قراءة للوضع الاقتصادي بالمحافظات المحررة ومقارنته بالوضع الاقتصادي في مناطق سيطرة الحوثيين..
لماذا ينهار الوضع الاقتصادي في المحافظات المحررة.. وأين تكمن المشكلة؟
هل ضبط الحوثيون أسعار السلع فعلاً أم أن الانخفاض في عملة الحوثيين وهمي؟
إلى متى سيظل الوضع الاقتصادي في المناطق المحررة متردياً؟
كيف تحسن الوضع الاقتصادي في مناطق الحوثيين؟
(عدن الغد) القسم السياسي:
طفح كيل الناس في عدن والمحافظات المحررة بشكل عام، وخرجوا يطالبون ما تبقى من دولة بتوفير الخدمات التي انعدمت تمامًا، وزاد عليها تدهور معيشي ضرب كافة مفاصل الحياة، وجعل من قضية العيش مسألة غاية في الصعوبة؛ نظرًا لكل التحديات التي تواجه المواطنين في أقواتهم ومعيشتهم.
مؤشرات ذلك، والمبررات التي أخرجت الناس للاحتجاج في عدن ومحافظات الجنوب، كثيرة ومتعددة، ولعل على رأسها الخدمات العامة شبه المنعدمة، كالكهرباء والمياه، في ظل صيف ساخن وحار، بالإضافة إلى الانهيار الحاصل في سعر صرف العملة المحلية أمام نظيراتها الأجنبية، والذي انعكس على أسعار السلع الأساسية، التي ارتفعت ارتفاعًا جنونيًا دون رقيب أو حسيب.
يترافق كل هذا الواقع مع توقف شبه كامل أيضًا لموانئ جنوب اليمن والتي تشهد شللًا في حركتها التجارية والاقتصادية؛ نتيجة قرارات غير مدروسة من الحكومة اليمنية، أدى إلى فرار التجار ورجال الأعمال حتى ميناء عدن الشهير، الذي لم يعد الوجهة المفضلة لاستيراد البضائع والشحنات التجارية الضخمة.
يأتي هذا الواقع بالعاصمة عدن ومناطق سيطرة الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا، في ظل وضع مختلف وعلى النقيض تمامًا في مناطق سيطرة مليشيات الحوثيين في شمال اليمن، والتي تشهد استقرارًا في سعر الصرف مقارنة بالمناطق الحكومية.
ورغم أن خبراء اقتصاديين يرون أن واقع أسعار صرف الريال اليمني في مناطق الحوثيين وهمي وغير حقيقي، إلا أن هناك عوامل أخرى تجعل من الوضع الاقتصادي في مناطق المليشيات أفضل بكثير من الوضع في المحافظات التي يفترض أنها محررة ومستقرة.
وهو ما يثير العديد من التساؤلات والمقارنات، حول طبيعة الوضع الاقتصادي بين مناطق سيطرة المليشيات الحوثية الانقلابية، وبين المحافظات المحررة الخاضعة لسيطرة الحكومة الشرعية والقوى الموالية لها، وأي مناطق نجحت في تحقيق الاستقرار المعيشي والاقتصادي، والنرويج لنفسه بأنه أفضل من الطرف الآخر.
من المؤكد أن الوضعين، في مناطق الحكومة ومناطق الحوثيين، مختلف تمامًا لحد التناقض، لكن ثمة حقائق لا بد من إيضاحها؛ لمعرفة التجربة الاقتصادية الأنجع، والأكثر نجاحًا، في ظل اشتداد السخط الشعبي والاحتجاجات المتواصلة في عدن والمحافظات المحررة، مقابل صمت يشبه كثيرًا ملامح الاستكانة والخنوع في مناطق سيطرة المليشيات.
الأمر الذي يتطلب كشفًا وإجابات لحقيقة الوضع والتساؤلات المثارة حول طبيعة الأوضاع الاقتصادية في كل المناطق شمالًا وجنوبًا، ومحررة أو غير محررة، وما يرافقها من عوامل ومبررات، بالإضافة إلى المؤثرات التي تتداخل مع كل عامل، يشكل حقيقة الوضع المعيشي والاقتصادي هنا أو هناك.
> حقيقة التحسن شمالاً والاضطراب جنوباً
يؤكد خبراء الاقتصاد بأن استقرار سعر الصرف في صنعاء ومناطق سيطرة الحوثيين غير حقيقية ووهمية، وهو ما يعاضده ويؤكده وضع الاقتصاد وعمليات الإنتاج المنعدمة هناك، وتوقف ميناء الحديدة طيلة ثماني سنوات عن ممارسة أي نشاط تجاري، وجبايات المليشيات وتضييقها رؤوس الأموال والتجار، وبالتالي فإن مناطق الحوثيين تفتقر لمقومات وعوامل الاستقرار السعري والاقتصادي والمعيشي بالفعل.
بينما في المقابل، كان ميناء عدن وموانئ المحافظات المحررة في الجنوب تحديدًا تعمل وإن بنسبة أقل مما كانت عليه قبل اندلاع الحرب عام 2015، ولكن هناك نشاطا تجاريا بغض النظر عن طبيعة حجمه، ومع هذا لم يكن هناك أي استقرار حقيقي أو غير حقيقي للعملة المحلية، التي تهاوت باضطراد وخسرت أكثر من 300 % من قيمتها خلال سنوات الحرب، وفق تقارير اقتصادية دولية.
ورغم هذا التفاوت إلا أن الوضع في الشمال والجنوب، في المناطق المحررة وغير المحررة، يكاد يكون مشابهًا لبعضه البعض، فيما يتعلق بأسعار السلع الأساسية والتي ارتفعت في كل المناطق شمالًا وجنوبًا، ولم يكن لاستقرار سعر الصرف الوهمي الذي يفتخر به الحوثيون أي تأثير على الوضع المعيشي للسكان في مناطق المليشيات، والذين كابدوا ارتفاعات السعار كما كابدوا سكان المحافظات المحررة.
إلا أن الشهور الأخيرة قلبت المعادلة رأسًا على عقب، وبدأت الأمور تتجه بالفعل لصالح مليشيات الحوثي واقتصاده الذي بدأ بالتعافي بعد سلسلة تفاهمات لم يُعلن عنها مع قيادة التحالف العربي، وعلى رأسها فتح ميناء الحديدة بشكل كامل أمام حركة الملاحة التجارية والنشاط الاقتصادي، بينما ظلت موانئ المحافظات المحررة بما فيها ميناء عدن وموانئ تصدير النفط تحت وطأة المنع والتهديد الحوثي.
هذه العوامل عملت على تقوية وتحسين الاقتصاد الحوثي وتفعيل الحركة التجارية، حتى أن المليشيات استغنت تمامًا عن شحنات الغاز التي كانت تأتيها من منشآت مأرب الغازية، ودفعتها النشوة الاقتصادية إلى إيقاف توريد أية بضائع أو سلع قادمة من المحافظات المحررة؛ ما تسبب بركود تجاري واقتصادي في مناطق سيطرة الحكومة الشرعية، وباتت تحت رحمة حصارين، من الموانئ وآخر من المنافذ الداخلية مع مدن ومحافظات سيطرة الحوثيين.
ما أدى إلى ركود اقتصادي مرعب في المناطق المحررة، ألقى بظلاله على معيشة الناس التي باتت ترى البضائع والسلع تتدفق على ميناء الحديدة في الشمال، بينما موانئ الجنوب المحررة ساكنة بلا حراك، تفتقر لأي نشاط تجاري، ما دفع التجار ورجال الأعمال إلى الهرولة والهروب صوب ميناء الحديدة الذي يسيطر عليه الحوثي، في ظل إغراءات وتسهيلات تجارية لا تتواجد حتى في ميناء عدن الحكومي.
> أين تكمن المشكلة
قد يحلل المحللون، ويفتي الخبراء والمختصون بأن الأسباب التي أدت إلى قلب موازين المعادلة، وإحداث الاستقرار والانتعاش الاقتصادي في مناطق سيطرة الحوثيين، تعود إلى أسباب وعوامل اقتصادية، خاصةً بعد أن كان الشعب هناك قد ضاق ذرعًا بسياسات المليشيات والتضييق على التجار، وبدأ رجال الأعمال والمؤسسات التجارية والشركات تغادر الشمال وتنقل أعمالها إلى الجنوب.
لكن في حقيقة الأمر، فإن المسببات التي أدت إلى هذا التحول، وتسببت بجعل عدن والمناطق المحررة طاردة للاستثمار أو النشاط الاقتصادي، لصالح مناطق سيطرة الحوثيين، هي مسببات لا علاقة لها بالاقتصاد أو السياسات الاقتصادية والإصلاحات المالية مثلا، ولكنها مسببات سياسية وأمنية في المقام الأول، وهنا بالفعل تكمن المشكلة.
فالناظر لواقع المحافظات المحررة، يلحظ غيابًا واضحًا للدولة ومؤسساتها، وهي نتيجة طبيعة للفوضى التي تعيشها هذه المحافظات، والتي يعود سببها الأول في تعدد المكونات والكيانات والاضطرابات السياسية والأمنية التي تعيشها هذه المناطق، كإحدى تأثيرات تجاذب السلطات وتعددها والصراع عليها وعلى الإيرادات من قبل القوى السياسية والفصائل الأمنية، وهي إيرادات لا تذهب أبدًا إلى الأوعية الحكومية التابعة للدولة، بقدر ما تذهب إلى حسابات خاصة وشخصية.
وفي المقابل، تقدم "مليشيات الحوثي الانقلابية" دروسًا للسلطات في مناطق المحافظات المحررة، حول أساليب إدارة الدولة، من خلال توحيد الجهات المسئولة عن التوريد وتحصيل الموارد والإيرادات، فهناك في مناطق سيطرة الحوثيين لا يوجد تعدد للسلطات، بل هي سلطة واحدة تقوم بكل مهام وعمل الدولة، وهذا ما خلق استقرارًا في الفترة الأخيرة، زاد من تعزيزه وتقويته المكاسب السياسية التي جناها الحوثيون من مفاوضاتهم مع التحالف.
حيث استفاد الحوثيون من التسهيلات المقدمة من التحالف وبضغط أممي ودولي بفتح مطار صنعاء وتشغيل ميناء الحديدة بكامل طاقته التشغيلية، وهي مكاسب سياسية أدت إلى تحقيق الحوثيين "نصرًا اقتصاديًا" افتقرته الحكومة الشرعية والمناطق المحررة منذ سنوات.
هذا التوصيف للواقع ليس غزلًا أو تمجيدًا للحوثيين الانقلابيين، ولكنها قراءة حقيقية للانتهازية والقدرة على المساومة التي يتمتع بها الحوثيون على المستوى السياسي والعسكري، وبالتالي نجحوا في الحصول على مكاسب اقتصادية مقابل انتهازيتهم تلك وأسلوبهم في المساومة، ولهذا ذكرنا سلفًا أن الاستقرار الاقتصادي الذي تعيشه مناطق الحوثيين لا علاقة له بسياساتهم الاقتصادية المنعدمة أصلًا، ولكن سببها مراوغاتهم ومناوراتهم السياسية أثناء التفاوض.
وهو ما تفتقر إليه الحكومة الشرعية بكل فصائلها وقواها المنضوية في إطارها، بقيادة الدكتور معين عبدالملك، أو حتى المجلس الرئاسي المتعدد الكيانات والانتماءات والتي كانت سببًا في ضياع البوصلة وتحديد الأهداف اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا، والاكتفاء بالانغماس في الفساد وإهمال احتياجات الناس والبسطاء.
> المقارنة بين التجارب
تحليل الواقع الاقتصادي بين مناطق سيطرة الحوثيين والمحافظات المحررة، يقودنا إلى حقيقة قد تكون مؤلمة، لكنها تبقى حقيقة واقعية لا بد من استيعابها جيدًا، والعمل على تلافيها، مهما كان الوقت متأخرًا لكنه لم يفت بعد.
هذه الحقيقة مفادها أن العالم بات ينظر اليوم- وبعد ثماني سنوات- إلى التجربة الحوثية في إدارة اقتصاده بأنها هي التجربة الناجحة، بغض النظر إن كان الحوثيون هم أنفسهم من ينفذونها أو أن هناك خبراء إيرانيين أو لبنانيين أو عراقيين يقومون بهذه المهمة، في المقابل تبدو الشرعية بكافة قواها وتياراتها السياسية بما فيها المجلس الانتقالي والمجلس السياسي للمقاومة الوطنية، وحزب الإصلاح وبقية المكونات الأخرى، تبدو بمظهر الفاشل الذي لم يستطع أن ينجز شيئًا على الأرض.
ولعل في هذا التشتت والتعدد في بنية الشرعية ككيان سياسي تكمن المعضلة التي أدت إلى التجاذب والمناكفات السياسية والحزبية كأولوية يتم تقديمها على أولويات الناس وهمومهم التي تركت بلا حلول ولا معالجات، وهو ما يقود إلى تساؤلات جوهرية، مفادها: إلى متى سيظل الوضع الاقتصادي والخدمي والمعيشي في المناطق المحررة مترديًا، وإلى متى سيبقى هذا الوضع بلا تدخلات حقيقية وإصلاحات تنتشل الناس من واقعهم المأساوي والكارثي هذا؟!.