آخر تحديث :الثلاثاء-11 فبراير 2025-02:29ص

عدن.. المدينة التي يشعلها الظلام

الأحد - 09 فبراير 2025 - الساعة 03:57 م
فضل علي مندوق

بقلم: فضل علي مندوق
- ارشيف الكاتب


بقلم: م/فضل علي مندوق


في ليل عدن الطويل، حيث تسكن المدينة بين المجهول والغموض، يتلوى الألم كأفعى عطشى، تبحث عن قطرة ماء في أرض صار فيها العطش واقعًا، والظمأ قدرًا. المدينة التي كانت يومًا حلمًا تغنى لها الأناشيد، كالجوار المنشآت في البحر غاديات سارحات، صارت اليوم موحشة كأطلال مملكة نساها التاريخ، تلفها ظلمة لا نهائية، ككفن ممدود على جثة لم تقبر بعد.

عدن، التي أضاءت قناديلها في الليالي الحالكة، باتت لا تعرف غير العتمة، تخنق أنفاس أهلها بحرها اللافح، وتحرق أحلامهم بصمتها القاتل. لا كهرباء تنير المنازل، ولا ماء يبلل الشفاه المتشققة، ولا معاشات تطفئ جوع الأطفال وصراخ الأمهات في الأسواق الخاوية، حيث النقود مجرد أوراق تتطاير كما تتطاير الأشجار اليابسة في مهب الإهمال والقهر.

حكم الأمر الواقع ظل ثقيل يجثم على صدر المدينة، كما يجثم الليل على عيني مريض ينتظر الصباح فلا يأتي. حكام بلا حكم، يتدثرون في قصورهم المحصنة، حيث المكيفات تلطف الهواء، والمياه تجري في الأنابيب كنهر صغير بين أيديهم، والرواتب تصرف في مواقيتها، وكأن الزمان توقف فقط خارج تلك الجدران، حيث الناس يقتاتون على الحيرة والجوع والضياع، ويترقبون نهاية هذا العذاب المعلق في الفراغ.

في عدن، حتى الشمس تبدو جائرة، تلقي بلهيبها على الأرض، ولا يردعها سقف ولا ظل. المراوح جامدة كعقارب ساعة ميتة، والثلج أسطورة تحكى للأطفال عن زمن كان الماء فيه باردًا، والمكيفات تنتظر التيار الكهربائي كما ينتظر العابد المعجزة. يخرج الناس إلى الأرصفة ليلًا، ينامون على الإسفلت وكأن المدينة تحولت إلى مقبرة مفتوحة، لكن الأموات فيها أحياء، يئنون بصمت، ويمضغون الخيبة كخبز يابس بلا طعم.

في الأسواق، تتكدس الأجساد كما تتكدس الفاكهة الذابلة على الطاولات، تنظر ولا تشترى. الجوع هنا ليس جوع البطون فقط، بل جوع الأمل، جوع الإحساس بأن الغد قد يكون أقل ظلمة من اليوم القاتم. الباعة يلوحون ببضائعهم التي لا تجد زبائن، والعابرون يطأطئون رؤوسهم، يبحثون في الأرض عن شيء سقط من السماء، شيء قد يعيد إليهم إنسانيتهم المسلوبة، شيئًا يشعرهم بأنهم أكثر من ظلال تائهة في مدينة باتت مرادفًا للموت البطيء والوعود الكاذبة.

عدن مسكونة بالقهر المتراكم، ليس قهر يوم أو عام، بل قهر عقود وسنوات، قهر حروب تعاقبت عليها كما تتعاقب الفصول، لكنها لم تأت بالربيع، بل جعلت الشتاء أبديًا، والليل سرمديًا، والحلم ترفًا لا يجرؤ أحد على التفكير به.

السلطة ليست أكثر من شبح بلا ملامح، تظهر عند الحديث عن النفوذ والمصالح، وتختفي عند السؤال عن الماء والخبز والدواء والراتب المؤجل حتى إشعار آخر. يبررون بقاءهم بمزيد من الخراب، ويخلقون الذرائع كما يخلق البائس الأعذار لمصيره، لا يسمعون سوى صدى أصواتهم داخل قلاعهم العالية، حيث الكذب فضيلة، والفساد حكمة، والتنصل من المسؤولية نوع من السياسة البارعة.

عدن لم تعد تحتاج إلى وعود تخط بحبر السراب، ولا إلى خطب تلقى في المناسبات كأنها رثاء قبل إعلان الوفاة الرسمية. عدن تحتاج إلى الحياة، إلى الماء ليجري في أنحائها كما يجري في عروق العطشى، إلى الكهرباء كي تنير العيون المجهدة قبل أن تضيء الشوارع المطفأة، إلى الرواتب كي تعود الحركة إلى الأسواق، فلا يكون الجوع سيد اللقاء بين الأب وطفله، بين العاشق وحبيبته، بين الإنسان وحياته. الأمل هنا دخان يتصاعد من نار الانتظار الطويل، والناس يمشون فوق حبل مشدود بين جدارين منهارين، لا يدرون إن كانوا سيصلون إلى الضفة الأخرى، أم أن السقوط هو المصير الوحيد الممكن.

ورغم كل شيء، تبقى عدن، كعادتها، مدينة تأبى الموت، ترفض أن تكون مجرد فصل يطوى في كتاب الخيبات. تبقى كالشمس التي تغرب ولكنها لا تموت، وكالقمر الذي يحاصره الليل ولكنه لا ينطفئ. عدن لا تنتظر المعجزات، لكنها تنتظر أن تقلب الطاولة على رؤوس الفاسدين، وتستعيد روحها، لتنفض عن ملامحها العبوس، وتشق دربًا نحو فجر جديد.