تحليل لطبيعة التقارب الإيراني السعودي وانعكاساته على الصراع في اليمن وتأثيراته على الأطراف المحلية..
كيف سينعكس التقارب الإيراني السعودي على الأزمة في اليمن؟
هل تستطيع القوى الإقليمية دفع الأطراف الموالية لها نحو تسوية سياسية؟
كيف سيكون شكل التسوية السياسية المفروضة من قبل طهران والرياض؟
تأثير إيران في الحوثيين.. هل هو كبير أم أنه محدود؟
القوى الإقليمية تؤثر في الجميع.
(عدن الغد) القسم السياسي:
ما انفكت اليمن تخضع لتدخلات خارجية طيلة تاريخ وجودها، وليس فقط خلال تاريخها السياسي المعاصر، فموقعها الجيوسياسي أسال لعاب الطامعين، الذين حاولوا السيطرة عليها بقوة السلاح والاحتلال العسكري، فمنهم من نجح وآخرون فشلوا، منذ عصور سحيقة، وحتى ما بعد النصف الثاني من القرن العشرين.
وتكرر ذات الأمر خلال فترة الحرب الباردة التي شهدت استقطابًا من قبل قطبي تلك الحرب، والمعسكرين الشرقي والغربي، ووقع جزء من اليمن في براثن الاشتراكية العالمية والعلمية، فيما بقي الجزء الآخر مواليًا للفكر الرأسمالي المدعوم من دول محيطة به توالي وتتبنى نفس الفكر.
غير أن المشهد الراهن اختلف تمامًا في استقطاباته، حيث شهد اليمن محاولات حثيثة من اللاعبين الدوليين والإقليميين المتحكمين بمصائر البلدان للسيطرة على هذا البلد، لكن صراع العصر الحالي اختلف عن صراعات القرون الماضية أو حتى عقود الحرب الباردة التي انتهت وتلاشت مسبباتها.
الاختلاف يكمن في أن صراعات الماضي كانت من أجل الفوز بـ"كعكة اليمن" وموقعها الجغرافي المميز، غير أن صراعات اليوم من الخطورة بمكان بحيث أن فكرة السيطرة والتحكم ببلد كاليمن تضمن تحكمًا وسيطرة على ما جاوره وحاده من دول، يسهل من خلالها التحكم في أمنها القومي واستقرارها.
وهي فكرة خطيرة للغاية، بدأت ملامحها تتشكل منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، حين بدأت صراعات المنطقة تتخذ أبعادًا أكثر تطرفًا وتوسعت بحيث أنها باتت عابرة للحدود، وإذا كانت السيطرة على دولة مثل اليمن قديمًا يحمل ميزات جغرافية واقتصادية تتمثل في التحكم بممراتها المائية ونهب ثرواتها الطبيعية، فإن السيطرة على اليمن اليوم أعمق بكثير.
وموقع أي دولة اليوم لا يخصها هي فقط، بقدر ما يخص جيرانها ومحيطها، وهذا بالضبط ما أدركته قوى إقليمية ودولية، في كل العالم وليس فقط المنطقة العربية، ويبدو أن هذا ما يبرر طبيعة الصراع السعودي الإيراني على اليمن، في خضم الأزمات والصراعات المنتشرة في المنطقة خلال العقدين الأخيرين.
وإذا كان الصراع حول اليمن قديمًا، فإن الصراع الإيراني السعودي بأبعاده العصرية العابرة للحدود تفاقم بشكل مخيف مؤخرًا، وبات مجرد السيطرة على اليمن تعني السيطرة على الآخر المجاور، لكن مفهوم كل طرف قد يختلف عن الآخر، فالرياض مثلا تنظر لليمن بأنها دولة مجاورة يجب توجيه كل ما يجري بداخلها بحيث لا يؤثر على استقرار المملكة تأمينًا للأمن القومي، بينما تنظر طهران لليمن بأنها أداة يمكن من خلالها تهديد حدود السعودية وابتزازها.
فالدارس والمُلاحظ لما يدور بين طهران والرياض في السنوات العشرين الأخيرة، يدرك أن ما تقوم إيران في المنطقة العربية يستهدف بشكل واضح "تطويق" السعودية من كل الجهات، فبعد أن استطاعت طهران إسقاط العراق لصالحها، وكذلك سوريا ولبنان، بدت وكأنها أكملت تطويق السعودية من جهة الشمال، وها هي تسعى إلى إكمال المشهد وتطويقها من الجنوب عبر تدخلاتها في اليمن.
> انعكاسات التقارب
نوايا طهران تجاه السعودية تم الكشف عنها مبكرًا، عقب الثورة الإيرانية في أواخر سبعينيات القرن الماضي، من خلال سياسة تصدير الثورة الذي تبناه الحكام الجدد لإيران، وكانت هذه النوايا دائمًا ما تقابلها السعودية "جماعيًا"، عبر تكتلات وتحالفات إقليمية مدروسة، تهدف لإيقاف تهديدات إيران.
ولهذا دفعت الرياض نحو إنشاء مجلس التعاون الخليجي عام 1981، لمواجهة تصدير الثورة الإيرانية، وهذا ما قامت به أيضًا عندما أنشأت التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن عقب الانقلاب الحوثي المدعوم من نظام إيران، وفي الحالتين كانت السعودية تسعى لحماية أمنها القومي من تهديدات وابتزازات إيران.
الأمر الذي أدى إلى توتر العلاقات بين الجانبين، بالإضافة إلى تدخل طهران في شئون داخلية سعودية، تسببت بمظاهرات اقتحمت السفارة السعودية في طهران ومقرات البعثات الدبلوماسية في البلاد، دفعت الرياض الى قطع العلاقات نهائيًا مع طهران مطلع يناير/كانون الثاني عام 2016، مدعومةً بما يجري في اليمن من صراع بين الطرفين.
وبعد كل تلك السنوات، وما دار على الأرض اليمنية من صراع بين القوتين الإقليميتين، عملت الصين، كونها قوة عظمى، على تقريب وجهات النظر بين الجانبين ومحاولة إعادة العلاقات الثنائية والدبلوماسية بينهما، وهو ما تم بالفعل في مارس/أيار الماضي مدفوعةً بالعديد من العوامل الإقليمية والدولية التي أعادت العلاقات، وحققت تقاربًا سياسيًا بين البلدين.
من تلك العوامل، أن الرياض تسعى وتحرص على إيقاف نزيف الحرب بين اليمنيين، مع عدم الإخلال بأمنها واستقرارها القومي، بالإضافة إلى تأثيرات المشهد العالمي الراهن وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على الاستقرار الدولي، ورغبة "التنين الصيني" في رسم خارطة علاقات دولية جديدة، في ظل ترنح الأمريكان وتهاوي قوة الدولار الاقتصادية، بالإضافة إلى حالة عدم التوازن التي يعاني منها الدب الروسي.
ولهذا فقد قدمت الرياض نفسها على أنها وسيط وليست طرفا، وانخرطت مع مليشيات الحوثي الانقلابية في مفاوضات لتحديد ملامح التسوية السياسية القادمة في اليمن، مستندةً إلى اتفاقها مع طهران، والتقارب الذي توج باستعادة العلاقات الدبلوماسية وإعادة فتح السفارة الإيرانية في الرياض، وهو ما يؤكد أن هذا التقارب يمكن أن ينعكس إيجابًا على الأزمة في اليمن.
التفاؤل بإمكانية حدوث تقارب حقيقي بين الأطراف اليمنية؛ نتيجة التقارب الإيراني السعودي قد يحدث بسبب مقومات عديدة يتمتع بها كل طرف من الأطراف الإقليمية المتمثلة في السعودية وإيران، والتأثيرات التي تمتلكها كل قوة على الطرف المحلي، ومعرفة مفاتيح كل طرف وطرق الوصول إليه، بما يفضي في نهاية المطاف إلى تحقيق تسوية سياسية شاملة.
وهذه الحقيقة وإن كانت مؤلمة، إلا أنها منطقية إلى حد بعيد، فخيوط اللعبة اليمنية بأيدي الخارج، ولم تكن يومًا بأيدي اللاعبين المحليين، لهذا يبدو أن الحل للأزمة اليمنية يبدأ من معالجة القوى الخارجية لمشاكلها وأي توافق بينها سينجم عنه تغيير حقيقي في الداخل.
> ما شكل التسوية المرتقبة
هذا التوافق والتقارب الإيراني والسعودي إذا ما تم بجميع تفاصيله وملامحه، من المؤكد أنه سيُفضي إلى تحريك الملف اليمني، الذي بدا جامدًا طيلة السنوات التسع الماضية، ومن الطبيعي أن هاتين القوتين تعملان-إذا أرادتا- بالضغط على حلفائهما في الداخل للاستجابة إلى صوت السلام.
وهي متوالية اعترف بها مسئولو الدولتين في السعودية وإيران، الذين أكدوا أن الملف اليمني سيتأثر بشكل مؤكد بالتقارب بين البلدين، وهو ما عكسته المفاوضات السعودية الحوثية في صنعاء، لكن ليس بالضرورة أن يكون هذا التأثر والتغيير سريعًا أو فوريًا بحسب تأكيدات مراقبين.
فاليمن اليوم في عام 2023، ليس هو اليمن الذي كان في 2015، حين تدخلت السعودية لإيقاف تمدد الحوثيين المدعومين إيرانيًا، كما أن مطالب كل طرف محلي وحصته ومصالحه التي يمكن أن يتنازل عنها أو يتمسك بها اختلفت وتغيرت حساباتها، الأمر الذي سيُلقي بظلاله على مستقبل التسوية السياسية.
حيث أن المرجعيات التي تتمسك بها الحكومة الشرعية تراجعت مكانتها مع طول الحرب في اليمن، ومع ظهور العديد من المكونات والقوى السياسية التي باتت تمتلك مطالب لا تنسجم مع المرجعيات، حتى وإن كانت تلك القوى منتمية لقوام الشرعية ذاتها، وما يزيد على كل ذلك أن موقف الحوثيين تغير، وتغيرت موازين القوى، ما يحتم تفاصيل جديدة ترسم ملامح وشكل التسوية السياسية القادمة.
فحتى ولو كانت هناك أية تسوية مفروضة من القوتين الإقليميتين، طهران والرياض، على الشرعية والحوثي أو الانتقالي أو الحضارم أو حراس الجمهورية أو غيرها من القوى، فإنها ستكون تسوية لحفظ ماء وجه كل قوة من تلك القوى، وسيحاول كل حليف تمكين حليفه من أكبر قدر ممكن من السلطة والمكانة، بحيث يحفظ هذا الطرف المحلي هو الآخر مكانة ومصالح داعميه.
مع الأخذ بعين الاعتبار إمكانية تجاوز الأطراف المحلية لخلافاتها العقدية والسياسية والاجتماعية، وهو أمر مكفول بمدى جدوى التوجيهات العليا الصادرة من الداعمين الذين تجاوزوا خلافاتهم، ولم يتبق سوى أن يسهموا في إلغاء خلافات أدواتهم المحلية حتى يتسنى لليمنيين التوصل إلى تسوية سياسية شاملة.
عند الحديث عن علاقة إيران بالحوثيين، لا ينبغي إغفال حجم التأثير الذي تلعبه طهران على حكام صنعاء، وهو تأثير واضح وجلي تجسد في أصغر الممارسات الطائفية والمذهبية التي تقوم بها وتمارسها مليشيات الحوثي في مناطق سيطرتها، الأمر الذي يؤكد حجم الرضوخ والامتثال الذي تمثله المليشيات في علاقتها مع إيران.
كما لا يمكن تصور أو تصديق محاولات بعض القيادات الحوثية التقليل من تأثيرات هذه العلاقة، أو الحديث عن أنها علاقة محدودة، فالواقع والأحداث تؤكد أنها علاقة متينة واستراتيجية للغاية، تمتد إلى بداية الثمانينيات من القرن الماضي، ولهذا فإن مفاتيح أية تسوية سياسية للأزمة في اليمن تكمن في طهران، من خلال ممارسة الضغط على المليشيات الحوثية للجنوح إلى السلم.
وأي مآلات أخرى غير الضغط على الحوثيين ستؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن إيران ليست جادة بتقاربها مع السعودية، وأن الاتفاق ليس سوى تكتيك ومناورة سياسية إيرانية لامتصاص الغضب الدولي من المظاهرات التي عصفت بها قبل شهور، ما يضع الحوثيين والإيرانيين أمام تحدٍ جديد محليًا وإقليميًا ودوليًا.