تحقيق : ماهر البرشاء.
أنتجت الحرب في اليمن المستمرة منذ العام 2015 معاناة إنسانية يتجدد أمدها كل يوم، وتتفاقم بشكل كبير، مما جعلها تلقي بظلالها على المواطن اليمني البسيط، من خلال انعكاس تأثيرها على الخدمات والسلع الأساسية بارتفاع حاد يكاد أن يصل عنان السماء.
ويعاني المواطن اليمني في عموم المحافظات المحررة التي تخضع لسيطرة الحكومة الشرعية من ارتفاع أسعار المواد الغذائية والسلع الأخرى، حيث أصبحت أغلب البيوت اليمنية خالية تمامًا من مقومات الحياة الأساسية التي يجابهون بها الحرب العبثية، التي جعلت المواطن اليمني يبحث في الوقت الحالي عن كسرة خبز بسعر محدود وشربة ماء تطفئ لهيب عطشه، ذلك المواطن اليمني البسيط الذي طحنته رحى الحرب وصار همه الأول والأخير هو التصدي لقسوة الحياة في وطن باتت فيه أبسط المقومات معدومة.
* الكفاح من أجل البقاء
خلال إعدادنا لهذا التحقيق الذي هدفنا منه إلى إيضاح أسباب ارتفاع الأسعار ووضع حلول لها، التقينا المواطن الخضر عبدالله، أحد ساكني مديرية الشيخ عثمان بعدن، الذي قال لنا: "إن ارتفاع الأسعار فاقم من معاناة المواطن، ومعه باتت الحياة المعيشية قاسية جداً"، موضحًا بأنه "لم يعد أي مواطن يطعم لذة الحياة نتيجة هذه الانعكاسات التي خلفتها الظروف الاقتصادية المتدهورة، وأضحى المجتمع بكل فئاته يصارع أيامه ولياليه من أجل البقاء والكفاح من أجل جلب لقمة عيش بسيطة يقدمها لمن يعول من أهله".
* ظروف قاهرة
أصبح المواطن يكافح ويصارع الحياة من أجل لقيمات يسد بها رمق جوع أطفاله، ويتغلب على الغلاء الفاحش بمواصلة الكفاح والعمل في طلب الرزق وعدم اليأس والاستسلام.
ويضيف المواطن الخضر في حديثه لنا قائلاً: "من فشل في مواجهة الغلاء والتدهور الاقتصادي الذي نعيشه البلاد يلجأ إلى الانتحار كما هو مشاهد من أخبار في وسائل التواصل الاجتماعي من المواطنين اليمنيين، وذلك بسبب عدم تقبلهم للظروف القاهرة لمواجهة هذه الكارثة الاقتصادية التي حلت ببلادنا".
ويدعو "الخضر" جميع المواطنين إلى الاعتماد في البحث عن الأعمال التي تعد مصدر رزق لأسرهم، وعدم الركون إلى الفتات الذي ينتظرونه من المنظمات أو الدول التي تسمي نفسها راعية المساعدات للدول المنكوبة، كما هو حاصل في البلد.
* تزايد ارتفاع الأسعار
يفاقم ارتفاع سعر الدولار الأمريكي أمام العملة الوطنية "الريال" من معاناة اليمنيين الذين أنهكتهم الحرب، حيث أسهم ارتفاع الدولار في ارتفاع أسعار السلع الغذائية الأساسية. ويرى التجار أن العملة الأجنبية هي سبب رئيسي في هذا الارتفاع.
صالح الشحاري، مالك محل تجاري في الخساف بمدينة عدن القديمة "كريتر" قال: "إن الغلاء جعلنا نحن التجار لا نتمكن من ضبط الأسعار، فلكل يوم سعر مختلف، وكل يوم الدولار في ارتفاع وترتفع معه البضاعة".
ويضيف: "نحن نشتري البضاعة من سوق الجملة أو من خارج البلد، لكن بأسعار كبيرة أيضا، فهم يحسبونها بالارتفاع والانخفاض للعملات مقابل العملة المحلية، وهذا ما يؤثر علينا ويجعل المواطنين يتذمرون منا عندما يتغير سعر المواد الغذائية، ولا يدركون أننا مثلهم ضحية وأننا أيضاً نخسر كثيراً في التجارة والبيع والشراء".
صالح الشحاري لم يكتفِ بشرح معاناتهم أيضاً كتجار بل طالب بأن تتحرك الجهات المعنية لتحديد أسعار السلع وضبطها وتعميم ذلك على كل المحلات التجارية والبقالات، حتى لا تسمح لأي تأجر أن يزيد في السعر على الناس، ويتم البيع بطريقة طبيعية بعيداً عن الغلاء والتلاعب بالأسعار".
تواصلنا مع وزارة الصناعة والتجارة أكثر من مرة وتلقينا وعوداً من مسؤول فيها بالإجابة على أسئلة كنا قد طرحناها، ولكن لم تصلنا - حتى لحظة نشر التحقيق - أية إجابة.
لم نكتفِ بالوزارة، حيث قمنا بطرق باب الغرفة التجارية في عدن ممثلة برئيسها أبو بكر باعبيد، الذي أوضح لنا أن الأسعار ارتفاعها بسبب عدة عوامل منها الارتفاع في الخارج.. مؤكدًا أن الغرفة التجارية كانت قد أشعرت الدولة في 2021 بأنه سيكون هناك ارتفاع عالمي في المواد الأساسية، إضافة إلى الوضع الحالي الاستثنائي الذي يعيشه البلد من ارتفاع العملة والأتاوات والجبايات.
وبين "باعبيد" أن على الدولة أولاً أن ترجع إلى الجبايات أو الرسوم القانونية للحد من ارتفاع السلعة.. مشيراً إلى أن وزارة التجارة والصناعة تلعب دوراً كبيراً، "حيث أن الرقابة مسؤولية وزارة الصناعة والتجارة، إلا أن غياب الدولة أثر كثيرًا على غياب الوزارة التي من المفترض أن تقوم بواجبها على أكمل وجه".
* آثار ضعف الاقتصاد
تواصلنا أثناء إجراء التحقيق مع الكاتب في الشأن الأقتصادي مصطفى نصر الذي أوضح لنا أن ارتفاع الأسعار، أو ما يسمى اقتصادياً بـ"التضخم"، هو مؤشر على ضعف الاقتصاد المحلي وعدم استقراره، وبالتالي فإنه نتيجة لتدهور اقتصادي وخلل تعاني منه البلاد.
وبين أن هناك أسباباً عديدة لارتفاع الأسعار بعضها داخلي وآخر خارجي، ويعود ذلك إلى التدهور المستمر في قيمة العملة المحلية، نظراً لأن اليمن يستورد معظم احتياجاته من الخارج وبالعملة الصعبة.
وأكد "نصر" أن ارتفاع الأسعار يؤثر سلباً على حياة الناس جميعاً، "ولكن المتضرر الاكبر هم أصحاب الدخل المنخفض وشريحة الفقراء، لأن الارتفاع المتكرر في أسعار السلع لا يقابله ارتفاع موازٍ للدخل، وبالتالي يضطر المواطنون إما للاستغناء عن بعض متطلبات الانفاق أو الاستدانة والبحث عن مصادر دخل بديلة".. مبينًا بأن ذلك يؤدي في كل الأحوال إلى تدهور على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والإنساني.
* سبب ارتفاع الأسعار
أثرت الحرب في اليمن على الاقتصاد اليمني، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار بشكل كبير وغير متوقع، فمنذ انقلاب مليشيات الحوثي في سبتمبر 2014 على الشرعية اليمنية شهد الاقتصاد تدهوراً حاداً ألقى بظلاله على أسعار السلع الأساسية التي يحتاجها المواطن اليمني، وتسبب بنمو التضخم في العملة الوطنية، وماتلاها من الأزمات العالمية المتتالية والتي كانت آخرها حرب أوكرانيا، حيث كان لها جزء كبير من ارتفاع السلع كالقمح والأدوية والحليب وغيرها.
وأكد الخبير الاقتصادي اليمني فارس النجار، في حديثه لنا، أن ارتفاع الأسعار في اليمن ناتج عن عدة أسباب، "السبب الأول هو التضخم الكبير في سعر صرف العملة الوطنية، خاصةً بعد الانقلاب الحوثي والحرب التي أشعلها الحوثيون في عام 2015م، إذ حصل هناك تدهور كبير في سعر العملة الوطنية، حيث بلغ التضخم ما يقارب 40 %، بمعدل متوسط كل عام ويزداد".
وأَضاف النجار: "أما بالنسبة للعملة فقد فقدت 600% من قيمتها، وبالتالي حصل هناك تضخم في أسعار السلع والخدمات، وهو الأمر الذي انعكس على زيادة حادة في أسعارها".
وأوضح أن "السبب الثاني متعلق بالتضخم المستورد، وناتج عن ارتفاع أسعار السلع عالميًا نتيجة الأزمات المتتالية على مستوى العالم ومنها الحرب الروسية الأوكرانية التي أدت لارتفاع جزء كبير من السلع كالقمح والأدوية والحليب وغيرها".
وبين النجار أن "ارتفاع تكاليف النقل داخل اليمن، وارتفاع نسبة التأمين على السفن نتيجة الحرب، وضعف الرقابة من قبل الجهات المعنية على رأسها وزارة التجارة والصناعة على التجار وبائعي التجزئة والجملة وجملة الجملة تسبب في ارتفاع الأسعار بشكل أساسي".
ويرى النجار أن "عدم توفر البدائل الوطنية بكميات كبيرة، وضعف قوة الاستثمار في اليمن واعتماده على الاستيراد من الخارج يتسبب برفع الأسعار، كما أن ارتفاع الدولار الجمركي شكل ارتفاعاً بشكل طفيف على أسعار السلع والخدمات، في الوقت الذي ساعدت فيه الدولة بتوفير بعض الإيرادات لتغطية نفقاتها".
* الاستفادة من ارتفاع الأسعار
"لا يوجد أحد يستفيد من ارتفاع الأسعار، فالتاجر والقطاع الخاص يتضرر منه وكذلك المستهلك النهائي، إلا في حالة الارتفاعات غير المبررة، والتي تكون ناتجة عن ضعف الرقابة وزيادة جشع التجار وغير انسجامها مع أسعار السلع عالميًا، فإن المستفيد منها التجار وقوى النفوذ الاقتصادية والتجارية التي تسعى للربح في ظل هشاشة مؤسسات الدولة وضعف رقابتها"، كهذا أوضح النجار أثناء حديثه.
* إعادة الأسعار إلى طبيعتها
يتطلب أمر إعادة الأسعار إلى طبيعتها إلى تكاتف يمني خالص بين الحكومة وكافة الأطراف، حتى يسهم ذلك بشكل كبير في تخفيف معاناة المواطن البسيط الذي يبحث عن قوت يومه بسعر يتناسب مع دخله الأساسي.
ويؤكد النجار أن "إعادة الأسعار بحاجة ماسة إلى تقليص حدة التضخم في قيمة العملة الوطنية مع إعادتها إلى طبيعتها، الذي سينعكس ذلك على أسعار السلع والخدمات، وتشكيل رقابة شديدة على أسعار السلع والخدمات، ولجان ميدانية مشتركة بين السلطات الأمنية والمحلية ووزارة التجارة والصناعة لضبط الأسعار، وإلزام التجار بتسعير المنتجات، وجعل أسعارها ظاهرة وإلزامهم بها، ووجود نظام إلكتروني كاشير لطباعة فاتورة إلكترونية".
ودعا النجار في ختام حديثه الدولة "لإنشاء مراكز تسوق كبيرة لتنافس الأسعار ، ودعم الصناعات الوطنية، والاستثمار الوطني، والقطاع الزراعي الذي يجعلنا نستغني عن كثير من السلع المستوردة، ويسعى لإعادة الأسعار إلى حجمها الطبيعي ما قبل الحرب".

