تقرير يتناول فرص نجاح الحوار الجنوبي الذي أطلقه المجلس الانتقالي وسط كم كبير من الانسحابات والاعتذارات..
ما المنتظر من الحوار الجنوبي.. وهل سيُفضي إلى كيانات هشة وتابعة للانتقالي؟
أم أن الحوار الجنوبي تحرك حقيقي من الانتقالي للانفتاح على الآخر؟
هل سيشمل الحوار حتى المكونات المعارضة للانفصال؟
في ظل مقاطعة أطراف رئيسية.. ما مصير الحوار؟
ما هي فرص نجاح الحوار الجنوبي؟
(عدن الغد) القسم السياسي:
ثمة صفة ما انفكت تلازم عمليات الحوار السياسي في تاريخ اليمن، والتي غالبًا ما تنتهي بصراعات أو تعقبها حروب، بدلًا من التوافق المتوقع لمثل هكذا خطوات.
عرفت اليمن هذا التقليد غير المستقر رغمًا عنها، وارتبط بمراحلها السياسية المختلفة، واستمر منذ عقود طويلة، منسحبًا على واقع اليوم، ومكررًا ذات الملهاة المأساوية والمفزعة في آن.
فمبجرد جلوس اليمنيين إلى طاولات الحوار، ترتفع حينها آمال السلام والوئام، غير أنها ما تلبث أن تتلاشى تلك الآمال على وقع طبول الحرب التي تعقب الحوارات والمشاورات والمؤتمرات.
وبدلًا من تأسيس الحوار لمداميك متينة تُبنى عليها عوامل الاستقرار، تندلع الحروب ويبدأ الاقتتال بين المتحاورين أنفسهم رفضًا لما تمخضت عنه تلك الحوارات، ومنعًا لتنفيذ ما تفق حوله المتحاورون.
تكرر الأمر شمالًا وجنوبًا في مختلف المراحل السياسية، فيما يشبه المأسأة القاتلة لكل تطلعات اليمنيين، بدءًا من حوارات الجبهتين القومية والتحرير في ستينيات القرن الماضي.
وهي حوارات أفضت إلى ”اقتتال شوارع” بهدف فرض سطوة الأقوى كمسيطرٍ على سلطة الأمر الواقع، ضاربين عرض الحائط مقررات الحوارات التي لم يكن حبرها قد جفّ.
في المقابل، لم يكن الشمال اليمني أحسن حالاً من جنوبه في تاريخ الحوارات السياسية بين فصائله، بل إنها كانت أشبه ما تكون إلى جس نبض كل طرف للآخر لبدء جولة جديدة من الاقتتال والصراع العنيف.
هذه ”الجينات الوراثية” للتاريخ السياسي اليمني، انسحبت على المرحلة التي تلت فترات التشطير ودولتي الشمال والجنوب، وتكررت ويلاتها خلال دولة الوحدة، التي شهدت هي الأخرى حوارات سياسية أفضت جميعها إلى حروب واقتتال أهلي بدلًا من التوافق.
> حوارات اليمنيين العنيفة
شهد اليمنيون مطلع تسعينيات القرن الماضي، وحتى في بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة حوارات سياسية محورية، كان الهدف منها الوصول إلى كلمة سواء، وإنهاء الأزمات التي كانت في بدايتها ولم تتفاقم بعد.
تتكرر الأمر في وثيقة العهد والاتفاق التي أقرتها حوارات العاصمة الأردنية عمّان وجمعت بين قيادات جنوب اليمن وشماله، قبيل حرب صيف عام 1994، وعاد ذات الأمر في مؤتمر الحوار الوطني الشامل خلال عامي 2013 و2014، والتي نتج عنه حرب عام 2015 المستمرة حتى اليوم.
كان من شأن تلك الحوارات لو تم تنفيذ نتائجها ومخرجاتها أن تضع أساسًا متينًا لدولةٍ فاضلة لو صلحت نوايا المتحاورين، عكفًا على ما تمخضت به من بنود وتفاهمات، غير أن هذا لم يحدث أبدًا، وما حدث فعلًا كان العكس تمامًا.
حوارات اليمن الوحدوي لم تختلف عن حوارات شطري اليمن، وجميعها كانت بمثابة استعدادًا لجولة مواجهة عنيفة، يتمترس فيها كل طرف خلف قناعاته الرافضة للتوافقات الشعبية والمجتمعية، ولم تكن سوى بداية لمرحلة عنيفة.
وهذا ما يؤكد أن مآلات الحوارات السياسية الماضية، والموثقة تاريخيًا في اليمن امتدت إلى واقع اليوم، الذي تشهد فيه البلاد دعوات سياسية للحوار الداخلي يخشى كثيرون أن يكون مصيرها نفس مصير سابقاتها من الحوارات التاريخية اليمنية.
ولعل الحوار الجنوبي الجنوبي الذي دعا إليه المجلس الانتقالي الجنوبي مؤخرًا، تنتظره الكثير من المخاطر المتربصة به، والتي قد تحول دون نجاحه أو تحقيق مبتغاه كما هو مأمول منه، في ظل تشظي الشارع الحنوبي، وحرص الانتقالي على لملمة هذا التشظي ومداواته، وفق ما تؤكد أدبيات المجلس.
غير أن الانتقالي واجه ويواجه تحديات كبيرة، قد تعصف بالحوار الجنوبي الجنوبي حتى قبل أن يبدأ، ما يجعل هذا الحوار شبيهًا إلى حدٍ كبير بالحوارات التي درجت عليها الأطراف السياسية في مختلف المراحل التي مرّت بها البلاد.
> ما المنتظر من الحوار؟
شهدت الساحة الجنوبية خلال الشهرين الأخيرين تطورات سياسية لافتة، وصلت إلى مرحلة من التغييرات الجذرية التي لم يكن أحد يتوقع أن يُقدم عليها المجلس الانتقالي الجنوبي.
أبرز تلك التطورات كان رغبة واعتزام المجلس الانتقالي ورئيسه اللواء عيدروس الزبيدي على إعادة هيكلة المجلس، وهو حدث محوري وهام إذا تحقق بالفعل، غير أنه في نفس الوقت لا يسلم من المؤشرات والدلالات غير الراضية على عمل الانتقالي خلال السنوات الست الماضية منذ تأسيسه.
يأتي ذلك في ظل تأكيدات رئيس الانتقالي على ”ضخ دماء جديدة” في قيادة المجلس، في إشارة إلى إمكانية استيعاب المكونات الجنوبية الأخرى المتواجدة على الساحة، وهو تطور إيجابي إذا كان الغرض منه تحسين أداء المجلس الانتقالي فعلًا.
ويبدو أن اللجوء إلى الحوار هو السبيل الذي ارتأه المجلس الانتقالي لاستيعاب تلك المكونات السياسية الجنوبي في قوام المجلس ومنح بعض قيادات تلك المكونات الأخرى، وهذا يتطلب إيمانًا واعترافًا وتسليمًا من بقية المكونات بما يؤمن به الانتقالي ويدعيه.
وعلى رأس تلك المُسلمات أن يكون الانتقالي هو المظلة الوحيدة التي تستظل تحتها مطالب الشعب الجنوبي، بالإضافة إلى التسليم بأساليبه وقناعاته هو فقط في سبيل الوصول إلى تطلعات الجنوبيين، رغم أن هذه التطلعات متباينة باختلاف المكونات وأهدافها السياسية، ولا يستطيع أحد الادعاء بأن تلك التطلعات واحدة.
فالانتقالي ينتظر من الحوار الجنوبي الجنوبي اني توافق الجميع مع رؤياه السياسية تجاه مستقبل الجنوب، وهذا من حقه كمكون موجود على الأرض وأثبت نفسه بالفعل، غير أن الرؤى لدى المكونات الجنوبية الأخرى تختلف في كيفية حصول الجنوب على حقوقه، فلكل أساليبه ووسائله وغاياته.
وليس بالضرورة أن يكون السبيل أو الغاية هي الانفصال أو فك الارتباط، كما أنه ليس بالضرورة أن يكون الحل هو الإبقاء على الوحدة بشكل الاندماجي التقليدي الذي عفا عليه الزمن، وهذا ما يجعل من مآلات ومصير الحوار الجنوبي الجنوبي على المحك.
فما هو منتظر من الحوار الجنوبي بالنسبة للانتقالي يختلف عن ما هو منتظر من نفس الحوار بالنسبة لبقية المكونات السياسية الجنوبية، التي لا تريد أن يُفضي المؤتمر إلى كيانات تابعة للانتقالي، أو مخرجات هشة لا تحقق غايات المكونات المشاركة في الحوار.
وللأسف فإن هذه الجزئية هي نفسها التي بنت عليها الكثير من المكونات والكيانات الجنوبية عند رفضها المشاركة في الحوار الجنوبي الجنوبي، الذي بالمناسبة يصادف انطلاقه ويتزامن مع تأسيس المجلس الانتقالي الجنوبي، مطلع مايو/آيار 2017.
> هل تغيّرت قناعات الانتقالي؟
يُعول المجلس الانتقالي الجنوبي كثيرًا على الحوار الذي دعا إليه كافة القوى والمكونات السياسية الجنوبية، ليس من منطلق كونه المفوض الوحيد والمتحدث الرسمي باسم قضية شعب الجنوب، كما كان يدّعي أو لأنه يسعى إلى أن تكون كافة المكونات الجنوبية تسير على خطاه، أو يجبرها على ارتداء عباءته فارضًا على كيانات الجنوب العيش في جلبابه، ولكن هذا الحوار برمته اعتراف من الانتقالي بأنه ليس الوحيد المتواجد على الساحة الجنوبية، وهو بذلك يؤكد أنه منفتح على الآخر الجنوبي.
وبغض النظر عن أسباب هذا التوجه المتغير بالنسبة لسياسة الانتقالي، سواءً أكان بضغوط من الخارج أو الإقليم، أو أنه قناعة ذاتية نابعة من الداخل، إلا أنه يعتبر توجهًا مطلوبًا وتحركًا حقيقيًا من الانتقالي لتوحيد جبهة الجنوب التي بدت مشتتة ومتشظية للغاية خلال السنوات الماضية.
هذا التوجه المطلوب تحتاجه المرحلة السياسية التي تُقبل عليه البلاد، في ظل استعدادات لتفاهمات وتسويات سياسية للحرب والأزمة السياسية برمتها في اليمن، فكان لا بد للانتقالي أن ينفتح على الآخر الجنوبي لصناعة جبهة جنوبية موحدة لخوض غمار التسوية السياسية المرتقبة التي سترسم مستقبل اليمن عمومًا والجنوب تحديدًا.
وهو ما يشير إلى تغير قناعات المجلس الانتقالي الذي كان متمسكًا يكون مفوضًا وحيدًا ومتحدثًا باسم القضية الجنوبية، ومجرد انفتاحه هذا على نظرائه من المكونات الجنوبية يؤكد تخليه عن قناعاته تلك.
حتى أن الانتقالي لم يقتصر على المكونات الجنوبية المطالبة بالانفصال، بل انفتح على الكيانات الجنوبية ذات التوجه الوحدوي، وهي مكونات تتمسك بالوحدة اليمنية لكن ليس بصورتها الإندماجية العتيقة، ولا تتبنى دعوات الانفصال ذات البعد المتطرف، وهو بحد ذاته تطور مهم يحسب للمجلس الانتقالي الجنوبي.
لكن ما الذي يجعل من بعض الكيانات والمكونات الجنوبية السياسية تعتذر ترفض المشاركة في الحوار الجنوبي الجنوبي الذي دعا إليه الانتقالي، رغم أنها مكونات ثقيلة سياسيًا على الساحة الجنوبية.
> أسباب الاعتذار عن المشاركة
رغم تأكيدات المجلس الانتقالي بأن الحوار يمثل نقطة فارقة لتلاحم الجنوبيين ووحدتهم، وحرصه على أهمية المشاركة الفعالة من قبل كل المكونات السياسية والنخب وشرائح المجتمع الجنوبي في هذا الحدث الذي وصفه بـ”التاريخي”، إلا أن الحوار لاقى رفضًا من مكونات عديدة.
إحدى تلك المكونات الجنوبية كان المجلس الأعلى للحراك الثوري لتحرير واستقلال الجنوب التابع للقيادي الجنوبي فؤاد راشد، الذي برر رفضه للمشاركة في حوار الانتقالي بـ”الإصرار على الدفع بمكونات الحراك الجنوبي المستقلة للتوقيع على ميثاق وطني يفوض المجلس الانتقالي كممثل حصري عن القضية الجنوبية”.
مجلس الحراك الثوري اعتبر هذا الدفع من الانتقالي بأنه ”استباق للحوار والتفاف عليه، وأن مثل هذا اللقاء يأخذ شكل مهرجان جماهيري أكثر منه لقاء تشاوري جنوبي لوضع أسس ومبادئ الحوار”.
متهمًا الانتقالي بدعم وتمويل عمليات ”تفريخ” المكونات الجنوبية، كما حدث مع مكونه هو بالذات، والتدخل في شئون كيانات الحراك الجنوبي، كما أشار إلى إنه لم يتم تهيئة أرضية مناسبة للحوار الجنوبي.
وقال صراحةً إن الانتقالي ”غير جاد” في تغيير سلوكه تجاه المكونات الجنوبية عمومًا ولم يتقدم خطوات لمعالجة الجروح الناتجة عن حرب 2018 و 2019، مستأثرًا بالسلطات الممنوحة من الحكومة اليمنية لإلحاق الأذى بالآخرين، مطبعًا الأوضاع بعيدا عن هدف التحرير والاستقلال.
مبررات الحراك الثوري حول رفضه للمشاركة في الحوار لم تختلف كثيرًا عن مبررات مكون الحراك الجنوبي المشارك الذي أكد أنه رفض المشاركة في الحوار تجنبًا لتكرار أخطاء الجبهة القومية التي دمجت كافة القوى في إطار تنظيمي وسياسي واحد، وحتى لا نقع في مطبات الماضي.
مكون الحراك الجنوبي دعا إلى القبول بالتعدد السياسي الذي من شأنه خلق اصطفاف وطني جنوبي ينتصر للقضية الجنوبية واستحقاقها، لافتًا إلى غياب آلية واضحة أو معايير للمشاركة، بالإضافة إلى غياب بناء الثقة بين المكونات.
ورغم دعوات قيادات في الانتقالي للمكونات الحضرمية بالمشاركة في الحوار، إلا أن مؤتمر حضرموت الجامع اعتذر عن المشاركة، مبررًا ذلك باستباق إعلام الانتقالي ما سيسفر عنه اللقاء التشاوري من نتائج قبل انعقاده!.
وقال مؤتمر حضرموت الجامع إن أهداف اللقاء أو الحوار المعلن عنها، وما أشير إليه إعلاميًا من نتائج مسبقة لا يتفقان، إذ أن اللقاء التشاوري ما هو إلا مرحلة أولية لنقاش ما يعرض على المتحاورين من وثائق وهو ما يتسم بالأخذ والعطاء.
> ما مصير الحوار؟
في ظل مقاطعة أطراف تبدو أنها أطرافًا رئيسية ومن مكونات الجنوب الأصيلة، قد يشكك البعض بمصير الحوار أو اللقاء التشاوري الذي دعا إليه المجلس الانتقالي الجنوبي، فيما يقلل آخرون من فرص نجاح الحوار، بعد هذا اللغط المثار حوله.
ولعل في استباق الحوار والإعلان عن ميثاق شرف جنوبي معد وجاهز مسبقًا كان سببًا في حدوث كل هذا الانقسام والاعتذار عن المشاركة من قبل مكونات هامة.
بالإضافة إلى أن تاريخ المجلس الانتقالي منذ تأسيسه في تعامله مع نظرائه من المكونات الجنوبية وأساليبه الاستعلائية -إن جاز القول- كان لها أثر في رفض المشاركة في الحوار، كما أن تاريخ الدمج القسري للمكونات والكيانات السياسية التي مارسته الجبهة لم يغب عن أذهان الجنوبيين هو الآخر.
الأمر الذي يجعل من مصير الحوار الجنوبي الجنوبي غامضًا وضبابيًا في ظل مشاركة كيانات قد لا تشكل تأثيرًا كبيرًا على الساحة الجنوبية، غير أن كل ذلك لا يمكن استباقه حتى يتم عقد الحوار وترقب نتائجه التي من خلالها يمكن الحكم على نجاح الحوار من عدمه.