إعداد / د. الخضر عبدالله:
العودة إلى مصر
في الحلقة الماضية كشف الرئيس علي ناصر انتهاء شهر العسل في العلاقات الدبلماسية بين جنوب اليمن ودولة مصر ، وكيف انتقل الخلاف لصراع من المهاترات والحملات السياسية والإعلامية إلى مرحلة خطيرة. بين البلدين.. وفي هذا اللقاء يحدثنا حول عودته إلى مصر بعد 22 عاما.. حيث اشار في حديثه وقال :" بعد 22 عاماً عدت إلى القاهرة محملاً بالحنين والذكريات، أنظر إلى عيون أصدقائي القدامى فأرى ما فعله الدهر بهم وبمصر العظيمة، في الخامس والعشرين من ديسمبر عام 1994م، كانت نقطة الانطلاق مطار دمشق الدولي. المصادفة دائماً تؤدي دورها معي. رحلتي إلى القاهرة عام 1970م أيضاً كانت من دمشق، واليوم أستعيد ذكريات أول رحلة قمت بها بين دمشق والقاهرة في مارس من ذلك العام. أصبحت أسيراً لحالة من المقارنة المضنية بين الرحلتين اللتين يفصل بينهما أكثر من عشرين عاماً. بين دمشق والقاهرة ساعتان من الطيران، لكن البعد والفراق عن مصر استمر 22 عاماً منذ آخر مرة زرت فيها مصر، أي منذ توقيع اتفاقية القاهرة الوحدوية عام 1972م بين جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والجمهورية العربية اليمنية مع أخي الأستاذ محسن العيني رئيس وزراء الشطر الشمالي من الوطن حينها. جرت خلالها أحداث جسيمة، وحروب كبرى وكوارث، وانهارت أنظمة وإمبراطوريات عظمى كالاتحاد السوفياتي، واختفت زعامات كبيرة في مصر والعالم العربي والعديد من بلدان العالم. كل شيء أصابه التغيير، الأيديولوجيات، المبادئ، والقيم، والأخلاق، وكانت هذه المقارنات متعبة، بل مضنية.
مع رجالات عبد الناصر
وتطرق إلى زيارته ولقاءاته مع من عدد السياسيين المصرين وقال مسترسلا :" خلال الزيارة أجريت سلسلة لقاءات حافلة مع عدد من السياسيين والكُتاب المصريين واللبنانيين الذين صودف وجودهم في القاهرة، من بينهم السيد مراد غالب، السفير الذي برز في موسكو أيام حكم عبد الناصر، ووزير الخارجية في عهد السادات، وعضو لجنة التضامن الأفرو- آسيوي، وهو سياسي ودبلوماسي مهذب يحترم تاريخه وسمعته، واكتسب تقدير الناس في مصر وخارجها بسبب مواقفه القومية. وشملت لقاءاتي السيد أمين هويدي وزير المخابرات ووزير الحربية في عهد عبد الناصر، وكان قد تولى مهمات أخرى، وما زال وفياً لتراثه الناصري، ويتحدث عنه رجال الأمن المرافقون لي باحترام، وعندما يلفظون اسمه يقولون «سيادة الوزير»، وقد جرى بيني وبينه حديث عن الوحدة اليمنية وحرب 1994م ومحاولة الانفصال. وكان أمين هويدي متأثراً بمواقف بعض العناصر والأحزاب الشيوعية، وتحديداً بعض قادة «حزب التجمع» المسيطرين على صحيفة «الأهالي» والذين وقفوا إلى جانب القيادة الجنوبية في حرب 94، ودافع عن موقفه قائلاً: «إنني لست ضد الوحدة، ولكنني مع الفيدرالية في اليمن». ولم أعلِّق على رأيه فوراً، ولكنني قلت له في معرض حديثي إن قوة عبد الناصر كانت تكمن في مواقفه القومية والوحدوية على المستوى العربي، وإنه ضحّى كثيراً من أجل مصر والعروبة، وقدم التضحيات في اليمن دفاعاً عن الثورة اليمنية التي كان يرى فيها عمقاً استراتيجياً لمصر في جنوب البحر الأحمر والجزيرة العربية في ذروة صراعه مع القوى الاستعمارية في المنطقة. ويبدو لي أن بعض المصريين ما زالوا يعانون عقدة انفصال الوحدة المصرية السورية عام 1961م والمشاريع الوحدوية التي يطلقها بين حين وآخر الزعيم معمر القذافي، لذلك أصبحوا حذرين تجاه أي وحدة عربية، لكن قضية الوحدة اليمنية أمر آخر مختلف.
94 ونهب الجنوب
ويواصل الرئيس ناصر حديثه ويقول :" وبالرغم من ذلك، وبعد حرب 94م والاعتقاد بالنصر والحسم العسكري وعدم حسم القضية سياسياً وعدم معالجة آثار الحرب وتداعياتها وصولاً إلى خروج الشارع الجنوبي منتفضاً من خلال الحراك الجنوبي السلمي، بدأ الكثير من السياسيين والمفكرين والصحفيين يستحضرون التجربة المصرية ويعقدون المقارنات بين الممارسات التي قام بها بعض المسؤولين المصريين تجاه السوريين ويجدونها لاشيء مقارنة بممارسات بعض المسؤولين اليمنيين الشماليين الذين مارسوا الفيد والنهب ومصادرة حقوق الجنوبيين، وبالرغم من عدالة القضية الجنوبية والطابع السلمي للحراك الجنوبي، لجأت السلطة إلى العنف ولم تستفد من دروس الماضي.
ويتابع الرئيس علي ناصر حديثه و يقول :" اللقاء التالي كان مع الكاتب لطفي الخولي، ومن بعده التقيت السيد محمد فائق، وأخيراً الأستاذ نديم عبد الصمد ومصطفى الكشك، وقد تناول حديثي مع جميع هؤلاء الأوضاع في اليمن والعالم العربي، والضرورة الاستراتيجية لإقامة مركز الدراسات وهو ما احتلّ حيزاً مهماً من أحاديثنا، وشدّدت على أهمية مشاركة المثقفين العرب في إنجاح الجهود المبذولة لتأسيسه، وقد لمست اهتماماً من الجميع بقيام هذا المركز.
من عزت سليمان إلى عمر سليمان
ويردف الرئيس ناصر قائلا :" في اليوم الأول من العام الميلادي الجديد 1995م، كان موعدي مع اللواء عمر سليمان مدير المخابرات العامة. جرى اللقاء في مكتبه بمصر الجديدة، وقد وجدته في استقبالي على باب المصعد بقامته المهيبة، وابتسامته الودودة. ومن حديثه وجدته رجلاً عميقاً في رؤيته، بسيطاً ومرناً في حديثه، عيناه تلمعان ذكاءً كالصقر، وتواضعه الجمّ يغريك بصحبته وصداقته. أحسست في كلامه بالعمق وبُعد النظر. وحين دار الحديث حول اليمن، تحدث من موقع الحب والحرص على مستقبلها. لقد ضحّت مصر من أجل اليمن برجالها وأموالها حتى انتصرت الثورة والجمهورية في صنعاء، وانتصرت الثورة في عدن. إن كلمات عبد الناصر القوية والمدوية التي أطلقها من مدينة تعز عام 1964م هزت أكبر قاعدة للإمبراطورية البريطانية في شرق السويس عندما قال: «إن على بريطانيا أن تحمل عصاها وترحل عن عدن». بعد هذا الخطاب فتحت مصر مستودعاتها وخزائنها وأجهزة إعلامها، مسخرة إمكاناتها لمعركة التحرير وطرد الإنكليز من عدن وبقية الجنوب، وكنت مشاركاً وشاهداً على هذا التاريخ المجيد الذي ضحّت من أجله مصر وشعبها وجيشها البطل.
طلبت من اللواء عمر سليمان وثائق الثورة في الجنوب التي كانت في حوزة جهازه، وهي كثيرة ومثيرة لأنها عن مرحلة مهمة من تاريخ الثورة اليمنية في جنوب اليمن ومعارك عبد الناصر ضد الاستعمار الأجنبي في الوطن العربي، وقلت له إنني أنوي استخدام الوثائق لاستكمال مذكراتي عن هذه المرحلة، ولتوظيفها للدفاع عن دور مصر في اليمن الذي تعرض لكثير من التشويه على أيدي أعداء الثورتين اليمنية والمصرية وأعداء الزعيم العربي الخالد جمال عبد الناصر. وتلقيت رداً إيجابياً من اللواء عمر سليمان الذي وعد بتوفير ما أمكن من الوثائق عن هذه المرحلة، وقال إنه سيكلف بعض المسؤولين في الجهاز تهيئتها. ودار حديث بيننا عن الماضي والحاضر والمستقبل، تطابقت خلاله آراؤنا ووجهات نظرنا، وقد عبرت له عن ارتياحي لهذا الموقف المبدئي من أحد القادة الذين يسهمون في صنع القرار من موقعه في هذه المنطقة الحيوية والاستراتيجية. ومن هذا المبنى بالذات الذي كانت تدار منه في منتصف الخمسينيات والستينيات عمليات التحرير في الجزائر وعدن وأكثر من بلد عربي وإفريقي وآسيوي، تذكرت وأنا هنا في مبنى المخابرات العامة رجل المخابرات القوي، مدير المخابرات العامة الأسبق اللواء عزت سليمان قائد (عملية صلاح الدين) ، كما أطلق على عملية تحرير الجنوب من الاحتلال البريطاني يومذاك. هذا الرجل كان يسمع دبيب النمل في المنطقة كما يقال، وهو الذي كان يمسك بكل الخيوط في ظل قوة مصر وعزتها في عهد عبد الناصر. علمت أن ذلك الرجل قد غدا عجوزاً مريضاً بعد أن أصابه مرض الشيخوخة الذي لا يفوت أحداً، فحادثته بالهاتف وتمنيت له الصحة الطيبة في ما بقي له من عمره المديد.
تدهور اليمن ومشكله التي يعانيها
في عام 2009م تجددت اللقاءات بيننا وبين اللواء (الوزير) عمر سليمان على أثر التدهور في اليمن ومشاكله التي يعانيها، كالقضية الجنوبية والحرب العبثية في محافظة صعدة والإرهاب، وكنا في تشاور مستمر، وخصوصاً بسبب تخوف مصر من انهيار الدولة في اليمن الذي بدا ظاهراً للكثيرين، وتأثيره في حركة الملاحة في البحر الأحمر وقناة السويس وأمن مصر، وكان له موقف يشكر عليه حين رفض طلباً من الرئيس السابق علي عبد الله صالح بإخراجي من مصر حين زيارته لها، وقال إنه لن يدخل مصر إلا إذا خرجت منها، وهو بعض مما مورس بحقي من ضغوط من النظام السابق لتغيير موقفي السياسي من قضايا الوطن. وكان قد طلب الأمر نفسه من سورية إذ نقل لي الرسالة نائب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء محمد ناجي عطري، وكذلك من دولة الإمارات التي رضخت لطلبه بسحب جوازات السفر والمنزل والسيارة الممنوحة لي من الدولة، وأبلغني بالرسالة وزير الدولة للشؤون الخارجية الدكتور أنور قرقاش. وإضافة إلى هذه الدول التي أقيم فيها، فقد مارس علي عبد الله صالح ضغطه على بقية دول الخليج والجزائر وليبيا التي كانت لي علاقات طيبة معها بعد خروجي من السلطة ومن الوطن. وهكذا كان ديدنه في ملاحقة الذين لهم رأي معارض له في الداخل والخارج.
في نهاية عام 2011م كان لي آخر لقاء عابر مع اللواء عمر سليمان في صالة الشرف في مطار القاهرة الدولي، حيث تحدثنا عن آخر التطورات في مصر وتونس وليبيا واليمن وسورية، وبدا متشائماً من هذه التطورات التي لا تخدم إلا القوى الإسلامية التي تطمح إلى السلطة منذ عشرات السنين، وقال: «إن ما بنيناه من علاقات إقليمية ودولية سينهار»، ويبدو أنه كان غير متوقع حدوث مثل هذه الثورات في مصر وغيرها. وتحدثت معه في ما جرى في مصر وتعيينه نائباً للرئيس، وقلت له إن تسلمه لهذا المنصب جاء بعد فوات الأوان بعد أن ظل شاغراً خلال فترة حكم مبارك. هزّ رأسه ولم يعلِّق، وشعرت بأنه متفق معي. كان اللواء عمر سليمان قد ترك منصب رئيس جهاز المخابرات المصرية ومهمات نائب الرئيس، وهو من أعلن استقالة الرئيس مبارك في خطاب مدته لا تزيد عن 60 ثانية بعد 30 عاماً من حكم مصر و17 يوماً من أحداث ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011م، وفي عام 2012 انسحب من سباق الرئاسة المصرية رغم بوادر الترحيب العربي والعالمي استناداً إلى اقتناع «أنه يفهم مصر أكثر من أي شخص»، وقد وافته المنية في أميركا في يوليو من عام 2012 جراء أزمة قلبية في مستشفى كليفلاند، وبدت قصة وفاته لغزاً ومفاجأة لمحبيه وأعدائه بالدرجة نفسها" ( للحديث بقية ))