آخر تحديث :الأحد-19 يناير 2025-08:01ص

في القضاء على الكوليرا

الجمعة - 17 يناير 2025 - الساعة 03:08 م
د. صالح الدوبحي

بقلم: د. صالح الدوبحي
- ارشيف الكاتب


في القصاء على الكوليرا

درس جون سنو ومضخة شارع برود

،،///////////////////////////////////

د. صالح سعيد الدوبحي، دكتوراه في الطب


في منتصف القرن التاسع عشر، قام الطبيب اللندني جون سنو بملاحظة مذهلة من شأنها أن تغير الطريقة التي ننظر بها إلى الأمراض وكيفية انتشارها. لقد رسم خريطة توضح أماكن حدوث حالات الكوليرا والوفيات في احد احيا لندن يسمى( ويست إند ) ووجد أنها متجمعة حول مضخة مياه في شارع برود. وقد دفعه هذا إلى الاعتقاد بأن الكوليرا مرض منقول بالمياه، وهو الاستنتاج الذي يتعارض مع "نظرية الميازما" الفيكتورية التي كان يعتقد فيها سكان لندن بان مصدر الكوليرا هو الهواء الفاسد أو الأبخرة التي تدخل جسم الإنسان . إن اقتناع جون سنو بمصدر تفشي الكوليرا في لندن واهتمامه بالصحة العامة أجبره على معارضة المعتقدات الشائعة في عصره وإقناع المجلس المحلي في ويست إند بلندن بتعطيل مضخة المياه في شارع برود. وعلى الرغم من أن الدكتور سنو لم يتمكن من تحديد المسبب (الجاني) تحت مجهره، وهي بكتيريا ضمة الكوليرا التي تشبه حبات الفول والتي تزدهر في المياه المالحة، فقد كان لديه خريطته كدليل.


إن هذه الخريطة تشكل مساهمة هائلة في مجال علم الأوبئة، ذلك أن الدكتور سنو أدرك أن جزءاً من علاج المرض يتطلب النظر إلى المرضى ليس باعتبارهم حالات فردية معزولة، بل ضمن البيئة الأكبر التي يعيشون فيها. ومن هذا المنظور، أدرك أنه يستطيع أن يحمي صحة مجتمعه على أفضل وجه من خلال إغلاق مضخة المياه بدلاً من انتظار مرضى الكوليرا لزيارة عيادته في حاجة إلى العلاج. ولتحقيق هذه الغاية، استخدم الارتباطات الجغرافية التي توصل إليها لتفشي المرض كمنطق لدعم تدخل الصحة العامة للسيطرة على وباء الكوليرا في لندن. ورغم أن نموذج جون سنو مقبول كوسيلة لتأطير فهمنا للأمراض المعدية اليوم، فإنه يمكن أن يعطي الأطباء أيضاً مخططاً للتعامل مع المرض، وخاصة المرض الناجم عن بيئة المريض أو المرتبط بها.


إن علماء الأوبئة اليوم ينظرون إلى قوة الأمراض المعدية وشدتها وانتشارها باعتبارها نتاجاً للبيئة البشرية والمادية. ولقد كانوا رائدين في فهمنا للظواهر واسعة النطاق، مثل تفشي فيروس H1N1 (أو إنفلونزا الخنازير) وكوفيد ١٩ مؤخراً، من خلال تتبع الحالات، ومراقبة التهديد الذي يشكله الوباء العالمي، وتحذير الجمهور من خلال وسائل الإعلام الجماهيرية. وبمعنى ما، يُطلَب من كل طبيب أن يكون عالماً للأوبئة على نطاق أصغر، فينظر إلى الأشخاص والحالات المصابة بالمرض التي تمر عبر العيادة في سياق مجتمعهم، وعلى نطاق أوسع، البيئة المحيطة بهذا المجتمع، مثل مرضى الدكتور سنو في ويست إند بلندن.


ان الدور الذي يمكن ان يلعبه طبيب ريفي في لفت الانتباه إلى مصدر مائي ملوث بمياه الصرف المستخدمة في الزراعة.هي المسؤولية الأخلاقية التي يجب ان يتحملها كل طبيب عندما يكتسف عدة حالات في الأطفال الصغار بسبب التلوث البيئي في المجتمع المحلي، أن الطبيب ملزم بإخطار السلطات والمساعدة في رفع مستوى الوعي ومعالجة التلوث في إمدادات المياه المحلية.


قد يرى البعض أن دور المدافع عن الصحة العامة مستقل ومنفصل عن ممارسة الطب، ولا يمارسه إلا الأطباء الذين يشعرون بالدافع إلى التحول إلى ناشطين والذين يحددون قضايا محددة للدفاع عنها. ولكن الدعوة داخل مجتمعاتنا يمكن أن يكون لها تأثيرات فورية ووقائية على انتشار الأمراض. وعلاوة على ذلك، فإن أطباء المجتمع هم في كثير من الأحيان أول من يلاحظ آثار البيئة على صحة مرضاهم. ولهذه الأسباب، يمكننا أن نعتبر الدعوة جزءًا من خدمتنا للمجتمع، وجزءًا من ممارسة الطب، وجزءًا من القسم الذي أديناه لحماية واستعادة وضمان صحة مرضانا بأفضل ما في وسعنا. ربما يكون لدى الأطباء التزام أخلاقي بمعالجة ليس فقط "الفسيولوجيا المرضية الداخلية" للمرض، على سبيل المثال كيف تسبب الكائنات الحية الدقيقة مثل الكوليرا المرض، ولكن أيضًا "الفسيولوجيا المرضية الخارجية" للصحة والمرض - كيف تعمل بيئتنا كعامل في تحديد صحتنا.


إن كل يوم يمر، وكل أسبوع، وكل شهر يحمل معه اكتشافات جديدة حول مدى تأثرنا العميق بالبيئة المحيطة بنا، حيث يتم لفت انتباه الجمهور إلى التهديد الذي يشكله الزئبق في الأسماك، أو الملوثات في الهواء، أو كميات ضئيلة من الأدوية في إمدادات المياه البلدية. ومن المؤكد أنه يجب إجراء المزيد من الأبحاث حول كيفية ارتباط الحالات المتزايدة الانتشار مثل الربو والسرطان ببيئتنا. وسوف يتم إجراء هذا البحث إلى حد كبير في المختبرات وفي المسوحات والدراسات واسعة النطاق. ومع ذلك، فإن الأطباء مندمجون في المجتمعات التي تتأثر ببيئاتها الآن، مما يجعل التعليم البيئي والدعوة إليه وسيلة لتحسين صحة المجتمع بشكل مباشر. يجب على الأطباء أن يظلوا على اطلاع دائم بالتغيرات البيئية وتأثيرها على صحة الإنسان بنفس الطريقة التي يظلون بها على اطلاع دائم بأحدث أدوات التشخيص، والمبادئ التوجيهية الحالية للمضادات الحيوية، وأساليب العلاج الجديدة. إن الوعي بالصورة الكبيرة يمكن أن يشكل كيفية استخدامنا لهذه المعرفة للتأثير على ممارساتنا وسياساتنا. وبصفتنا أطباء، يمكننا أن نكون يقظين على المجتمعات الأصغر التي نخدمها؛ ويمكننا تحديد العوامل البيئية التي تؤثر على صحة مرضانا وأسرهم؛ وعندما نواجه شيئًا يسبب الأذى لمرضانا، يمكننا أن نتحلى بشجاعة جون سنو لإيقاف مضخة شارع برود.