(عدن الغد) القسم السياسي:
ما إن اشتعلت الحرب من قبل المليشيا الحوثية في العام 2014م، والمالية العامة للدولة تدار خارج الأطر المؤسسية والقوانين المالية، وهو الأمر الذي شجع الجهات والمؤسسات الحكومية أن تقوم بفتح حسابات لدى البنوك التجارية وشركات الصرافة متجاوزة القانون المالي رقم (8) 1990م ولائحته التنفيذية، مما أثر على أداء البنك المركزي في القيام بدوره وفتح بابا واسعا للفساد والفاسدين.
وشهد شهر أغسطس الفائت حالة سيولة من التعميمات، أصدرتها وزارة المالية التابعة للحكومة المعترف بها دوليا، وصلت إلى ستة تعميمات، كان آخرها التعميم الذي يحمل رقم (11) لسنة 2023م.
ولم يكن هذا التعميم هو الأول بل صدرت عدة تعميمات في هذا الشأن منذ فبراير من العام 2019م، إلا أن الحكومة اليمنية عجزت عن تنفيذ أي منها.
دعا التعميم الأخير إلى إغلاق جميع الحسابات لوحدات الخدمة العامة كافة لدى البنوك التجارية والإسلامية وشركات الصرافة، وعدم توريد الموارد إلا إلى الحسابات المخصصة لها والمفتوحة طرف البنك المركزي اليمني الرئيسي عدن وفروعه في المحافظات والالتزام بأحكام القوانيين واللوائح والقرارات النافذة.
وقد سبق هذا التعميم اجتماع عقدته اللجنة العُليا للموارد المالية في القصر الرئاسي بمعاشيق، برئاسة عضو مجلس القيادة الرئاسي ورئيس المجلس الانتقالي الجنوبي ورئيس اللجنة العليا للموارد المالية اللواء عيدروس الزُبيدي، وبحضور رئيس الوزراء معين عبدالملك، الذي استعرض قرار مجلس القيادة الرئاسي الخاص بتشكيل اللجنة، والمهام والاختصاصات المناطة بها والصلاحيات الممنوحة لها، لضبط وتحصيل الإيرادات السيادية والمحلية، وترشيد النفقات وتنمية الموارد وتحسينها.
وجاء التعميم الوزاري بعد أيام من تقرير برلماني، دعا فيه الحكومة إلى إغلاق الحسابات الحكومية في البنوك التجارية وشركات الصرافة وتوريد الإيرادات العامة للدولة في الحسابات المخصصة لها في البنك المركزي اليمني في عدن.
> هل يستعيد البنك المركزي دوره؟
استند التعميم رقم (11) الذي صدر عن وزارة المالية بإغلاق جميع الحسابات لكافة وحدات الخدمة العامة لدى البنوك التجارية والإسلامية وشركات الصرافة، وعدم توريد الموارد إلا إلى الحسابات المخصصة لها والمفتوحة طرف البنك المركزي اليمني الرئيسي عدن وفروعه في المحافظات، إلى مخالفة ذلك للقانون المالي رقم (۸) لعام ۱۹۹۰م ولائحته التنفيذية والمادة (٣٩، ٤٢) من القانون، والمادة (٥٢) من اللائحة، علاوة على أن الغرض من ذلك تنظيم وترتيب الحسابات والالتزام بأحكام القوانيين واللوائح والقرارات النافذة.
وأشار مضمون "التعميم" إلى أنه صدر استناداً إلى مصفوفة الإصلاحات المالية والشروط المتعلقة بدعم الموازنة العامة للدولة، وهو الأمر الذي يشير إلى الاشتراطات التي وضعتها الوديعة السعودية لدى صندوق النقد العربي.
ودعا "التعميم" إلى الالتزام والتقيد برفع كافة الكشوفات للحسابات الجارية الممسوكة في الجهات الحكومية، ومرفق بها بكشف ميزان المراجعة البنكي الشهري خلال فترة أسبوع من تاريخه، متوعدا المخالفين بالإجراءات القانونية، حفاظاً على المال العام في ظل هذه الظروف المالية الصعبة، والامتثال لقواعد الضبط والرقابة والتفتيش، وفقاً للمادتين (٥٧، ٥٦) من القانون السالف الذكر.
من الملاحظ أن كل التعميمات السابقة واللاحقة تمحورت حول إغلاق جميع الحسابات الجارية الحكومية في البنوك التجارية وشركات الصرافة، مع التشدد على تحصيل الموارد العامة للدولة وتوريدها إلى الحسابات المحددة طرف البنك المركزي عدن وفروعه في المحافظات، وعدم تجنيب أي مبالغ في حسابات خاصة أو الصرف منها، معتبرا ذلك مخالفة دستورية تعرض مرتكبها للمساءلة القانونية.
ويرى خبراء اقتصاديون أن الأصل في المالية العامة ونظم المحاسبة الحكومية أنها تعتمد بالدرجة الأولى على القانون المالي، وهو من ينظم طبيعة المصروفات الأساسية التي تتم أساسا للحكومة عبر البنك المركزي، باعتباره البنك الأساسي للدولة.
وعلى الرغم أن القانون المالي ينص على أن كل الموارد الأساسية والمصروفات، يجب أن تكون تحت تصرف البنك المركزي مباشرة وبإشراف إدارة المصروفات في وزارة المالية، غير أن فتح الحسابات خارج البنك المركزي، استمر بالمخالفة للقانون المالي ومنهجية وعمل وزارة المالية والبنك المركزي وكافة القوانين المالية التي تضبط إيرادات الدولة، حسب مختصين في الشأن المالي والاقتصادي.
وما ساعد من الوقوع في هذه المخالفة للقانون هو عدم قدرة الحكومة المعترف بها دوليا ومؤسساتها على الالتزام بهذا التوجه، وهو ما يعكس الواقع السياسي للحكومة ومجلس القيادة الرئاسي الذي يشهد حالة من غياب الانسجام بين مكوناته والرؤية المشتركة لإدارة شؤون البلاد.
وعلق الصحفي في الشؤون الاقتصادية ماجد الداعري على حسابه في منصة "إكس" بقوله: تعميم وزير المالية بإغلاق جميع الحسابات الحكومية الجارية بالبنوك التجارية وشركات الصرافة، مهم جدا لإنجاح أي جهود حكومية فعلية للإصلاح الاقتصادي ومحاربة الفساد وتحسين تحصيل وجمع موارد الدولة، لكنه بالمقابل لم يوضح مصير حسابات المؤسسات الحكومية بالبنوك الحكومية ويستثني مؤسسات حكومية استيرادية، لا غنى لها عن حساباتها البنكية لممارسة عملها.
ويضيف "الداعري" كان الأسلم في تقديري لصياغة تعميم وزير المالية المكرر منذ سنوات لإغلاق جميع الحسابات الحكومية الجارية بشركات الصرافة والبنوك التجارية، أن يحدد بالنص الحسابات الحكومية الجارية للمؤسسات الإيرادية، ويستثني الحسابات البنكية الحكومية للشركات والمؤسسات الحكومية الاستيرادية المستقلة ماليا، وغيرها من المؤسسات التي يستدعي عملها وجود حسابات بنكية لها، لتمكينها أساسا من الاستمرار في عملها بالاستيراد لبضاعتها من الخارج، كشركتي النفط ومصافي عدن، على سبيل المثال وليس الحصر.
ويرى المحلل الاقتصادي محمد الجماعي إيجابيته في اتجاه إعادة سيطرة البنك المركزي على السياسة النقدية، مضيفا أن البنوك التجارية وشركات الصرافة، كانت تؤدي أدوارا مهمة جدا في الفترة الماضية، إلا أنه خلال فترة ثلاث سنوات إلى أربع سنوات من بداية الحرب تحول إلى دور سلبي، بسبب تغول هذه الشركات ووصول دورها إلى القيام بدور البنك المركزي بالكامل، وأصبح البنك المركزي من فقدان سيطرته على دورة الجهاز المصرفي.
وقال "الجماعي" لـ "يمن ديلي نيوز": بدلا من أن تدور الدورة المصرفية رأسيا، أصبحت تدور أفقيا دون عودة إلى البنك المركزي، وبالتالي أصبح دور البنك المركزي بعيدا جدا عن السيطرة على السياسة النقدية ولم يستطع أن يسيطر عليها، مؤكدا أن القرار محاولة من البنك المركزي عبر وزارة المالية لربط الجهات الحكومية أولا، فقبل أن تطالب السوق بعمل يجب عليك أولا أن تربط الجهات الحكومية بالمصرف المركزي وفروعه في المحافظات، على حد قوله.
> هل يتعافى الريال بهذا التعميم؟
وفق دراسة قام بها المحلل الاقتصادي والمالي وحيد الفودعي في وقت سابق من هذا العام، ذكر أن الأسباب التي جعلت من التجار والعملاء يلجأون إلى شركات الصرافة، هو انعدام ثقة العملاء بالقطاع المصرفي لاسيما فيما يتعلق بأزمة السيولة النقدية وتجميد الحسابات القديمة في البنوك الحكومية، إضافة إلى عجز البنوك عن الوفاء بالتزاماتها تجاه عملائها.
هذه الأسباب حسب "الفودعي" وغيرها سنحت الفرصة للصرافين للقيام بدور البنوك الحكومية وحتى الخاصة، وتحويل مسار المعروض النقدي من السيولة لدى البنوك إليهم، الأمر الذي أدى إلى تكدس كتلة نقدية ضخمة لدى الصرافين وعدم انتظام الدورة النقدية وعودتها مرة أخرى للبنك المركزي اليمني، وأصبح الصرافون متحكمين بالسوق، بما لديهم من سيولة نقدية يتم توفيرها للعملاء وبالشروط التي يطلبونها.
وساهم الصرافون وفق دراسة الفودعي بشكل أساسي في تأسيس فوارق سعر الصرف بين الدولار مقابل ريال نقداً، والدولار مقابل ريال شيك في الحساب (لا يسحب نقداً)، نظراً لقدرة الصرافين على توفير قيمة هذه الشيكات نقداً، كما ازدادت ثقة العملاء بالصرافين مع قدرتهم على إجراء الحوالات الدولية إلى أي مكان يطلبونها بعد عجز البنوك عن أداء هذه الوظيفة.
وطبقا لهذا الدراسة، فإن ما ضاعف من تدهور العملة اليمنية هو الانقسام الحاصل في السلطة النقدية وتعنت الانقلابيين الحوثيين، ومضيهم بعكس سياسة البنك المركزي اليمني بعدن، وتهديدهم البنوك بتنفيذ سياسات معاكسة بحكم قربهم من مراكزها الرئيسية في العاصمة صنعاء.
هذه الأسباب خلقت تضاربا في السياسات النقدية، وعقد من مهمة البنك المركزي اليمني المركز الرئيسي عدن في إدارة ورسم وتنفيذ السياسة النقدية.
وللخروج من الواقع المتأزم الذي يؤدي إلى استعادة الريال مكانته، يقول وزير المالية سالم بن بريك في مقابلة له منشورة في صحيفة عكاظ في 18 أغسطس من الشهر الماضي 2023م، أن ذلك سيتم باستعادة الحكومة تحصيل كافة مواردها من العملتين المحلية والأجنبية، وإعادة تصدير النفط والغاز الذي يعد المصدر الأساسي لتوفير العملة الصعبة، بالإضافة إلى إنهاء الانقسام النقدي الحالي بين المناطق المحررة وغير المحررة، واتخاذ الإجراءات اللازمة لتهيئه المناخ والبيئة الآمنة لتحريك النشاط الاقتصادي في المناطق المحررة، فضلا عن اتخاذ الإجراءات اللازمة والمشددة ضد المضاربين بأسعار الصرف، ووضع حدٍّ لمن يعبث بأسواق الصرافة وتحويل الدعم المقدم من المنظمات والدول المانحة عبر البنك المركزي، وفرض بعض الإجراءات الأمنية.
ولعل هذا التعميم الأخير يأتي ضمن هذا السياق الذي ذكره "بن بريك" لصحيفة عكاظ السعودية، في الوقت الذي يجري الحديث عن مفاوضات برعاية أممية لتحييد الاقتصاد الوطني والبنك المركزي، وتوحيد التعاملات المالية والنقدية بين عدن وصنعاء في إطار جهود دبلوماسية إقليمية ودولية وأممية.
يعتقد مراقبون اقتصاديون أن سيولة التعميمات التي أصدرتها وزارة المالية مؤخرا، بما فيها غلق الحسابات لدى شركات الصرافة وتوريد الإيرادات لطرف البنك المركزي اليمني، يندرج ضمن مواجهة الضائقة المالية التي تعيشها الحكومة المعترف بها دوليا بعد توقف صادرات النفط، إثر الاعتداءات الحوثية عليها العام الماضي، بالإضافة إلى اشتراطات الوديعة السعودية، والتهيئة لربما لمرحلة تحييد الاقتصاد والبنك المركزي والموارد السيادية في البلاد التي تشهد حربا منذ تسع سنوات، ولا منتصر فيها بشكل حاسم حد اللحظة.
وخلاصة القول إن هذه الإصلاحات المالية التي تقوم بها وزارة المالية في عدن تصب في النهاية في خدمة هذا التوجه الدولي الذي قد يفضي في النهاية إلى صرف الرواتب لجميع موظفي الدولة وفق كشوفات ديسمبر2014م، مع العمل على التخفيف من الأوضاع الاقتصادية والإنسانية المتدهورة للشعب اليمني التي فاقمتها الحرب المشتعلة منذ تسع سنوات.