لم يعد الحديث عن غياب الدولة في اليمن مجرد تحليل سياسي عابر، بل أصبح واقعًا يعيشه الجميع منذ سنوات، القرار السيادي لم يعد بيد المؤسسات الرسمية التي يُفترض أنها تمثل الشعب، بل صار أسيرًا لشبكات النفوذ التي تتحكم في مسار الأزمات والحلول على حد سواء، هذه الشبكات، التي تضم أطرافًا محلية وإقليمية، تعمل على تعزيز مكاسبها دون اكتراث بمعاناة الشعب اليمني الذي وقع ضحية لصراعات المصالح على كافة المستويات .
اليمن اليوم يقف على مفترق طرق، حيث تتنازع القوى السياسية والعسكرية على النفوذ، تاركة الشعب بين مطرقة التشظي السياسي وسندان الفقر والتهميش، في ظل هذا الوضع، أصبحت فكرة الدولة المركزية محل شك، وبدأت تتشكل رؤى جديدة للحكم تتراوح بين الفيدرالية والحكم الذاتي، مطالبات أبناء مناطق كحضرموت وسقطرى بالحكم الذاتي ليست وليدة اللحظة، بل جاءت كنتيجة منطقية لتهميش طويل وسيطرة مركزية لم تفِ بوعودها، بالنسبة لهم، الحكم الذاتي يعني التحرر من قيود السلطة المركزية التي لم تعد تمثلهم، بل أصبحت عائقًا أمام تطلعاتهم نحو التنمية والعدالة .
ومع ذلك، يبقى التساؤل قائمًا:
هل الحكم الذاتي هو الحل الحقيقي لمشكلات اليمن أم أنه قد يتحول إلى بوابة جديدة للصراعات؟
التجارب الدولية تحمل دروسًا متناقضة، ففي بعض الدول، نجح الحكم الذاتي في تعزيز التنمية المحلية وإشراك المجتمعات في إدارة شؤونها، بينما تسبب في دول أخرى بزيادة الانقسامات وتحويل الأقاليم إلى كيانات شبه مستقلة تعاني صراعات داخلية وأطماع خارجية، بالنسبة لحضرموت، التي تزخر بموارد نفطية هائلة، فإن نجاح الحكم الذاتي يعتمد على وضع إطار قانوني يضمن توزيع الموارد بعدالة وإبعادها عن أيادي الفساد التي استنزفت البلاد، أما سقطرى، بجغرافيتها الاستراتيجية، فإنها تحتاج إلى إدارة رشيدة تضمن استغلال إمكانياتها لصالح سكانها بعيدًا عن أي أطماع خارجية .
غياب الدولة المركزية لم يأتِ بمعزل عن التدخلات الإقليمية والدولية التي عمّقت الأزمة اليمنية، الدعم الخارجي المقدم لبعض الأطراف لا يعكس رغبة حقيقية في تحقيق الاستقرار، بل يرتبط بأجندات ومصالح تتجاوز حدود اليمن، هذا الدعم المادي والسياسي يطيل أمد الصراع ويزيد من تعقيد المشهد، حيث تتحول مناطق مثل حضرموت وسقطرى إلى ساحات لتصفية الحسابات، بينما يظل المواطن يعاني من انهيار الخدمات الأساسية وتراجع جودة الحياة .
في خضم هذا الواقع المضطرب، يجب ألا تُستغل مطالب الحكم الذاتي أو الفيدرالية كذريعة لتجزئة البلاد أو تحويلها إلى فسيفساء من الكيانات المتصارعة، إن نجاح أي مشروع للحكم الذاتي يتطلب إرادة سياسية صادقة، تعتمد على التوافق الوطني وترتكز على مبادئ العدالة والمساواة والشفافية، يحتاج اليمن إلى رؤية شاملة تعيد بناء الثقة بين الدولة ومواطنيها وتضمن تحقيق تطلعات الأقاليم المختلفة دون المساس بوحدة الكيان الوطني .
اليمنيون اليوم أمام تحدٍ حقيقي، حيث عليهم الاختيار بين استمرار الدوران في حلقة الصراعات أو تبني مسار جديد يعيد بناء الدولة على أسس وطنية حديثة، الفيدرالية والحكم الذاتي قد يشكلان جزءًا من الحل إذا تم تطبيقهما في إطار رؤية وطنية تحمي مصالح الجميع وتُحصن البلاد من التدخلات الخارجية. لا شك أن مشروع الوحدة اليمنية كما كان في الماضي قد فشل، لكن هذا لا يعني أن التشرذم هو الحل، بل يجب إعادة صياغة مفهوم الوحدة بطريقة تعكس تطلعات الشعب وترتكز على العدالة والإنصاف .
الأمل لا يزال قائمًا، اليمنيون يمتلكون إرادة قوية لتحقيق السلام، لكن هذه الإرادة بحاجة إلى قيادة حقيقية تستمع لمعاناتهم وتضع حداً لاستغلال مواردهم ومعاناتهم، الحكم الذاتي ليس مجرد مطلب سياسي، بل هو فرصة لتحقيق التنمية والكرامة إذا أحسن استخدامه ووُضع في إطاره الصحيح، اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، يحتاج اليمن إلى مشروع وطني جامع يعيد ترتيب الأولويات ويُخرج البلاد من دائرة المصالح الضيقة، ليؤسس لدولة تحترم كرامة الإنسان اليمني وتضع مصلحته فوق كل اعتبار .