تقرير يبحث في أسباب ودوافع تزايد جرائم القتل والانتحار بالمجتمع اليمني خلال السنوات الأخيرة.
لماذا نشاهد اليوم جرائم لم نشهدها خلال السنوات الماضية؟
ما سبب انتشار الجرائم الغريبة كقتل الأطفال والانتحار في المجتمع اليمني؟
هل تمثل تلك الجرائم انعكاسًا للحرب وغياب الدولة والقانون؟
ما مدى تأثير غياب الدولة والنظام على حالة الانهيار الحاصلة بالمجتمع؟
الفقر والأوضاع المعيشية.. كيف أثرت على انتشار الجريمة وحوادث القتل والانتحار؟
هل نجني اليوم تبعات الحرب المستمرة منذ ثماني سنوات.. وما حلول معالجتها؟
عدن الغد/ القسم السياسي:
ما يحدث في المجتمع اليمني، شمالًا وجنوبًا، من أحداثٍ مؤسفة، على المستوى الأمني والاجتماعي لا يمكن فصلها عما يعصف بالبلاد من حرب وأزمة إنسانية ومعيشية، وصراع منذ أكثر من 12 عامًا، حيث لم ترتبط هذه الحالة الراهنة بحرب عام 2015، ولكنها ذات صلة بالأزمة السياسية التي بدأت عام 2011.
فما كان يسمى بـ "الثورة الشبابية" أو ما عُرف بـ "الربيع العربي" رافقها من دعاوى الحرية والانعتاق من القبضة البوليسية للأنظمة العربية بما فيها النظام في اليمن، بمبرر منح الحريات والانعتاق من تسلط الأنظمة واستبدادها، الأمر الذي أفضى إلى تراجع دور الشرطة والأجهزة الأمنية تحت وطأة المطالب الحقوقية.
لكن هذه المطالب بالحرية والانعتاق والحقوق السياسية منذ عام 2011 انحرفت عن مسارها النبيل والأخلاقي، لتتحول إلى ما يشبه الفوضى، فالحرية غير المقيدة أو الموجهة، والتي لا سقف لها، ولا يتوقف سيلها المتدفق حتى على حساب حقوق الآخرين، تتحول بكل أسف إلى فوضى حقيقية؛ لأنها باختصار غير هادفة، وممارسوها لا يمتلكون وعيًا وإدراكًا بأهمية امتلاك حرية باتت منفلتة، وانعكست سلبًا على المجتمع.
كما لا يمكن إغفال أن الأنظمة السياسية المتضررة من الثورات الشبابية ودعوات الحرية والانعتاق ساهمت هي الأخرى في حرف مسار الغايات الوردية التي آمن بها الشباب في عام 2011، والتي حلم بها كل شاب نقي، غير أن الواقع السياسي والإقليمي والدولي انتهز فرصة غياب الحرية الحقيقية المطلوبة وغذى الفوضوية التي استمرت بالانتشار حتى اليوم في اليمن، وفاقمتها حرب عام 2015، بل وكرستها واقعًا معاشًا.
وبناءً على هذه الفوضى العارمة، وغياب الدولة منذ عام 2011، انتشرت في المجتمع اليمني العديد والكثير من الممارسات التي لم يكن أحد يتوقع حدوثها ما قبل تلك الفترة، رغم الاضطراب السياسي بين الأحزاب المعارضة والسلطة، لكن الأمر لم يصل إلى ما وصل إليه اليوم، حيث أفضى إلى انتشار الجرائم وحوادث القتل والانتحار بشكل مهول ومفزع للغاية.
قد يكون انتشار جرائم القتل في مجتمع كاليمن، لا يرقى إلى مستوى ذات الجرائم في دول أخرى على مستوى العالم، خاصة وأن عوامل وأسبابا أخرى تتدخل في مسبباتها، إلا أن تنامي هذه الظواهر في اليمن وبشكل متزايد مؤخرًا، يقود إلى التساؤل عن المسببات والمبررات التي فاقمت هذه الفوضى.
وما يقودنا إلى البحث في قضية كهذه، هو تحول الجرائم المشاهدة اليوم إلى حوادث غريبة وعجيبة، طالت حتى الأطفال، بل إن البعض يُقدم على قتل ذويه وأهله والمقربين له، في واقع صادم ومرعب، بالإضافة إلى تزايد حالات الانتحار في ظل الظروف الصعبة التي يكتبها المواطنون في اليمن كافة بلا استثناء، سواءً في الشمال أو الجنوب.
عوامل سياسية وبنيوية
كثير من الجرائم والحوادث الأمنية المنتشرة في الوقت الراهن لم يكن المواطنون يسمعون بها قبل عشرين عامًا، أو تحديدًا عقب زوال هيبة وتواجد الدولة، وبداية انهيار المنظومة الأمنية، بدءًا من جرائم الاغتيالات سواءً ذات الطابع السياسي أو المتطرف أو غيرها، ومرورًا بحوادث القتل بين المواطنين، وانتهاء بحالات الانتحار.
بل إن طريقة تلك الجرائم وبشاعتها، يعطي مؤشرًا على أن الحالة التي وصل إليها ممن أقدموا على هذه الأعمال لا تعود دوافعها إلى عوامل مادية وملموسة فقط، لكن هناك دوافع نفسية واجتماعية أيضًا؛ نظرًا للتغير الحاصل في بنيوية المجتمع في كل القطاعات، والمؤثرات الضاغطة على النفس البشرية، مع عدم وجود وسائل للتنفيس أو لتفريغ الكبت الحاصل في المجتمع.
ولعل أقوى الأسباب والعوامل التي أدت إلى تحول واقع اليمنيين الأمني لحالة الفوضى المُشاهدة اليوم، هي غياب زمام الدولة وذهاب هيبتها منذ العام 2011 حتى اليوم، وهو ما قاد إلى تعدد القوى والتيارات وتعزيز الصراع السياسي، وبالتالي تكون وتشكل أسباب الصراع العسكري والمواجهة، ورغبة كثير من الأطراف السيطرة على السلطة والتحكم بمصير الشعب.
وكانت الحرب التي اندلعت في عام 2015؛ نتيجة حالة الفوضى الخاصة سببًا في مضاعفة ومفاقمة الانفلات الأمني وانتشار السلاح في أوساط الشباب وكافة فئات المواطنين؛ ما أدى إلى سهولة استخدامه عند وقوع أبسط المشكلات والمشاحنات، وحدوث جرائم القتل ما دامت أدواته ومبرراته متوفرة ومتاحة.
وما زاد من سوء الوضع ضياع هيبة النظام والقانون والقضاء، الناتج أصلًا عن غياب الدولة وهيبة مؤسساتها الضبطية والأمنية؛ ولهذا فإن الجميع قد "أمِن العقاب" وقاد هذا إلى "إساءة الأدب" وممارسة سلوكيات تنم عن إدراك عام بغياب الجهات التي يمكن لها أن تحاسب وتعاقب وتردع انتشار هذه الأعمال الخارجة عن القانون، في ظل إحلال شخصيات لا خبرة لها في إدارة مراكز الشرطة وأجهزة الأمن.
وهذا ما أفضى إلى انهيار المجتمع أمنيًا، بعد أن سبق وقد انهار أخلاقيًا وأدبيًا، عقب غياب الضبط والمساءلة، كنتيجة طبيعية لانفلات يد الدولة وقبضتها التي ما زالت متراخية منذ أكثر من 12 عامًا، حتى بات استخدام السلاح من قبل المواطنين المدنيين أمرًا مشاعًا وطبيعيًا، يُشجع أيًا كان بأن يأخذ حقه أو باطله بقوة السلاح، فهو الذي يحدد إن كان ما قام به حقا أو باطلا، ما دام معه الأداة التي يمكن له أن يثبت بها ذلك، وما دامت أجهزة الدولة ومؤسساتها في "خبر كان".
الأمر الذي قاد البلاد برمتها، إلى مُشاهدة جرائم تغتال براءة وطهارة الأطفال، وأخرى تحيل أسرًا وعائلات بأكملها إلى العالم الآخر، وصراعات عادية بين مواطنين يروح ضحيتها الأبرياء من الصغار والكبار، لم يكن أحد يشاهدها في سنوات وعقود مضت، وهي جرائم تنفذ بطرقٍ أقل ما توصف به أنها "شنيعة" ومرعبة، وبدمٍ بارد.
وهو ما يقود إلى التأكيد على أن العوامل السياسية والبنيوية المتمثلة في غياب الدولة ومؤسساتها التنفيذية والضبطية والقضائية يؤدي في النهاية إلى هذه الحالة من الفوضى وعدم الاستقرار وزعزعة السكينة في أوساط المواطنين، وبالتالي غياب الأمن والأمان.
عوامل معيشية ونفسية
تؤثر الظروف الاجتماعية على النفس الإنسانية، وتقودها إلى الخروج عن طبيعتها القائمة على الاستئناس بالآخرين، وبالتالي قتلهم ووضع حدٍ لحياتهم، وبأساليب لا صلة لها بالإنسانية، حتى إن البعض وصف عددًا من الجرائم بـ "الوحشية"، والتي لأن يرتكبها إنسان بحالةٍ طبيعية.
وهذا التحليل المذكور هنا يؤكد أن ثمة دوافع نفسية واجتماعية وراء الجرائم وحوادث القتل وتزويدها في المجتمع اليمني مؤخرًا، تعود إلى الضغط الناتج عن الظروف المعيشية الصعبة التي يكابدها المواطنون، وتزايد المطالب والالتزامات المالية في ظل توقف المرتبات وارتفاع أسعار السلع الأساسية؛ تبعًا لانهيار العملة المحلية والاقتصاد الوطني برمته.
فالجريمة "ابنة الفقر"، والعجز عن توفير متطلبات من يعولهم أي شخص قد يؤدي به إلى حالة نفسية اضطره إلى العديد من الجرائم كالقتل الذي قد لا يكون بهدف السرقة بقدر ما يكون دافعه التنفيس عن الكبت والضغوط الأسرية والعائلية والالتزامات المعيشية المتزايدة.
حتى إن البعض قد يعمد إلى خيار الانتحار للهروب من كل تلك الضغوط التي هي نتاج طبيعي لغياب الدولة واستمرار الحرب وانهيار الاقتصاد وتردي الأوضاع المعيشية، وانعدام الخدمات بكل أنواعها، ما يؤكد أن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في اليمن باتت اليوم معقدة ومركبة للغاية، ومن الصعوبة بمكان حلها أو معالجتها بشكل عاجل.
سنوات الحرب الثمانية أردت اليمن بأسرها في هاوية سحيقة من المشكلات على كافة الصُعد، اقتصاديًا وأمنيًا ونفسيًا، وصار الحل في وقف هذا النزيف المتدفق وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، يكمن في عودة الدولة بهيبتها، وتقوية مؤسساتها التنفيذية والضبطية، واستعادة مكانة السلطة القضائية التي تمثل المؤشر الحقيقي للعدالة الغائبة، فمتى عاد القضاء عاد الاستقرار والعدل.
بالإضافة إلى معالجة الوضع الاقتصادي والمعيشي، وكبح جماح الانهيار الاقتصادي في البلاد، وانتظام صرف المرتبات وتخفيف وطأة التردي المعيشي على المواطنين البسطاء، وكل ذلك لن يتم في الحقيقة إلا إذا توقف الحرب أولًا، وحل السلام فعلًا، واستعادة الدولة تواجدها في كل شبر من البلاد عبر مؤسسات قوية وفاعلة.