المرحلة كشفت هشاشة بنى الدولة الوطنية، التي لم تصمد أمام اختبارات العدالة الاجتماعية والحوكمة الرشيدة، وفي الوقت ذاته، أظهرت قدرة القوى الخارجية على التلاعب بمعادلات القوة داخل الدول العربية، وتحويل الأزمات إلى أدوات دائمة للضغط وإعادة تشكيل الولاءات، ومع غياب المشاريع الوطنية الجامعة، تحولت هذه الأزمات إلى واقع مستدام يصعب تجاوزه .
ومع ذلك، فإن التاريخ يعلمنا أن الفصول القاسية غالباً ما تحمل بذور النهوض، الشتاء بكل قسوته، قد يكون بداية لوعي جديد يدفع الشعوب إلى إعادة التفكير في حلول من داخلها، بدلاً من انتظار تدخلات خارجية لا تهدف إلا إلى تحقيق مصالح ضيقة، لكن الوصول إلى ربيع حقيقي يتطلب مراجعة شاملة لمفهوم الدولة ودورها، والابتعاد عن الحلول المؤقتة أو السياسات الترقيعية التي تعمق الأزمات بدلاً من معالجتها .
ربما كان أحد الأخطاء الكبرى التي وقعت فيها النخب السياسية هو تجاهل بناء مؤسسات قوية قادرة على الصمود أمام الأزمات، مؤسسات تستوعب التنوع السياسي والاجتماعي وتعيد بناء الثقة بين الدولة والمواطن، ولتحقيق ذلك، لا بد من إصلاح جذري يبدأ من التعليم وصولاً إلى الاقتصاد، ومن الهوية الوطنية إلى المشاركة السياسية، بحيث تتسق كافة الجهود في إطار مشروع وطني شامل يعيد تعريف العلاقة بين الحاكم والمحكوم .
الشتاء العربي ليس قدراً محتوماً، إنه مرحلة عابرة، قد تطول، لكنها تحمل في طياتها إمكانية التغيير، الطريق إلى الربيع الحقيقي يبدأ بتجهيز التربة الوطنية، والعمل على إصلاح المناخ السياسي والاجتماعي ليصبح قادراً على استقبال بذور التغيير، ربما يكون الشتاء قاسياً، لكن إرادة الشعوب أقوى من أي عاصفة، ومتى ما توفرت العزيمة والقيادة الحكيمة، فإن هذا الشتاء القارس قد يتحول إلى فجر جديد يُعيد الأمل للمنطقة وشعوبها .