إعداد / د. الخضر عبدالله :
الشيوعيون على الخط
تطرق الرئيس علي ناصر محمد في حديثه الأول حول العلاقة بين عدن والعراق .. وفي هذه الحلقة يروي لنا عن الخلافات بين صدام حسين والشيوعيينن وسقوط بغداد ويقول مسترسلا :" هذه الفسحة من الوئام لم تدم طويلاً. فقد دخل الشيوعيون العراقيون عنصراً في العلاقات بين عدن وبغداد. كان «الحزب الشيوعي العراقي» عضواً مشاركاً في الجبهة الوطنية التي شكلها الحزب الحاكم في العراق بعد استيلاء البعثيين على السلطة هناك. ويبدو أن بعض قيادات «الحزب الشيوعي العراقي» قد أساءت تقدير الموقف من حزب البعث العربي الاشتراكي في العراق. وبسبب بعض طروحات صدام حسين التي كانت الصحافة تروجها في تلك الأيام، خُيِّلَ إلى بعض قياديي الحزب الشيوعي، بطريقة ساذجة، أن صدام يتجه نحو مواقع اليسار والمواقف الأقرب إليهم وإلى معتقداتهم، واعتماداً على هذا الاستنتاج الخاطئ كان بعضهم، من غير احتراز، يتبادلون الحديث بينهم خلال مكالمات هاتفية عن هذه الفكرة ويروجونها، بل وكما يبدو، إن البعض تمادى إلى حد الحديث عن يسارية صدام ويمينية رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر!
لم تكن أجهزة المخابرات العراقية نائمة، بل كانت ترصد كل شيء، وقد سجّلت تلك المكالمات الهاتفية، كما فهمت فيما بعد منهم، واطلع عليها نائب الرئيس صدام حسين، فثارت ثائرته وغضب غضباً شديداً. وفي أحد لقاءاتنا في بغداد فاتحني قائلاً: «إن الشيوعيين يزرعون الفتنة بين القيادة، ويزعمون أن صدام يساري والبكر يميني، ونحن لا نتفق مع تقييمهم، وعليهم أن يفهموا أننا لسنا تلاميذ لهم، مهما كانت الوثائق التي يرسلونها إلينا بهدف التأثير فينا وكسبنا إلى أيديولوجيتهم!».
غير أن السهام لم تكن موجهة إلى الشيوعيين وحدهم، فقد كانت هذه بداية النهاية للجبهة الوطنية في العراق التي لم يكتب لها النجاح والاستمرار طويلاً.
الخلاف بين صدام والشيوعيين
ويستدرك الرئيس ناصر حديثه وقال :" رغم أنني حاولت التوسط وإصلاح العلاقة بين صدام والشيوعيين العراقيين بناءً على طلبهم، إلا أن ذلك كان من غير جدوى، بل إن ذلك - ويا للأسف - أثر في علاقاتنا مع العراق. وبالنتيجة، أوقفت الحكومة العراقية تمويل مشروع الكهرباء في عدن. وهذا المشروع تعرض لسوء الحظ عدة مرات. وعدت السعودية بتنفيذه في عام 1976 عقب إقامة العلاقات الدبلوماسية بين عدن والرياض، لكنها سحبت موافقتها بعد أحداث 26 حزيران/يونيو 1978، وقتل الرئيس الشمالي أحمد الغشمي، وتعليق عضوية اليمن الديمقراطية في جامعة الدول العربية في تموز/يوليو 1978م فتكفل العراق بتنفيذه وسحب هو الآخر موافقته بتمويل المشروع، بسبب الوساطة بين الحزب الشيوعي العراقي والنظام. ومن هنا يمكن القول بكل أسف إن السياسة والعلاقات العربية تخضع غالباً، إن لم يكن دوماً، لردّ الفعل التي يعبّر عنه في وضع معين، في لحظة معينة، وليست علاقة قائمة على التفاهم والمصالح المشتركة والرابطة الأخوية والوصول إلى اتفاقات ترضي الجميع، ومن هذا المنطلق الأخير الذي كنت أؤمن به وبإمكانية التوصل إليه، ولو في حدوده الدنيا بذلت جهوداً لتسوية العلاقات بين بغداد ودمشق على النحو الذي سأذكره عند الحديث عن مؤتمر القمة العربية التاسع في بغداد. وأذكر أنني عندما عرضت فكرة الوساطة بين البلدين الشقيقين على صدام، قال لي: أنت لا تعرف صديقي وصديقك حافظ الأسد كما أعرفه. إن عنده غطاساً ومن الصعب أن تقيس أعماقه»! وقال صدام بشكل أكثر وضوحاً: «إذا اقتربنا بعضنا من بعض أو اتحدنا فان أحدنا سيسقط حتماً». في الأخير قال: «ولكن جرب ونحن جاهزون!».
ويتابع الرئيس ناصر قائلا :" ولا أظن أن صدام كان يستنتج أو يستبق إخفاق أية علاقة وحدوية أو علاقة وئام طبيعية بين دمشق وبغداد، بقدر ما كان يعبّر عن العناصر الرئيسة في الصراع بين العاصمتين، أي ما يمكن أن نطلق عليه نزعة (المستقبلية) المبنية على تجارب تاريخية في الماضي. ولذلك فإن العلاقة بين دمشق وبغداد لم تشهد إلا فترة قصيرة جداً من التحسن بعد تلك الوساطة، حيث قام الرئيس حافظ الأسد بزيارة بغداد، أثمرت توقيع (ميثاق العمل المشترك) بين البلدين والحزبين، ولكن سرعان ما تدهورت العلاقات بينهما. أما الشيخ صباح الأحمد، فنصحني بعدم بذل أي جهود لتقريب وجهات النظر بين البلدين، لأن قيام الوحدة خط أحمر بين العراق وسورية. ولكن صدام حسين بدلاً من العمل على توحيد بلاد الشام والعراق توجه إلى العمل على توحيد الدول الخليجية بدءًا بالكويت، وهو ما أدى إلى سقوطه.
سقوط بغداد !!
وحول سقوط بغداد قال الرئيس ناصر :" في 9 نيسان/أبريل 2003م سقط نظام البعث في العراق الذي حكم مدة ثلث قرن، حيث قامت الولايات المتحدة الأميركية بقيادة التحالف الدولي وشنّ الحرب على العراق بحجة السلاح النووي، بقوة عسكرية مؤلفة من 300 ألف عسكري و920 دبابة و900 قاذفة و50 طائرة بلا طيار تدعمهم 6 حاملات طائرات. بينما قاتل العراقيون بـ23 ألف صاروخ دقيق و750 صاروخاً من طراز كروز و1750 قنبلة انشطارية. وبعد أربعة أسابيع انهار الجيش العراقي وقتل آلاف العراقيين، وبلغت خسائر العراق أقله نحو 100 مليار دولار، بينما تكلفت واشنطن 45 ملياراً، وهو رقم ارتفع إلى 666 مليار دولار بعد خمس سنوات في حرب كانت تكبّد الأميركيين 5 آلاف دولار في الثانية . واختفى قادته، من القنوات الفضائية، ومن شوارع بغداد، ومن القصور والجسور في لحظة مهيبة ورهيبة، وبدأ البعض بإنزال صور الرئيس صدام من المنازل والمحال التجارية، شعوراً منهم بأنها فقدت وظيفتها حين كانت تستعمل لحمايتهم من جواسيس النظام، والاحتماء بها أمام الزوار غير المتوقعين. كان هذا الردّ المنطقي للشارع العراقي على القيادة المهزومة التي توعدت بنحر الأميركان على أبواب مدينة بغداد وشبهتهم بالتتار، وتوعدتهم بقوات القدس والحرس الجمهوري وفدائيي صدام، وتمزيق العلوج كما كان يردد وزير الإعلام محمد سعيد الصحاف... إلى آخر تلك الأسطورة التي انهارت دون أن يُرَى لها أثر في القوات الغازية، وسقطت معها أسطورة صدام حسين، عندما هوى تمثاله في قلب مدينة بغداد بطريقة مذلة للعراق والعرب وسقطت تماثيله الأخرى في كل ساحة وطريق في العراق. وهوت معه كبرياء الأمة العربية وهي تشاهد الدبابات الأميركية والقوات الأميركية تعبر جسور بغداد وتجرّ التمثال ليسقط على الأرض، بعد أن تسلق الجنود الأميركان ووضعوا العلم الأميركي عليه.
إعدام صدام !
ويسترسل الرئيس ناصر ويقول :" عجز الكثيرون من المراقبين والمحللين الاستراتيجيين السياسيين والعسكريين عن تفسير هذا الانهيار السريع والاختفاء المفاجئ لصدام والقيادات التي استبدلت ملابسها العسكرية بأخرى مدنية، وتنبأ البعض أنه اختفى ليقود حرب عصابات، وقد يكون هذا صحيحاً، ولكن كيف يمكنه استعادة حكمه بعد خراب البصرة، وسقوط بغداد قلعة الأسود كما يسمونها، وسقوط كل مؤسسات الحزب والدولة أيضاً واعتقاله وقتل أولاده، فماذا يفيد بعد خراب البصرة.
قامت الآلة الإعلامية الأميركية والغربية الجبارة بدور كبير وخطير في التمهيد لاجتياح العراق، حيث صورت أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل يهدد بها العالم، وأنه رابع جيش في المنطقة، وأن صدام أهم وأخطر شخصية تهدد مصالح الغرب في المنطقة، وأنه يمتلك أكبر احتياطي من النفط الخام في العالم، حتى وصلوا بالأمر إلى تصويره كأسطورة وبعبع أمام الرأي العام العالمي من أجل إطاحته هو ونظامه. وهكذا أصيب المواطن العربي باليأس والإحباط من هذه القيادة، ولكن يجب أن نعترف بأن الرئيس صدام قد صمد أثناء محاكمته، وكان شجاعاً لا يهاب الموت حتى اللحظة الأخيرة لإعدامه على حبل المشنقة.
نشرت وسائل الإعلام في تموز/يوليو من عام 2015 رسالة من جندي أميركي كان من أحد القليلين الموجودين أثناء إعدام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين بعثها إلى زوجته يصف لها ما رآه ويتعجب من اللحظات الأخيرة التي سبقت تنفيذ حكم الإعدام بصدام حسين لتماسكه إلى درجة تشبه المعجزة، حيث كان مبتسماً على منصة الموت.
وقد حدثني وزير الإعلام محمد سعيد الصحاف الذي يقيم في أبو ظبي في دولة الإمارات العربية المتحدة في آذار/مارس 2004م عن تلك اللحظات الصعبة، وكيف اختفت القيادة، بمن فيها صدام حسين، وكيف توزعت في المدن والقرى والأرياف، وقال إنه فقد الاتصال بها بعد المؤتمر الصحافي الذي عقده لآخر مرة. وقال إنه تسلّم بياناً من صدام حسين بخط غير واضح حاول مراجعته وإعادة صوغه وبثه، ولكن كان كل شيء قد انتهى وهو يشاهد الدبابات على جسور بغداد، فحمل نفسه واختفى كالآخرين مدة شهرين، وانتقل بعد ذلك إلى الإمارات العربية في ضيافة الشيخ زايد بن سلطان.
خيانة القادة للرئيس !
ويواصل الرئيس علي ناصر حديثه بالقول :" و أكد لي أن أحد أسباب الانهيار في بغداد خيانة بعض القادة العسكريين الذين مَدُّوا خيوطاً مع الأميركان، ولم يقاتلوا كغيرهم من القيادات العسكرية في بعض المدن العراقية الأخرى، كذلك لم يكن بعض القادة العسكريين مؤهلين لقيادة العمليات العسكرية، وفي مقدمتهم قائد الحرس الجمهوري قصي صدام حسين، حيث اعتمد الرئيس صدام حسين على القيادات العسكرية الحزبية أكثر من اعتماده على القيادات العسكرية المجربة والمحترفة، وكان المقياس في اختيار القيادات العسكرية هو الولاء الحزبي والعائلي والعشائري، حيث لم تصمد هذه القيادات في وجه الجيش الأميركي والبريطاني الذي كان متفوقاً في السلاح والعتاد والخبرة والقيادة بحراً وبراً وجواً، واستخدم أحدث أسلحة الدمار والخراب التي تجرب لأول مرة في هذه الحرب التي خلقت حالة من الرعب بين صفوف المسؤولين العسكريين والمدنيين والمواطنين. وقال إن المتطوعين العرب وفدائيي صدام هم آخر من بقي يقاتل في بعض أحياء مدينة بغداد، لأن معركتنا واحدة، وقال إن الرئيس صدام حسين كان قد شكّل تنظيمات ومجموعات سرية للقيام بحرب عصابات في حالة سقوط النظام في بغداد تحت قيادته وقيادة بعض الرفاق الحزبيين المؤمنين بالنضال ضد قوات الاحتلال، وستستمر في عملياتها العسكرية حتى في غياب الرئيس صدام وبعض القيادات.
تحدث الصحاف عن مبادرة الشيخ زايد بشأن خروج الرئيس صَدام من العراق تحت رعاية الجامعة العربية والأمم المتحدة، حرصاً على العراق ومستقبله وعلى أمن أسرته وحياته وتجنيب المنطقة ويلات الحروب والتدخل الأجنبي، وخصوصاً أن دولة الإمارات ليس لها حدود أو مشاكل أو مصالح مع العراق، وقال: مع الأسف إن الظروف والضغوط التي كان يمرّ بها الرئيس قد حالت دون ذلك.
( للحديث بقية )