كتب: علي_صالح_الخلاقي
في كتاب صديقي الباحث الأمريكي المتخصص في الأدب الشعبي المقارن أ.د.فلاك ميلر "الصدى الأخلاقي لوسائل الإعلام العربية- شعر الشريط والثقافة في اليمن" الصادر بترجمته العربية عن مركز عدن للدراسات والبحوث التاريخية، أنصف المؤلف الفنانين الشعبيين اليافعيين الذين اسهموا في نشر الفن الطربي في السنوات المبكرة من صناعة أشرطة التسجيل التي أسهمت في نشر نتاجهم الفني وحققوا عبرها سمعة واسعة وشهرة بين جمهور المتلقين، وكانت أغانيهم حينها هي الوسيلة الأكثر انتشاراً، وربما الوحيدة، لنشر أشعار وقصائد الشعراء الشعبيين ومساجلاتهم من خلال أدائها مغناة بأصواتهم على أنغام العود والإيقاعات المصاحبة.وقدم لنا صورة وصفية أدبية مختصرة عن حياة عدد منهم ممن برزوا خلال الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي، مع انتشار أشرطة التسجيل الصوتية على نطاق واسع الأمر الذي ساعد في تعزيز مكانة الفنانين وأدوارهم في نشر الغناء اليافعي وتقديمه للجمهور بمحتوى اجتماعي وطني.وممن قدمهم في كتابه الفنان حسين عبدالناصر السعدي "أبو طه"الذي تمتعنا بصوته الشجي وألحانه التراثية الأصيلة منذ مطلع السبعينات في القرن الماضي ، حيث كان أحد حينها أبرز الفنانين الشعبيين ممن وصلت أغانيهم عبر أشرطة الكاسيت إلى كل قرية وبيت، وانتشرت على نطاق واسع في يافع وفي معظم مناطق اليمن شمالا وجنوبا وفي دول الجزيرة والخليج وغيرها من البلدان التي يتواجد فيها ابناؤنا المغتربون. ورغم انقطاعه عن ممارسة الفن منذ وفاة صديقه الشاعر الكبير شائف الخالدي، رحمه الله، عام 1998م ما زلنا نستمتع بأغانيه التي حفظتها لنا أشرطة الكاسيت وتنتشر الآن بشكل واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي.فمن هو الفنان حسين عبدالناصر السعدي كما يقدمه لنا فلاك ميلر في كتابه مع بعض التصرف والاختصار؟!ولد الفنان حسين عبدالناصر في بداية الخمسينيات، وينتمي إلى أسرة فلاحية تقطن منطقة شديدة الانحدار في مكتب السعدي ( يافع بني قاصد)، نشأ وترعرع مع سبعة إخوة لا يملكون إلا ثوراً للحرث ، ومدرجات زراعية لا توفر لهم أبسط مقومات الحياة، فشب وإخوته على العمل عند الغير باحثين وأبيهم عنه أينما وجد، وكان العمل على الثور المصدر الموثوق لدخل الأسرة، وقتها كان الثور باهظ الأثمان لا يمتلكه إلا القليل وعمله يقتصر بداية الصيف للحرث وبداية الشتاء لاقتلاع المحاصيل الزراعية بعد الحصاد، ودون هذه المواسم كان عبد الناصر يتعلم مهارات القراءة والكتابة في الكتاتيب الدينية (المعلامة).استطاع عبد الناصر في عام ۱۹۷۳م أن يحصل على فيزة عمل من دولة قطر، وكان عمره لا يتجاوز عشرين عاماً، وعلى أمل أن يجد دخلاً أفضل سافر عبدالناصر بشاحنة عبر صحراء الربع الخالي" الممتدة على مساحات واسعة من شبة الحزيرة العربية، وفي الدوحة عاصمة (قطر) حصل على وظيفة مرموقة في الخدمة المدنية ونال خلالها أجراً أكبر بكثير مما كان يكسبه في بلده فادخر المال الكافي الذي أهله لاستئجار شقة والزواج بإحدى بنات عمه في يافع، ارتحلت معه ولم يكن قادراً على إحضار جميع أفراد الأسرة إلى قطر، لذا كان دائم التنقل بين وطنه ودولة اغترابه وأحيانا كان يكتفي بإرسال المال، ومع مرور الوقت صارت فترات الانقطاع عن الوطن طويلة لدرجة كادت أن تذوب في بحر النسيان، ومع ذلـك حـافـظ عـلـى قـيـم التواصل بالمجتمع اليافعي وبأسرته من خلال الجالية اليافعية الضخمة في قطر، التي كانت الوسيط الناقل الأخبار المنطقة والأسرة، وكان صوته وغناؤه الناقلين أخباره إليهما وبقوة، فاستطاع من خلال صوته أن يضع لنفسه حضوراً ومكانة سياسية وثقافية بارزة في يافع، وبفتره وجيزة من وصوله الأول إلى الدوحة سمع أصدقاؤه صوته الشجي، فجمعوا مساهمات تشجيعية لتقديمه للجمهور ضمن شريط يعتمد إيقاعه على العود وطبلة صغيرة (دربوجة)، وعلى الرغم من أنه استمع للإذاعة والتسجيلات وأشرطة الفنانين اليمنيين البارزين وكان ملماً بأنواع الأغاني، إلا أنه التزم أسلوباً خاصاً بنفسه، مستوحى من التراث اليافعي ذات الإيقاعات التقليدية المرتبطة بالشعر الشعبي الذي تعلمه في يافع قبل اغترابه. وعلى هذا النغم كان يحيي عبدالناصر جلساته الطربية واجتماعاته ومعاريفه في الدوحة أوقات الراحة عصراً أو مساء، مبتدئاً بالأغاني الوطنية التي كانت تستهوي الحاضرين، وأحياناً كان يصيغ شعره وفقاً للآلات الحضرية بالتعاون مع موسيقيين يعزفون على آلات إيقاع متنوعة كالمزمار الثنائي والكمان والطبلة، وكان يجالس فرقاً موسيقية هواة مكونه من الفنانين وبعض الأحيان فنانات، ومع ذلك ظل محافظاً على نمط اللحن اليافعي الجبل،ي فجُلّ أشرطته تؤدى بالصوت الفردي وإيقاع العود، ملتزمة أنظمتها الموسيقية بلحن مفرد ولم تشر إلى ألحان عديدة وفقاً لنمط فناني التسجيل الشباب، فكانت زخرفته الموسيقية بسيطة توضع لخدمة الشعر وليس لتجميل الصوت وتحسين الأداء، وأوضح دليل الطول المطلق لمعظم قصائده.أخيراً كان أسلوب الأداء متوافقاً غاية التوافق مع ميله لقصائد البدع والجواب التي تظهر في ٧٠٪ من أشرطته، ولعل هذا ما جعل أغانيه تبرز بسرعة كبيرة ويكون لها الصدى منذ السنوات الأولى من وصوله إلى قطر، فنالت هذه القصائد شهرة واسعة سواء في بلده أو بين الجاليات اليمنية في بلد الشتات بشكل عام، فقد حرك فيهم الشوق والحنين للوطن خاصة الذين عاشوا معه في قطر، ومن خلال الأخذ من التقاليد النصية العامية التي كانت ميسرة بدرجات متفاوتة لكل من سكن وترعرع في اليمن، فإن قصائد البدع والجواب نقلت وجهات نظر معاصريه في دولة الاغتراب، أو المسافرين الذين هم في شوق لسماع الأخبار عن أوطانهم على نحو مماثل أو يحنون للعودة لبلدهم، فما أن يسمعوا هذا الصوت الشجي الناقل لأخبار الوطن وقضاياه حتى تتراءى إلى أذهانهم المشاهد الطبيعية المألوفة، ويتذكرون شئون الأصدقاء والعلاقات الاجتماعية، فكانت تلك القصائد على وجه الخصوص مشهورة بين الجمهور المغترب بقدر ما ركزت على القضايا السياسية المعاصرة للمناطق المرتفعة وصلاتها بالاتجاهات والقيم الأخلاقية منذ حين وفي المقام الأول القيم القبلية، حيث كانت أعداد كبيرة من المغتربين في قطر كما في مجتمعات الشتات الأخرى أعضاء عائلات قبلية بارزة تم نفيهم من قبل الأيديولوجيات الاشتراكية في السنوات التي تلت الاستقلال، وبالنظر للحملات المستمرة للمنفيين لخلق تغيير سياسي في اليمن، زودت تلك القصائد المستمعين بمفردات رمزية غنية لمناقشة كيف يمكن تعزيز العدالة الاجتماعية في البلد بالتماشي مع المظاهر الحساسة للعرف القبلي.نضجت الاهتمامات الشخصية لعبد الناصر في شعر البدع والجواب بالتدريج في إطار البيئة السياسية والاجتماعية والثقافية لمجتمعه المغترب في قطر، مثل هذا النوع كان جزءاً من تجربة المهاجرين المشحونة سياسياً، وكان مثيراً للاهتمام بشكل خاص لمغتربي اليمن في المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى الذين كانوا يشهدون تعزيزاً قوياً للتراث الثقافي والقبلي من قبل تلك الدول في ذلك الوقت، وفي غضون سنوات قليلة من ظهوره للجمهور تلقى عبد الناصر دعوات كثيرة لإحياء حفلات كبيرة أمام مجموعات أوسع من المهاجرين اليمنيين في قطر أو السعودية، فغنّى في حفلات الزفاف والأحداث الثقافية وحفلات العطل وغيرها من المناسبات الخاصة التي استضافتها الجاليات اليمنية، وهنا حيث ثروات النفط المزدهرة كانت فرص الأداء وجمع الأموال من الزبائن الكرماء أكثر مما هو في بلده. وعندما أنتج عبد الناصر أداء مريحاً ومربحاً في التجمعات العامة، بدأ في التفكير للوصول إلى جمهور أوسع من خلال إصدار أشرطة، فسجل بشكل نموذجي أغاني في أماكن خاصة في بيته أو سكن صديق له، ثم أرسل أشرطته إلى محل الأشرطة التي تخصصت في الغناء الشعبي اليمني، وفي سنواته المبكرة أرسل عبد الناصر أشرطته إلى استيريو (شمسان) الذي أُسس في جدة، وسُمي باسم الجبل الذي يطل على عدن، ثم إلى (تسجيلات الوادي) في الدوحة الذي ملكه أحد معارفه الشخصيين، وفي بداية الثمانينيات أرسل عبد الناصر أشرطته إلى محلات في عدن وصنعاء وتعز وأبو ظبي، ثم أقامت تلك المحلات ترتيبات توزيعية منتظمة . مع منافذ بيع صغيرة في المناطق الريفية التي قدمت خدمات لعدد من جمهوره المتشوقين، ومع مرور الوقت أصبحت أشرطته من ضمن مقتنيات المنازل، خاصة الأسر المعجبة بشعر الشريط السياسي في جنوب غرب اليمن ويافع وهي شهرة تعززت عن طريق إنتاجه المستمر والخصب الذي وصل عدد إصداراته سنة ١٩٩٦م إلى( ۱۰٥شريط)، بمعدل إنتاج شريطين كل شهر لمدة عقدين تقريباً، وجعلته هذه السلسة من أبرز وأخصب الفنانين الهواة في اليمن ، وقد وصلت أشهر أشرطته إلى مئات الآلاف من المستمعين..