تقرير يبحث في أسباب غياب مسئولي الدولة والحكومة بشكل عام عن المحافظات المحررة..
دولة كاملة.. غير متواجدة في مراكز مسئولياتها الخدمية والإدارية؟
لماذا تغيب كل قيادات الدولة من مجلس رئاسي وحكومة وزراء عن المشهد العام؟
الفراغ السياسي.. كيف انعكس على الحالة الخدمية والمعيشية للبلاد؟
إلى متى يستمر الانقسام السياسي وغياب رجالات الدولة وقياداتها؟
ما الذي يؤخر التئام قيادات المجلس الرئاسي.. أم أن الخلافات أعمق بكثير؟
(عدن الغد) القسم السياسي:
التعريف التقليدي لمفهوم ومصطلح الدولة في القانون والعرف الدولي أنها هي: (أرض، وشعب، وسلطة)، وهذه المقومات والركائز الثلاث تشكل ما نعرفه اليوم بـ "الدول"، ولا يخرج هذا المفهوم عن إطاره المذكور إلا إذا انتقض أحد تلك الركائز، أو انتفى وجوده لأي سبب كان.
وبالنظر إلى واقع الدولة اليمنية اليوم في المحافظات المحررة، يرى أن الأرض والشعب موجودان ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن ينتفيا أو يتبخرا، لكن العنصر الثالث من عناصر الدولة يتعرض لاحتمالات وعوامل كثيرة وعديدة، جعلت منه غائبًا، وبالتالي فإن هذا الغياب يمكن أن يجعل من مفهوم الدولة المتعارف عليه في الأروقة الدبلوماسية والسياسية الدولية مهتزًا وغير مستقر.
فالسلطة في الوضع اليمني، وتحديدًا منذ أواخر العام 2014، مرورًا باندلاع الحرب نهاية الربع الأول من عام 2015، تكاد تكون غير موجودة، إن لم تكن غائبة تمامًا، سواءً في مناطق سيطرة الحوثيين، أو في المناطق المتعارف عليها بأنها محررة، أو تحت سلطات الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا.
حيث إن الوضع والتوصيف الراهن للسلطة في مناطق المليشيات الانقلابية هي أنها "سلطة أمر واقع" وهو وصف لا يمنح أي صفة قانونية أو طبيعية، وإنما وُجد على سبيل تسهيل عملية التعامل مع المتحكمين والمسيطرين على الوضع هناك، وبناءً على ذلك فإن الدولة في مناطق سيطرة الحوثيين منعدمة تمامًا ولا يمكن تسميتها بدولة؛ لأن أحد عناصر وركائزها السياسية قد انتفى تمامًا، وهي السلطة الطبيعية والقانونية.
وفي المقابل، فإن المحافظات المحررة، لم تشهد استقرارًا كاملًا لتواجد الحكومة ومؤسسات الدولة وحتى ممثلي مؤسسة الرئاسة، رغم أنه تم إعلان مدينة عدن عاصمة مؤقتة لليمن، بدلًا من مدينة صنعاء المختطفة بأيدي الحوثيين، بل إن المناطق المحررة شهدت وضعًا فريدًا من نوعه، لم تشهده أي منطقة من العالم، تجسد ذلك بتعدد السلطات والكيانات الحاكمة لتلك المناطق.
فبالإضافة إلى تعثر عودة رئيس الجمهورية بشكل كامل، منذ تحرير عدن وبقية المناطق من الحوثيين منتصف وأواخر عام 2015، وفي عام 2016، غير أن السلطات لم تتواجد في تلك المناطق؛ لدواعٍ مختلفة، منها كان العامل الأمني الغائب، رغم أن مدينة كعدن وبقية المدن في الجنوب كانت تحت سيطرة قوات التحالف العربي السعودي والإماراتي.
لكن فيما بعد، كانت الصراعات السياسية والأمنية والعسكرية بين الحكومة الشرعية وبعض القوى والكيانات السياسية المستحدثة إحدى العوامل التي منعت تواجد السلطات الحكومة وسلطات الدولة المعترف بها دوليًا من التواجد داخل البلاد، كأحداث يناير/ كانون ثاني عام 2018، ومواجهات أغسطس/ آب عام 2019 الدامية، وهي أحداث خلقت واقعًا جديدًا في المناطق المحررة جنوبًا، بما فيها العاصمة عدن.
الواقع الجديد، كان عنوانه الأبرز تعدد السلطات لدرجة التناقض، ولم تنفع الاتفاقات الدولية والإقليمية في دمج أو استيعاب السلطات السياسية والأمنية والعسكرية التي لم تستقر، وبالتالي كان المشهد أشبه بأن عدن وبقية مناطق الجنوب المحررة بلا سلطات حقيقية، وهو واقع كرسه تشكيل مجلس رئاسي مكون من قوى وكيانات تتنازع السلطات في المحافظات المحررة، بما فيها مأرب وتعز شمالًا، وليس فقط في المحافظات المحررة جنوبًا.
فضيحة السفير الأمريكي
آخر فصول غياب الدولة ممثلةً بمسئوليها نتيجة صراعات وخلافات مجلس القيادة الرئاسي في اليمن، والتي تمحورت حول الصراع على حضرموت، وما رافقها من انقسامات حول ملفات عديدة يعاني منها اليمنيون في المناطق المحررة، وعلى رأسها ملف الخدمات العامة وتدهور العملة، خاصة في عدن والمحافظات الجنوبية، التي تعيش أجواءً خالية ومنعدمة من أي خدمات.
غياب بات أشبه بالهروب من المسئوليات والالتزامات، والاستسلام لبذخ الترف والراحة والدعة في فنادق الرياض وأبوظبي، بينما الشعب يعاني ويكابد ويصابر في الداخل، هروب لم تفضحه سوى زيارة السفير الأمريكي لدى اليمن، ستيفن فاجن إلى عدن خلال اليومين الماضيين، والتي كشفت مدى الفراغ السياسي الذي ترزح تحته العاصمة المؤقتة، وكشفت خلو البلاد من مسئوليها ورئيسها ورئيس حكومته.
وضع كهذا لم تشهده المحافظات المحررة، حتى في عهد الرئيس السابق عبدربه منصور هادي، الذي وإن كان قابعًا لسنوات في العاصمة السعودية الرياض، إلا أن حكومته ووزراءه ما انفكوا يتواجدون في عدن وبقية المحافظات لإدارة شئون البلاد، ولم تكن تلك المناطق خاوية على عروشها كما هي اليوم بالفعل، لتكتمل الفضيحة بتواجد سفير أكبر دول العالمون أن يستقبله أحد.
وبالفعل، لن يجد السفير الأمريكي أحدًا لاستقباله سوى وزير الصحة العامة والسكان، الدكتور قاسم بحيبح، ومدير أمن مدينة عدن اللواء مطهر الشعيبي، وهي سابقة خطيرة وغير مسبوقة، ضرب عرض الحائط بكل البروتوكولات والمراسم الدبلوماسية المعمول بها عالميًا، وهو أن يُستقبل سائر دولة عظمى يمثل قمة العمل الدبلوماسي في بلاد بوزير لا صلة له بالدبلوماسية، وبمسئول أمني محلي!
وتصوير أمر خطير كهذا بأنه فضيحة، ليس فيه أي مبالغة، كونه أماط اللثام عن حجم الواقع السياسي للسلطة في المناطق المحررة، وكشف عن خلو دولة من كافة مسئوليها في كل المراكز الخدمية والإدارية والدبلوماسية والعسكرية، وفضح مدى الانقسامات التي يعاني منها رفقاء وفرقاء المجلس الرئاسي، وحجم الصراعات التي نتج عنها هذا الواقع المؤلم.
واللافت أن غياب سلطة الدولة ومسئوليها لم يقتصر على عدن العاصمة أو المحافظات الجنوبية، بل إن الأمر طال حتى مسئولين ينتمون للمحافظات المحررة شمالًا، ما يشي بأن المشكلة تكمن في انقسامات وصراعات المجلس الرئاسي بمختلف قواه وكياناته التي يتشكل منها، وأن الأمر ليس منحسرًا بصراعات الشرعية والانتقالي فقط حول مسائل وقضايا الجنوب وحضرموت وخلافه.
وهو ما جعل الغياب يشمل كافة قيادات الدولة وسلطاتها ويضرب المشهد العام للبلاد، لدرجة أن السفير الأمريكي لم يجد بُدًا من مقابلة أي شخصية، حتى وإن لم يكن لها علاقة بملفات سياسية وعسكرية ساخنة، ما يؤكد حجم الفشل الذي تعاني منه الدولة في اليمن عمومًا والمحافظات المحررة على وجه التحديد، ما جعل وسائل الإعلام الخاصة بالسفارة الأمريكية تتجنب نشر أي خبر عن لقاءات سفيرها في عدن، عطفًا حجم الاستقبال (الضئيل) دبلوماسيًا وبروتوكوليًا الذي حظي به.
لكن في المقابل، ثمة أمر لا بد من التطرق إليه والوقوف أمامه عند زيارة السفير فاجن إلى عدن، فمن غير المسلم به أن يقوم السفير الأمريكي بزيارة عدن وهو يعلم والولايات المتحدة باستخباراتها وإمكانياتها تعلم ألا وجود لأي مسئول رفيع المستوى لاستقباله والالتقاء به والحديث معه في عدن، إلا إذا كان غرض الزيارة وهدفها لا يتضمن اللقاء بكبار مسئولي الدولة!!!
انعكاس خدمي ومعيشي
غياب الدولة وسلطاتها قد لا يعني الكثير لدى دول عظمى وأخرى إقليمية، حيث إن بعضها يريد استمرار هذا الوضع، ولا يريد للدولة في اليمن أن تعود قوية متماسكة بكافة عناصرها ومقوماتها، والمجتمع الدولي والإقليمي مدرك لحقيقة مدى هشاشة الدولة في اليمن، ليس من اليوم بل من قبل ذلك بعقود.
لكن ما يهم المواطن البسيط هو أن يشكل هذا الغياب واللا تواجد انعكاسات خطيرة على الواقع الخدمي والمعيشي المتردي أصلًا، ومزيد من غياب سلطات الدولة ومسئوليها واستمرار الفراغ السياسي يعني مزيدًا من التدهور والتردي الخدمي والمعيشي الذي وصل مستويات غير مسبوقة لا يقوى على مقاومتها البسطاء.
وإذا كان المواطن استجمل وصبر واستطاع أن يقاوم الأوضاع المتردية طيلة السنوات الثمان الماضية على أمل أن يتم إصلاح تلك الأمور بعد تشكيل المجلس الرئاسي اليمني الذي عقد عليه آمالًا كبيرة، إلا أنه اليوم غير مستعد للاستمرار قدمًا في الصبر والمقاومة، بعد أن تفاقمت الأوضاع تدهورًا وتردت بشكل مرعب.
وأمان هذا التحذير فإن استمرار الانقسام السياسي وغياب رجالات الدولة وقياداتها عن هذا المشهد المتدهور والمستمر في التردي يثير الكثير من التساؤلات حول الأسباب التي أدت إلى تأخير التئام قيادات المجلس الرئاسي وممارسة سلطانهم وتوحدهم على كلمة سواء، عنوانها الأول توفير الخدمات للمواطنين، وهو ملف لا يقبل المساومة ولا استغلاله كورقة ضغط، إلا إذا كانت الخلافات والانقسامات بين هذه القيادات أعمق وأكبر بكثير، وبدرجة قد لا يدركها أحد.