نَظَـرَ لِمنزلها بِتأمُلٍ فَـوق الجبـل، قبض على يدِهِ بقهرٍ لِمنع أمهِ مِن خطبتهِ لهـا، بعـد أنْ جهـز ورتب لِكُل شيء، يـُحبهـا ولا يُـريد أنْ يتـزوج غيـرها، ولكنّ أمه منعتـه مِنها، نكـس رأسـهُ بِحزن ومشى لا يـُريد رؤية أحد، يُـريد المشي لِلتنفيس عن ناره التي أوقِدت، لعلَّ الهواء يُخفف من نيرانه، رأتهُ يذهب! رأت كُل حركةٍ فعلها! ظلت تراه بهدوء إلى أن اختفى، أغلقت النافذة ورجعت لِـكتابها ...
ومرت الأيام، الفتاة اِنتقلت من قريتها إلى المدينة، والولد لم يجدوا لهُ أثرًا بعد ذلك اليوم ...
هي في المكتبةِ وحيدة تقرأ الكتاب، هي الوحيدة التي ما زالت تعشق قراءة الكتب في زمنٍ أصبح ما تُريد يكون بين يديك في كبسة زر ...
تُحِبُها التي تُدير المكتبة؛ لأنها الوحيدة التي تتردد لها؛ تشعر أنهُ ما زال في المدينةِ شخص يريد الاطلاع، وكم أشتاقت لِرؤية الوجوه التي مثلها، تحب القراءة وتقرأ بشغف، تسعى لمعرفة كُل جديد، ولا ترى أن القراءة لا تُفيد بشيء أو أنها مضيعةٌ لِلوقت، اِبتسمت مُديرة المكتبة بحزن وقالت في خفاها: لا يعلم أغلب الناس أن العَظّمةَ تخرجُ مِن هُنا، وأنَّ البلاد لن تتطور و أغلب شعبها جُهلاء.!
بعد أن خرجت مِن المكتبةِ كعادتِها وبحوزتِها كتابان، رجعت لِلجلوس في قاعتِها بهدوءٍ تنتظِرُ متى يأتي البروفيسور ليلقي المحاضرة عليهم لتكتسب معرفة تُضيفها لمعرفتها السابقة لتتطور أكثر ...
أهناك من هو مثلها؟ يتشوق لِكسب العِلم مِمَن هم أعلم منه؟ ويحزن إن غابوا!؟ يريد التعلم لا علامات إمتياز، يريد أن يتفننّ في مجاله ويعمله بحب، لا لأجل وظيفة ونقود ...
وبعد أنْ أكملت كُل شيء وحان وقت الذهاب، حملت أمتعتها ذاهبة، وكـالعادة توَقفتها زميلتها تسألها عمَّا فاتها من الأستاذ فتجيبها ببرودٍ وتذهب ...
وتمر الأيام وهذا هو طبع الفتاة! هادئة، باردة، تبتسم بلطف، رزينة، وتُحِب الكتب ولا يُهِمها شيء ...
وذات يوم مع حضورها قالوا أن اليوم اِحتفال ومدير المحافظة سيأتي، لم يُهِمها الأمر، قررت الذهاب لِـتقرأ الكتب إلى أن ينتهي الحفل وترجع لِلمنزل ...
ذهبت لِلمكتبة فوجدتها مغلقة لا أحد فيها، قررت العودة لِلمنزل فإذا بالحافلة لا وجود لها، يئست وقررت الذهاب لِلحفل لِترى ما محتواها ...
رأت المحافظ ومعه حُراسٌ شداد، ما فائدته وهو لا يفعل لِلبلاد شيء، بلـ وربـما ينهب ثرواتها والقوم لا يعلمون، فكرشتهُ الكبيرة هذه لا تُبشر بالخير ...
تَكلم عن تطوير البلاد ويا ليته يفعل ما يقول، تكلم عن أهمية النفط وكيف سيستغله لِصالح البلاد، حسنًا .. إلى هنا يكفي، المهزلةُ بدأت تكبر، رفعت الفتاة يدها مكتاظةٌ مِن كلامه، جعلها تتكلم ويا ليتهُ لم يفعل ...!
قالت : ماذا لو بُنيت المدارس والجامعات، وفُرِض لِلناس العلم، أهذا أفضل؟! ماذا لو أتيت بالتُجّار ليبنوا المصانع الضخمة، وتمنحهم الأمان ليستثمروا أموالهم هنا، أهذا أفضل؟ ماذا لو أوقفت الاستيراد من الخارج وروجت لِلسلع المحلية، أهذا أفضل؟ ماذا لو استغللت ثروات اليمن التي لا تُعد ولا تُحصى؛ لِتحسين وضعها والسياحة بدلًا مِن النفط أهذا أفضل؟
قال المُحافظ بابتسامةِ نفاق ليتدارك نفسه: صدقتِ ومسح العرق عن جبينه بِتوترٍ ليقول: نفكر في عمل هذه الأمور أيضًا سنفعلها بإذن اللّه ...
صفق الجميع لها بفخرٍ فجلست بهدوء فلمحت .. ابعدت نظرها بسرعةٍ عنهُ كي لا يرى، لا تصدق أنها رأته، شعرت بالبرودةِ في أطرافِها، تِلك الابتسامة، إصبعه الزائدة، عيناه الحادتان، ظل يصفق لها وهي لا تسمع شيء غير تصفيقه، عادة الذكرى لها بلمح البصر، أنّى لهُ النسيان وهو في الكيانِ مُستقر، تداركت نفسها عِندما لمستها أحد الزميلات، نظرت من جديد لِلمكان الذي لمحته فيه فوجدته، إنهُ هو ينظُر إليها بابتسامةٍ بلهاء ...
ما زال يُصفق هل هو الوحيد الذي يُصفق أم أنها تسمع تصفيقته الوحيدة!؟ وكزهُ صديقه، يبدو أنه بقي الوحيد المصفق ...
انتهى الاحتفال وهي لا تعرف ما كان محتواه الأساسي، ظل بالها عِنده، أيا تُرى عرفها؟ مع كُل الأغطية التي لبستها أعرفها؟ لقد مرت سنين ليست قليلة، أما زال يتذكرها؟
رآها ذاهبة أهو في خيالٍ أم أن الخيال تحقق؟ أنّى لهُ نسيان تِلك العيون النعِسة؟ التي لطالما تأملها وأسرت لُب فؤاده
استوعب اِختفائها فتبعها فورًا يريد أن يراها، نادى باسمها، ولأول مرة يفعلها، كأنَّ اسمها خرج من صميم فؤاده لا طرف اللسان ...
توقفت والتفتت إليه عجزت عن النظر إليه لخجلها منه، تُمسك يديها بتوتر، هو توقف لا يعرف ما يقول؟ يحك شعره بتوتر، لِما عِند حضورها يضيع قاموس كلماته؟ فيصبح كطفل يُريد الكلام ولا يعلم بأي لفظٍ يُقول، وكأنَّ قلبه يقول لعقله: تكلم، وعقله تـوتر لِتـوتر قلبه فتخربش، الويل لكما فـ لِـيُنقده أحدكم ...
وبعد صِراع عقله وقلبه عن أي كلمة يُلقيها اِستقر على "كيف حالك"؟
قالت: بحمد للّه أنعم، وأنتَ؟
قال: الآن أصبحت بخير ونعمة اللّه نزلت عليَّ برؤيتك
ابتسمت برفق، ما زال يقول هذا الكلام
اِبتسم لابتسامتها التي لا تُرى، أنَّى لهُ معرفة ابتسامتها تحت الغطاء؟، ما زالت ابتسامتها تأسر الفؤاد، ويلـه؛
هلَّا رحمتِ متيمًا عصفت بِه الأشواق وهنا ...
رأى الكتاب في يدها وقال بحبٍ: أما زلتِ تقراين؟ إنكِ لا تملّي متى تتوقفين؟ أم أنكِ اتخذتهِ منهجًا أبديًّا؟
اِزدات اِبتسامتُها وقالت: أنا لم أتغير ما زلتُ هكذا ولكن أنت الذي تغير وأصبح شكلك هكذا،
خفّت اِبتسامته بعد أن رأى لِبسه العسكري وقال: ألم يعجبكِ مظهري؟
قالت: هيئتُك تدُل أنَّك لم تُغيرها منذ يومين.
قال: حسنًا صدقتِ في هذا، ولو كُنت علمت أني سألقكِ للبستُ أرقى ما لدي
قالت: أيرضيكَ حالك؟ أتُحِبُ وضعك؟
قال: يرضيني ما أفعل، وما أفعله لي مِنهُ هدف.
قالت: ما هو هدفك الموت؟، أتُريد أن تموت لأجل شخصٍ لا يهمه حياتك؟، وإن متّ ستكون في الأخبار معَ الأشخاص الذين ماتوا، لن يُذكر اسمك، لن يهمه أحَدٌ خبر موتك، إلا من أحبك، من أحبك سيُصِيبهُ الإنهيار ويتألم في فُراقك دهرًا لا فرح فيه.
قال: صدقتِ، ولكن ليس هذا هدفي.
قالت: الأهداف لها طُرق أنتَ اخترت أسوأها.
قال: آسف.
قالت: عن ماذا تعتذر؟ فما فعلته أكبر من أن يكون اِعتذاره واحدًا، الأهم الآن أن تذهب وتعتذر مِن أمك تِلك التي ظلت تنوح عليك كُل يوم، وأبيك الذي الهم والحزن أهلك جسده، وإخوتك الذين اختلَّ الاستقرار فؤادهم وفي كل مكان يسألوا عنك،
عَجَزَ إحِباؤكُ النوم بِسببك، أهذا جزاء مَن اِستوطنتَ فؤادة؟
دخل كلامها الصميم، لم يفكر بهذا، لم يتخيل أن يَتعبَ الجميعُ بسببه، ظن ألا يبالي أحدٌ بفراقه ...
مثّل أمامها القوة، وكل الحزن اجتمع فيه، نطق أخيرًا ليتخذ عذرًا لِفعله: هاتفي قد سُرق، وكنتُ بعيدًا عن الأهل، ولم يكن بحوزتِ النقود الكافية لِلرجوع لِلبلد ...
بحزنٍ كساها ما زال يتخذ اعذارًا هاوية، تعلم أنهُ قال هذا الكلام ليهدىء نفسه لـيُبرز لها براءته، ولكن لن ترحمه، الأن يجب عليهِ معرفة الخطأ ومدى كُبرِه قالت: حسنًا لنقتنع أنك أضعت هاتفك ولكن كان بإمكانك بأقل من شهرين توفير مبلغٍ يردك لعائلتك، هذا إذا كُنت فعلًا كُنت تنوي الرجوع ...!
لقد هزمته وأجبرته على السكوت، لا يُنكر اِرتكابه للخطأ ولكن يفعل هذا لأجلها، لا يُعقل أن يقول لها إنَّي أفعل هذا لترضى أمي على الزواج بكِ، لا يستطيع أن يخبرها بهذا ولا يوجد ردٌ يُرد لها بعد هذا الكلام!
أنقذه صديقه بمناداته، تمنى تقبيله لإنقاذه من حرب الكلام الذي لطالما هُزِم فيها، قرر الذهاب مشى ببطئ، هو لا يريد الذهاب، يتمنـى أن يظل معها، لقد قتلته شوقًا؛ وتصبب منه العرق بسببها، وبينمى هو يمشي نادته ...
لقد نادت اسمه، ماعاد يشعر بخفقان قلبهِ لِسرعته، شعر وكأنَّ الهواء انعدم، ما أجمل اسمه، لاحظ جمال اسمه الذي فاق الجمال بذاته، ربما رأه بهذا الجمال لأنها نطقته ...
آهٍ مِنها مُعذبتي، كأنَّها الكوكب الدّري بالأفقِ، ليتها تشعر بــ ولهاني لها، إنّي اُحبها حبًا لا نفاذَ لهُ، ليتها ترأف لحالي المتيمةُ بِها ...
قالت كلامها الأخير ويقينها التام، حاسمٌ بأنَّه سيعود: أرجوك اِستفق، وارجِع لأهلك ...
رأى لها، أنَّى لهُ رفض كلامها، وإن كان طلبُها لا يُرضيه، كيف لهُ أن يقول لها لا؟!
ذهب عنها وحنين الشوق لها زاد، اِستفاق من كلامها وقرر الرجوع لِلبلاد
قدّم اِستقالته، رتب ملابسه، عانق صديقه وقرر الذهاب، وبينما هو ذاهب، رصاصة غدرٍ أتته، قناصٌ بعيد، الهدف قتلُه، إصابة كتفه، وقع على الأرض، دمعة عينه ألمًا لا يُريد الموت، يُريد أن يُكمل ما بدأ، ولياخذ اللّه روحه إن أكمله ...
تأخر في الرجوع، أهان عليه كلامها، لا أخبار عنه، أضمر الخوف فؤادها هل وقع به شيء؟
في المكتبة تقرأ كتاب ولا تعلم ما محتواه، تُكذِّب نفسها بأنها لم تقلق عليه فتقول في خفائها: الويل لك ماذا فعلت بقلبي؟
وعندما همت بالخروجِ إذ بها تراه، الجبيرةُ في يده والإرهاق بادٍ على وجهِهِ وابتسامةُ يملؤها الألمَ، لديه حقيبة، أسيرجع للبلاد؟
اِتجهت إليه، ما كان عليه أن يأتي هكذا قالها لنفسه عندما رأى القلق والحزن في عينيها ...
قال لها إنهُ بخير، دار أمامها وكأنّ لا شيء فيه، أخبرها أنها إصابة طفيفة أصابته عندما كان آتٍ فأخرته، لا يُحِب أن يرى الحزن يستحِلُ عينيها ...
وفجأة دمعةٌ قررت الخروج من مُقلتيها لِتتوالى الدموع بعدها لِـتُزيح الألم عن قلبِها ...
رأى دموعها لم يستطع الكلام، أتبكي عليه؟ لماذا؟ ظل يراها ليُصدق ما يرى، عندما رأته ينظر إليها بتعجبٍ لِبكائها خجلت ...
نظر لِخجلها فبتسم وقال: سأغادر وهذا لن يكون آخر لقاءٍ بيننا أعدك ...
أقلع عمّا كان عليه لأجلها، وصل لأرضه التي عاش بها، هلل الجميع، دموع أمه التي لا تتوقف، أبوه الذي انزاح عن كتِفه همه، إخوته وأصدقاؤه وكل من أحبه اِحتفل بمجيئه ...
وبعد أيامٍ كأنَّها عقود، وطلبٌ مستمرٌ مِن نبع الحنان لِـترضى وافقت...!
أستُصبحُ له!
اليوم يوم لِقائهم، حلَّ الخريف، هل هو بخير؟، بل إنَّ قلبهُ يرتجف، وقِّـع هناْ، قال لهُ، والحَشَدُ بعده مُبتسم:
هي ابنتي، كانت معي، والآن قد صارت معك، قَبَّـل يداه، وقال له: هي في الصميم، مسكنُها هنٱ، باللّه قُل لها أن تُراءي لحالي.
النـهايــــــٰٰٖٖٓــٰٖٖٖٓـة.