تقرير يتناول أوضاع فئة المتقاعدين والمتعاقدين في ظل رواتب حقيرة ومتدنية لا تقوى على مواجهة متطلبات الحياة..
إلى متى ستظل رواتب هذه الفئات متدنية.. ولماذا تغيب التدخلات الحكومية؟
لماذا لا يتم تكريم وتقدير جهود كل من خدم هذا الوطن؟
الراتب يحتاج إلى راتب.
(عدن الغد) القسم السياسي:
يتذكر الجميع دعابة السائحة الأجنبية التي زارت اليمن ذات مرة، وخرجت بخلاصة أن (الله موجود في اليمن)، عطفًا على ما وجدته من توكل الناس على الله سبحانه وتعالى وإنفاقهم أضعاف ما يتقاضونه من مرتبات، رغم أنهم ينفقون على (القات) وغيرها الكثير من الأموال.
هذا الوضع كان توصيفًا لحالة الناس في أنظمة سابقة، ورغم أن الأوضاع الاقتصادية حينها لم تكن مثالية لكنها من المؤكد أنها أفضل بكثير مما يعيشه الناس اليوم من ضنك الحياة، ولا شك أن الله سبحانه وتعالى موجود في كل زمان ومكان، ويراقب أفعالنا وأحوالنا ولا تخفى عليه خافية، غير أن ما بلغه السواد الأعظم من اليمنيين حاليًا، مأساويا للغاية.
ولعل هذا ما ينطبق بشكل وثيق ومتطابق مع حالة الموظفين المتقاعدين ممن أفنوا معظم حياتهم في الخدمة المدنية أو العسكرية، بالإضافة إلى الشباب من المتعاقدين الذين لا تزيد رواتب بعضهم عن 25 ألف ريال يمني (لا تتجاوز 18 دولارًا فقط)، حيث لا يمكن وصف هذه الحالة إلا بأنها كارثية، وتعكس الوضع المنهار الذي وصلت إليه معظم الأسر اليمنية.
فمبالغ كهذه، لا يمكن أن تفتح بيوتًا ولا أن تصرف على أسر وعائلات لا يقل متوسط عددها عن خمسة أشخاص، يواجهون متطلبات الحياة المتمثلة في إيجار البيوت، وقوت يومهم وتكاليف الكهرباء والمياه، ومتطلبات الأعياد وشهر رمضان والمدارس وغيرها من الالتزامات بمبلغ 25 ألف ريال.
قد تكون مرتبات بعض المتقاعدين تصل إلى 35 ألفًا، في أفضل الأحوال، غير أن حتى الموظفين الذين ما زالوا يداومون في الخدمة ويتقاضون مرتبات تتراوح ما بين 60 أو 80 أو حتى مائة ألف ريال، لا يمكن أن تفي بمتطلبات الحياة التي يعيشها الناس اليوم، والتي تسببت بها تداعيات انهيار العملة المحلية وارتفاع أسعار السلع الأساسية والغذائية.
وما يدعو للتساؤل، بل وحتى للاستغراب، الآلية التي يحاول السواد الأعظم من الناس أن يوفقوا حياتهم مع ما يتقاضونه من مرتبات ضئيلة، ويحاولوا العيش بهذا المبلغ بشكل طبيعي عبثًا ودون جدوى، في ظل عدم قدرتهم على توفير كافة متطلباتهم واحتياجات أطفالهم وأسرهم، عطفًا على مرتباتهم الحقيرة، وهي مرتبات لا تتناسب مع قدمه المتقاعدون تحديدًا لخدمة الوطن والمؤسسات التي عملوا فيها أفنوا حياتهم من أجلها.
وإذا كانت (الحياة غير عادلة) بالفعل كما هي المقولة الفلسفية الشهيرة، لكنها تكاد تكون أكثر ظلمًا عندما ندرك حجم المعاناة التي يعيشها أمثال هؤلاء بمرتباتهم المتدنية الضئيلة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وفاقمتها الأوضاع المعيشية التي تشهدها البلاد في السنوات الخمس الأخيرة.
ومن المؤكد أن يكون هذا التباين المعيشي بين المرتبات ورغبة الاحتياجات هي الدافع والمبرر من وراء الحوادث الأمنية والأخلاقية وعمليات الانتحار التي ترزح تحتها مدينة عدن وبقية المدن اليمنية المحررة الأخرى؛ يحدث كل هذا في ظل غياب التدخلات والتحركات الحكومية لانتشال المواطنين من هذا الانهيار المعيشي والخدمي الذي ضرب كل تفاصيل الحياة.
> غياب العدالة الاجتماعية
مأساة الموظفين الحكوميين، وعلى رأسهم المتقاعدين والمتعاقدين تحدث للأسف مقابل حالة من الترف والبذخ، يعيشها بعض المحسوبين على الحكومة، بشقيها الشرعية والانتقالي، بل والقيادات العليا في البلاد، التي لا تستشعر مكابدة بقية المواطنين البسطاء.
هذا التفاوت لم يكن على مستوى المرتبات فقط، ولكن حتى على مستوى الجانب الخدمي، حيث ينعم المترفون والسياسيون وقادة الدولة بخدمات كهربائية ومائية لا تنقطع ولا تتوقف، بينما يرزح الكثيرون من الناس، وممن انتخبوا هؤلاء في مستنقعات من الفقر والفاقة والعوز، لا يلتفت إليهم أحد.
وبعيدًا عن المصطلحات اليسارية الرنانة، إلا أنه لا محالة من توصيف الحالة التي وصل إليها المجتمع اليوم بمصطلحات أيديولوجية يسارية، كغياب (العدالة الاجتماعية)، وعودة (الطبقية المجتمعية)، ولا يقصد من هذا استدعاء النزاعات الحزبية أو الفكرية ذات التوجه المعين، ولكن الواقع الحالي لا يمكن توصيفه إلا بهكذا مفاهيم.
فلا يمكن أن توصف عملية التباين والتفاوت في المرتبات إلا بأنه غياب حقيقي للعدالة الاجتماعية بين أفراد المجتمع الواحد، بل وتكرس "الطبقية"، لكن هذه المرة مع اندثار الطبقة المتوسطة، والإبقاء على طبقتين الثراء الفاحش غير المبرر، والفقر المدقع الذي تطأ قدماه كافة المواطنين.
وهذا الجانب من الخطورة بمكان بحيث إنه يهدد الاستقرار المجتمعي، وقد ينجم عنه صراعات مجتمعية وطبقية بين فئات المجتمع لا تحمد عقباها، نتيجة التباين بين الأثرياء والفقراء، وعدم قدرة حتى الشباب من تحقيق أحلامهم في ظل عدم امتلاكهم الإمكانات اللازمة لتحقيق أهدافهم وغاياتهم، وبالتالي يثير "الحقد الطبقي" على المجتمع وعلى الآخرين بسبب العجز عن تحقيق الذات.
قد يقول البعض إن توصيفًا كهذا مبالغ فيه، أو أنه يستدعي الفكر الاشتراكي والمصطلحات المتعلقة به، والتي عفا عليها الزمن، غير أن مخاطر غياب العدالة الاجتماعية لا تترك فقط بفكر أو نظام سياسي واقتصادي معين، ولكنه أساس العلاقات المجتمعية منذ الأزل، وواقعنا في اليمن لا يختلف عنها، مهما كان النظام أو للفكر السياسي المتبع.
وهذا الوقع يحتاج إلى تحركات حكومية مسئولة لتدارك الفوارق الطبقية بين الناس في المناطق المحررة، والتي نتجت عن تداعيات الحرب المعيشية والإنسانية، في ظل عدم قدرة أي رواتب مهما بدت عالية أو مرتفعة أن تواجه التدهور الاقتصادي الحاصل.
> إلى متى؟
في عام 2018، ارتفعت أسعار صرف العملات الأجنبية مقابل تدهور سعر العملة المحلية حينها إلى أكثر من 800 ريال يمني للدولار الأمريكي الواحد، وكان وضعًا كهذا كارثيًا في ذلك الوقت، ما دفع الرئاسة والحكومة اليمنية إلى التحرك لتلافي هذا التدهور الذي تسبب في تخفيض القوة الشرائية للناس.
وكان من نتاج ذلك التحرك اعتماد زيادة نسبية في مرتبات جميع موظفي الدولة، بما فيها المتقاعدين والمتعاقدين، وبنسبة تتجاوز 30 % تقريبًا، وهذا ما خفف بعض الشيء من وطأة تداعي سعر الصرف، وحافظ على الصمود المجتمعي في وجه التغول والتوحش الذي جسده التضخم الناتج عن انهيار سعر الصرف.
وبالنظر إلى واقع اليوم، لا يمكن أن يُقارن بما كانت عليه الأوضاع في عام 2018، حيث التردي والانهيار الحاصل اليوم أكبر بكثير مما كان عليه وقتها، بل إن سعر صرف الدولار الأمريكي تجاوز حاج 1450 ريالًا، وبالتالي حتى لو وصل راتب أي موظف أو دخل أي مواطن إلى مائة ألف أو مائتي ألف ريال فإنه لا يمكن أي يواجه تبعات المعيشية، لا سيما إن لم يتجاوز 25 أو 30 ألف ريال كما هو حال المتقاعدين والمتعاقدين.
الأمر الذي يفرض سؤالًا ملحًا، إلى متى ستظل الأوضاع الراهنة على ما هي عليه، دون أي تدخل أو تحرك حكومي يساعد على تلافي تراجع قدرة المواطنين على مواجهة متطلبات الحياة واحتياجات أطفالهم وأسرهم، في ظل غياب أسباب العيش الكريم للسواد الأعظم من اليمنيين، ووسط وضع لا يساعد على العيش ولا على الحياة بكرامة.
وفي الوقت الذي يطالب فيه اقتصاديون بضرورة رفع الحكومة اليمنية بمرتبات موظفيها وعلى رأسهم المتقاعدين والمتعاقدين، لا يوجد أي تحرك حقيقي يعمل على ذلك، وهو أمر لا يمكن اعتباره إلا عجزا واضحا وفشلا في إدارة أهم أزمات البلاد على المستوى المعيشي، كما أنه يأتي في إطار العجز عن كبح جماح تدهور الريال اليمني، الذي ألقى بمشاكله وتداعياته على كل مناحي المعيشة.
وإذا استمر هذا الوضع بلا نهاية، ودون أي تدخل أو إصلاحات حقيقية تنقذ الناس، فمن المؤكد أن هذا الوضع سيتحول إلى بركان غضب ينفجر في وجوه صانعيه والمتسببين فيه، بل إن ملامحه ومؤشراته بدأت بالبروز مؤخرًا، من خلال حوادث الانتحار والجرائم التي هي في الأساس نتيجة طبيعية للأوضاع المعيشية المتردية، والكبت النفسي الناتج عنها.
فمن الواجب على الدولة، بكل قواها وأحوالها ومكوناتها، سواءً شرعية أو انتقالي، أن تحرك ساكنًا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من حياة الناس، وإلا فالتبعات لن تستثني أحدًا.
> ارحموا عزيز قوم ذل
لا يمكن مقابلة جهود من قضوا حياتهم في خدمة الوطن والمؤسسات التي أفنوا حياتهم في خدمتها بل وبنائها وتأسيسها من الصفر، بهذه الطريقة من النكران، حتى بات هؤلاء من الموظفين والعاملين القدامى يكابدون حياةً مؤلمة لا تليق بما قدموه من خبرات طيلة 60 أو 65 عامًا أفضت إلى إيجاد مؤسسات دولة ما زالت قائمة ومستمرة حتى الآن.
آباؤنا وأمهاتنا الذي كانوا ومازالوا أعزاء وعظماء، ممن جادوا بزهرة شبابهم يقفون أمام مكاتب البريد صباح كل يوم في ذل غير مبرر؛ بحثًا عن معاشات لا تتجاوز 30 ألف ريال يمني، لا تصبر يومًا واحدًا أمام احتياجات والتزامات الحياة، وبدلًا من تكريمهم وتقديرهم يلاقون هذا المصير الذي لا ينم إلا عن عدم تقدير واحترام، ويمنع الأجيال الحالية من العطاء خوفًا من أن تلقَ نفس المصير.