تقرير يتناول واقع التجاذبات الحاصلة حول إيرادات عدن وقرار المحافظ لملس بوقف توريدها للبنك المركزي ثم التراجع عن القرار..
هل هناك أسباب سياسية.. أم أن محافظ عدن تعرض لضغوط أجبرته على التراجع؟
كيف اهتم قرار لملس بنفقات الكهرباء وأغفل بقية المرافق والخدمات؟
أين تذهب مجمل موارد عدن وإيراداتها الضخمة في ظل اتهامات متبادلة؟
قضية الموارد المالية.. هل تخضع للمتاجرة من قبل بعض القوى السياسية؟
ما الحل في توظيف الموارد والإيرادات المحلية في مختلف محافظات البلاد؟
التوريد إلى البنك بين القبول والرفض.
(عدن الغد) القسم السياسي:
حمل قرار وزير الدولة، محافظ عدن، أحمد لملس، بوقف توريد إيرادات المحافظة إلى البنك المركزي اليمني في عدن، الكثير من الأصداء المتباينة، التي رأت في تصرف المحافظ انتصارًا للمواطن المغلوب على أمره، في ظل تدهور تام للخدمات العامة في مدينة تعتبر عاصمة مؤقتة للبلاد.
غير أن عوامل أخرى تجعل من القرار لا يبدو كما بدت عليه وجهة النظر المؤيدة للقرار، بل إن بعض الآراء انتقد قرار المحافظ لملس من وجهة نظر قانونية وتراتبية، خاصة وأن المحافظ كان "مستاء" من تعامل الحكومة الشرعية مع ملف الخدمات في عدن، وقال إنه خضع للتسييس، بحسب بيان لملس الأخير الذي قرر فيه قراره.
لكن مختصين رأوا في قرار منع توريد مداخيل عدن المالية إلى المركزي اليمني، خطأ قانوني، كون البنك المركزي جهة سيادية غير حكومية لا تخضع للحكومة اليمنية، وبالتالي فإن "استياء" المحافظ لملس من تعامل الحكومة مع للخدمات العامة وعلى رأسها الكهرباء، لا يبرر له إيقاف توريد الإيرادات.
هذا الطرح، يترافق مع رؤية أخرى تتعلق بأن الإيرادات والموارد المالية للدولة يجب ألا توجه أو توظف في اتجاه واحد، ولا تنفق في قناة خدمية واحدة دون غيرها، حتى لو كانت هذه القناة مهمة للغاية كما هي خدمة الكهرباء، لأن ذلك قد يتسبب بأضرار بقية القنوات الخدمية والمرافق التي تحتاج للإنفاق هي الأخرى، ووقف توريد الإيرادات القادمة من كل المرافق والمؤسسات يعني وقف الإنفاق.
في المقابل، يرى كثيرون أن المحافظ لملس لم يكن له أن يقف مكتوف الأيدي أمام معاناة أهالي عدن جراء الصيف الحار، وسط تردٍ مخيف لخدمة الكهرباء، أحالت صيف المدينة إلى جحيم حقيقي، وهو ما دفع لملس إلى اتخاذ هذا القرار، الذي يمكن أن يصنفه البعض ضمن تعهدات المحافظ السابقة بـ "عمل شيء" أو تقديم استقالته.
قرار كهذا لا يمكن أن يمر دون أن يتعرض المحافظ لضغوطات وتدخلات للعدول عن قراره، الذي لا يمكن اتخاذه في سبيل توفير خدمة مرفق واحد فقط، حتى ولو كان مرفق أو خدمة بمكانة وأهمية الكهرباء، وفي نفس الوقت الأضرار ببقية المرافق والخدمات الأخرى، وحتى المرتبات التي يمكن أن تتأثر بمثل هكذا قرار.
الأمر الذي جعل لملس يواجه كمًا هائلًا من الضغوط، ليس فقط من السياسيين أو المسئولين الأعلى منه، ولكن حتى من مسئولي ومدراء المرافق الخدمية الأخرى والموظفين الذين قد يكونون ضحايا قرار كهذا، دفع المحافظ للحديث عن أن بعضًا من أهم إيرادات عدن لن يدخل ضمن القرار الذي اتخذه بمنع التوريد إلى البنك المركزي اليمني في عدن.
> تراجع المحافظ
اللافت في بيان المحافظ لملس الأخير هو إشارته إلى أن بعض الإيرادات الهامة ما زالت تذهب وتورد إلى البنك المركزي اليمني في عدن، دون أن يتم وقف توريدها، وعلى رأسها إيرادات الضرائب، وهو ما اعتبره مراقبون بأنه "تراجع عن القرار المثير للجدل".
حتى إن البعض اعتبر مجرد إصدار المحافظ بيانا توضيحيا كان نتيجة الضغط الكبير الذي تعرض له بسبب قراره، بل إن كثيرين راحوا إلى أبعد من ذلك حين لفتوا إلى احتمالات تراجع لملس عن القرار برمته؛ كونه سيؤدي إلى مشاكل في عملية الإنفاق على بقية المرافق الأخرى وصرف المرتبات، خاصة غير المحلية وغير المرتبطة بعدن.
وهو ما أكدته مصادر حكومية لـ "صحيفة عدن الغد" بأن الإيرادات المالية السيادية في محافظة عدن لا تزال تذهب وتورد إلى البنك المركزي اليمني بعدن، مشيرة إلى أن طريقة تحصيل هذه الإيرادات لا يزال كما هو، حيث تذهب جميع هذه الإيرادات إلى الحساب المركزي في بنك عدن، ولم يطرأ أي طارئ على عملية التوريد.
ما عدّه مراقبون وخبراء بأنه "تراجع من المحافظ عن قراره"؛ وهو تراجع يحتمل الكثير من الواقعية والمنطقية، كونه يرتبط بالواقع المالي والقانوني وآلية الإنفاق على مختلف قنوات الخدمات العامة في مدينة عدن التي تحتضن الكثير من المرافق، وليس فقط مرفق الكهرباء.
وهو ما يبعث بالكثير من التساؤلات حول طبيعة المسببات والضغوط التي تعرض لها المحافظ لملس حتى يتراجع عن قراره، رغم أن بيانه الأخير كان شديد اللهجة واتهم الحكومة بـ "تسييس" ملف الخدمات خاصة في مدينة عدن، مطالبًا بإخراج هذا الملف من المعترك السياسي، وتحييده تمامًا.
غير أن هناك من يعتقد أن تراجع لملس، وإن كان بطريقة وأسلوب ضمني، وليس صريحًا أو مباشرًا في بيان المحافظ، إلا أنه يؤكد أن ثمة ضغوطات سياسية ربما تعرض لها المحافظ قبيل إصدار بيانه، دفعته للخروج والحديث علانية مبررًا ما قام به، ومتراجعًا عن جزئيات من القرار، وربما القرار برمته.
حتى إن مصادر إعلامية ومواقع أشارت إلى تدخل رئيس المجلس الرئاسي اليمني الدكتور رشاد العليمي على خط الآراء المتعلقة بقرار لملس، واتصالات الأول بالأخير للحديث عن القرار، وإمكانية تهديد لملس بالإقالة إم هو لم يتراجع عن القرار.
ورغم أن هذه المعلومات الإعلامية غير مؤكدة، ورغم أن قرار إقالة محافظ عدن لن يرتضيه الانتقالي ويحتاج إلى التشاور بحسب آلية اتفاق الرياض، إلا أن هذا لا ينفي وجود ضغوطات على المحافظ لملس بسبب قراره، وبالتالي إجباره على التراجع عنه.
> زوايا أخرى من القرار
ثمة جوانب عديدة يحملها قرار المحافظ لملس، تثير الكثير من التجاذبات والمبررات التي قد تقف خلف التراجع، وهي عوامل ليست فقط قانونية أو سياسية، بل حتى خدمية، فمن المفارقة أن يكون سبب اتخاذ القرار هي خدمة الكهرباء المتردية.
لكن قرارًا كهذا يمكن له أن يضر ببقية الخدمات الأخرى، بل وحتى مرتبات الموظفين في مختلف مرافق عدن، المعتمدة الإيرادات المحلية، خاصة في ظل توقف تصدير النفط والغاز.
ويرى بعض المراقبين أن المحافظ لملس وإن اهتم بالإنفاق على الكهرباء إلا أن قراره قد يلقي بظلاله على بقية الخدمات، كالمياه والتعليم والصحة والطرقات، وجميعها بحاجة إلى الكثير من الموارد المالية للاستمرار في تقديم خدماتها للمواطنين، خاصة في عدن.
بالإضافة إلى أن المرتبات الخاصة بمئات الآلاف من موظفي ومواطني عدن قد تتأثر هي الأخرى بقرار وقف توريد الإيرادات إلى البنك المركزي اليمني في المدينة، الأمر الذي قد يفاقم المشاكل المعيشية والاقتصادية التي يكابدها المواطنون جراء ارتفاع الأسعار وتدهور العملة.
هذه الزوايا الأخرى من تبعات قرار لملس، لم تكن حاضرة على ما يبدو في ذهن المحافظ عندما اتخذ القرار، ربما بدافع الحرص على معالجة ملف خدمة الكهرباء، وهو ما يمكن تبريره، لكن ما لا يمكن تبريره هو عدم إغفال الجوانب الأخرى والخدمات العامة الأخرى والمرتبات التي تمس حياة الناس بشكل لا يقل إيلامًا ووجعًا عن ملف الكهرباء.
> مصير إيرادات عدن
لا يختلف اثنان على أن مدينة عدن قادرة على توفير إيرادات مالية ضخمة، لكن هذه المداخيل لا يمكن لها مهما كان أن تغطي تكاليف الإنفاق على محطات التوليد الكهربائي، والتي قد تصل إلى 2 مليون دولار يوميًا، بحسب مختصين.
وهو ما أكده الرد الأخير للحكومة اليمنية على بيان المحافظ لملس، والذي قدم جردًا تفصيليًا، حيث أشارت إلى أن مدينة عدن لوحدها تكلف ما نسبته 60 % من الإنفاق الحكومي، وتأتي الكهرباء على رأس تلك التكاليف والإنفاق المالي الضخم.
وبغض النظر عن البيانات الصادرة من هذا الطرف أو ذاك، والردود المتواصلة، تبقى قضية الإيرادات تخضع المزايدات والمناكفات السياسية، شاء البعض أو أبى، فمداخيل أية محافظة هي عبارة عن صورة مصغرة للسلطة والثروة التي يتصارع حولها اليمنيون منذ أن بدأت الدولة بالانهيار في عام 2011.
ولهذا فإن هذه القضية ستبقى خاضعة للمتاجرة من قبل القوى السياسية المتواجدة في الساحة، شمالا وجنوبًا، فحتى الحوثيون يضعون إيرادات النفط والغاز في قلب هذه المعادلة.
ولعل الحل الذي يمكن أن يتجاوز هذه المشكلة، يكمن في اعتماد الحل الفيدرالي، الذي يُقسم البلاد إلى أقاليم تحكم نفسها بنفسها، وتوظف إيراداتها المحلية وتوزع ثرواتها وفق احتياجاتها الحقيقية في كافة القطاعات والخدمات العامة.