إعداد / د. الخضر عبدالله :
إلى دمشق بعد مغادرة السلطة.
ذكر الرئيس علي ناصر عن زيارته لسوريا حينما كان وزير الدفاع واستقباله التفاني من قبل نظيره حافظ الاسد , ويوضح لنا الرئيس ناصر في هذا للقاء الجديد حول زيارته دمشق بعد مغادرة السلطة عقب حرب يناير 86م فقال مستدركا في حديثه :" بعد مغادرة السلطة عام 1986م كانت دمشق العاصمة التي فتحت لي قلبها... وكان الرئيس حافظ الأسد أول من استقبلني والتقاني، ليس في مكتبه، ولكن في منزلي الجديد الذي هيأه لي في المزة فيلات غربية، وكانت مفاجأة غير متوقعة أن يقوم بزيارتي صباح اليوم الأول لقدومي إلى دمشق، بل كانت مفاجأة للجيران الذين شاهدوه والتفوا حوله وحيّوه بحرارة الأب والقائد.
كان اللقاء مؤثراً وهو يحتضن ويقبل أولادي ليثبت لي ولهم أنهم سيحظون بالرعاية والاهتمام في وطنهم الثاني سورية، وقد جسّد ذلك قولاً وعملاً، وقد تركت تلك الزيارة الأخوية والإنسانية أثراً عميقاً في نفسي لا يمكن أن أنساه مدى الحياة.
> الحماية من حكومة عدن
وواصل الرئيس ناصر حديثه وقال :" كان عليّ أن أستقرّ في هذه المدينة، كما أشرت، لصداقتي مع الرئيس حافظ الأسد. وكنت واثقاً في حكمته وحزمه ودهائه وحمايته لي ولأسرتي من كل المحاولات التي كانت تستهدفني من قبل بعض حكام عدن آنذاك. طلب من الخارجية السورية أن تبلغ السفارة اليمنية الجنوبية بأن لا تمرّ أي سيارة في الشارع الذي أسكنه، وأن لا يسمح لأي موظف في السفارة بأن يسكن في الشارع الذي أسكنه، وكان حينذاك سفير عدن محمد الشطفة في دمشق يهدد بأني لن أعود إلى اليمن إلا في صندوق! وعندما علم الرئيس الأسد أبلغ المسؤولين في عدن أن أي محاولة تستهدف علي ناصر في دمشق فنحن لن ننتقم من الفاعلين المباشرين، بل سندكّ السفارة حتى آخر حجر، وسنقتل المخططين للعملية، وبحكمته وهيبته منع أي عمل معادٍ لي ولكل من سكن في هذه المدينة من المعارضين العرب من عراقيين وسعوديين وعمانيين ويمنيين وغيرهم، ككارلوس ومرتضى علي بوتو شقيق رئيسة وزراء باكستان بناظير بوتو، فزرع الأمن والأمان في الشام. عامل سكانها باللين في معظم مراحل حكمه، وبالحزم والقوة في بعض المراحل الصعبة التي مرّت بها سورية في الثمانينيات عندما حاول الإخوان المسلمون التمرد في حماة وحلب وبعض المدن الأخرى، فكشّر عن أنيابه حتى عاد المتآمرون إلى جحورهم في انتظار المستقبل الذي لم يصلوا إليه أو ينعموا به.
> نصيحة السلال
ويسترسل الرئيس ناصر في حديثه ويقول :" كنت واثقاً بأن البقاء خارج عدن وخارج صنعاء سيطول، فعملت بنصيحة الرئيس السلال الذي عاش في منفاه خارج الوطن 16 عاماً بالحفاظ على الصحة والتحلي بالصبر والتفاؤل، كما يقول الإمام علي بن أبي طالب في الصبر على المحن والمصائب:
فاصبر فلا ضيق إلا بعده فرج بالصبر تبلغ ما ترجوه من أمل وكل أمر له وقت وتدبير اصبر قليلاً فبعد العسر تيسير
كنت قد غادرت صنعاء بعد أربع سنوات من الإقامة فيها إلى دمشق، وفي 12 يناير 1990 هبطت طائرة الرئاسة التي كنت أستخدمها في رحلاتي الخاصة في مطار دمشق الفيحاء التي لا تختلف عن مدينة صنعاء من حيث عمق تاريخها وسكانها وحكامها عبر التاريخ. كان الرئيس الأسد وفياً في استضافتي، وقدّم إليّ كل أنواع التسهيلات، وعاملني وكأنني ما زلت في رئاسة الدولة. لقد أعطاني قصراً جميلاً في أرقى أحياء دمشق، ووضع تحت تصرفي السيارات والهواتف، وسمح بعلاج المرضى اليمنيين الذين يأتون ويتعالجون في مستشفيات القوات المسلحة، كذلك سمح بالتحاق الطلاب اليمنيين بالمعاهد والمدارس الثانوية والجامعات بتوصية مني على حساب الدولة السورية.
> استقبال الاسد
ويتابع الرئيس علي ناصر حديثه وقال :" في اليوم الثاني من وصولنا إلى دمشق استقبلنا الرئيس حافظ الأسد في قصر تشرين الواقع في منطقة الربوة الجميلة التي يخترقها نهر بردى الخالد. يمتدّ القصر الذي أبدع المهندسون السوريون في بنائه وزخرفته على إحدى قمم جبل قاسيون التاريخي المليء بالأسرار والأساطير، ذلك الجبل الذي كلما رأيته يرنو بحنان إلى مدينة دمشق الرابضة في حضنه الدافئ، يذكرني بجبل شمسان الذي يقف هو الآخر بكل شموخ وكبرياء وكأنه الحارس الذي يحمي عدن الجميلة الحالمة. رحّب بنا الرئيس ترحيباً حاراً وأبدى استعداده لتقديم أشكال الدعم كافة خلال إقامتنا في وطننا سورية، وجسّد ذلك هو وكل المسؤولين، وتعاملوا معي وكأنني ما زلت في السلطة، وأمر باستخدامي طائرة الرئاسة في بعض الرحلات الخاصة إلى أديس أبابا وأبوظبي والجزائر وليبيا وصنعاء.
> الجلطة الصدرية
ويتطرق الرئيس ناصر حول اصابته بالجلطة الصدرية ويشير قائلا :" وقد التقيت خلال إقامتي في سورية بالمئات من اليمنيين، حتى الذين اختلفنا وإياهم ذات يوم، وقد كانت هذه اللقاءات تجري بعلم القيادة السورية، وفي المقدمة الرئيس حافظ الأسد الذي كان يستقبلني لإطلاعه على آخر التطورات والأخطار المتعلقة بمستقبل الوحدة اليمنية، وكان يحمل في قلبه قضايا الأمة العربية حتى وفاته، وعلمت أنه كان يتحدث مع الرئيس اللبناني إميل لحود عند إصابته بالجلطة.
وكان قبلها قد أبلغني أنه تعرض لجلطة وهو في مكتبه عند الساعة الخامسة صباحاً، وشعر حينذاك بتعرق وألم في الصدر، وكان يعتقد بأن ذلك بسبب السهر والإرهاق، ولم يتصل بأسرته أو طبيبه، ولهذا فقد عالج نفسه بنفسه وتناول حبة فاليوم اعتقاداً منه أن ذلك قد يساعد على تخفيف الألم والخلود إلى النوم والراحة، ولكن الطبيب اكتشف بعد ذلك أنه بحاجة إلى علاج سريع، فنُقل إلى مشفى الشامي في أبو رمانة وبقي فترة بين العلاج والراحة في إحدى الاستراحات في ضواحي دمشق. وكنت قد تعرضت عام 1997م لنوبة قلبية عندما صحوت وأنا أشعر بآلام في الصدر، رافق ذلك تعرق، فقمت على أثره من شدة الألم، وتذكرت حينذاك ما قاله لي الرئيس حافظ الأسد عند تعرضه للجلطة، وتناولت حبة فاليوم، وقد ساعدتني على تخفيف الضغط الذي وصل إلى 170/120، حتى جاء الطبيب أحمد حبيب الذي كان يعالج الرئيس حافظ الأسد فأجرى لي الإسعافات الأولية حتى جرى نقلي إلى بيروت. وفي بيروت اتصل بي الرئيس حافظ الأسد ليطمئن إلى صحتي، وأبدى استعداده لعلاجي في لبنان أو لندن أو في أي مكان آخر من العالم، واستمر الحديث أكثر من ساعة، وأخبرني خلاله أن أحد أصدقائه تعرض لنوبة قلبية، وقد حار الأطباء في علاجه، فبعضهم نصح بعملية جراحية، وآخرون نصحوا بغير ذلك خوفاً على حياته، ونصحني بعدم الاستعجال بإجراء عملية جراحية إلا إذا كان ذلك ضرورياً. وكان معي في غرفة الإنعاش طبيب القلب الدكتور سمير علم الذي كان يتابع حديثنا. وبعد إغلاق سماعة الهاتف قال لي: أنا أحترم رأي الرئيس حافظ الأسد، ولكن كطبيب أنصح بإجراء العملية، فعملية البالون وفتح بعض الشرايين قد لا تحلّ المشكلة مستقبلاً، فقد تتعرض لأزمة وأنت في رحلة سفر في البر أو البحر أو الجو، ولن تجد من يسعفك من أي نوبةٍ لا قدّر الله، ولهذا فالعملية هي الأضمن والأنجح في الحاضر والمستقبل، ومخاطرها 1% بسبب تطور العلم. شعرت حينذاك بأن الرئيس حافظ الأسد كان يتحدث عن نفسه دون أن يقول ذلك، ولو أجرى العملية كما حدثني بذلك الدكتور سمير علم لما خضع لنظام الحمية الصارم والعمليات الأخرى التي تُجرى له بين حين وآخر، كما فهم من أصدقائه، وفي مقدمتهم نائب الرئيس فاروق الشرع الذي أصيب هو الآخر بجلطة وأجريت له عملية جراحية في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت.
> رحيل الاسد
وتابع حديثه حول رحيل الرئيس الاسد وقال :" في يوليو من عام 2000 م كان موعدي مع الألم والذهول برحيل صديقي الرئيس حافظ الأسد. ألم وحزن لم أشعر بهما من قبل على رحيل صديق. كانت الفاجعة ثقيلة على قلبي كما كانت عظيمة في نفوس وقلوب أبناء الشعب العربي السوري بملايينه التي لفها الحزن على رحيل قائدها التاريخي، فزحفت إلى الشوارع بشكل عفوي وفطري صادق للمشاركة في تشييع الراحل ومبايعة خلفه الفريق بشار الأسد في موكب جنائزي حزين لم تشهده الأمة منذ رحيل القائد الخالد جمال عبد الناصر.
لم يكن رحيل حافظ الأسد فاجعة لعائلته فحسب، بل كان فاجعة وطنية وقومية في الوقت نفسه، فقد حمل الراحل العظيم هموم شعبه وهموم هذه الأمة بنكران ذات، وتحمل مهمات القيادة في ظروف بمنتهى التعقيد في سبيل إعلاء شأن أمته ورفعتها، وأسس خلال سنوات حكمه لسورية الشقيقة مدرسة وطنية راسخة شملت مختلف الميادين الفكرية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية، ورسّخ خلالها الوحدة الوطنية، وأرسى الأمن والاستقرار في بلد لم يعرف في تاريخه الحديث قبل مجيئه إلا التوترات والانقلابات، وعمل بتفانٍ على بناء سورية حديثة أصبحت رقماً صعباً لا يمكن تجاوزه في قضايا الشرق الأوسط والوطن العربي.
ثمة أشخاص يصنعون التاريخ. حافظ الأسد كان من ذلك النوع الذي عبّرت قيادته عن إرادة الشعب وعمق موقع سورية ومكانتها في الجغرافيا والتاريخ اللذين كان الراحل الكبير يدركهما بوعي امتلكه منذ وقت مبكر وجسّده في كل مواقفه ونهجه وسياساته التي جعلت من بلاده عاملا مؤثراً في سياسات المنطقة، سواء في الحرب أو في السلام.
قلة من القادة هم الذين يتركون بصمات في حياة بلدانهم وشعوبهم. حافظ الأسد كان من ذلك الطراز من القادة التاريخيين. فقد ترك بصماته وآثاره على بلاده وشعبه، وهي تشكل اليوم المرتكزات الثابتة في حياة سورية واتجاهاتها وطموحها وأهداف شعبها.
عرف الراحل كيف يجعل من سورية قلعة حصينة للعزة والمنعة، والرفعة والهيبة، ولم يفرّط في حق، فاستمدت منه سورية والأمة الكبرياء والعنفوان في زمن التردي، والصمود في زمن الاستسلام!
كان عهده حافلاً بالإنجازات التي كنت ألمسها في كل مكان وفي المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والصحية كافة هذه الإنجازات تتحدث عن نفسها وعن مسيرة قائد نذر نفسه لشعبه وأمته، كما هو مجسَّد في حرب تشرين التحريرية التي استعادت فيها سورية أجزاءً من أرضها المغتصبة في الجولان، وفي صموده ووفائه ونضاله من أجل استعادة كل شبر من تراب الوطن الغالي."(للحديث بقية ))