آخر تحديث :السبت-22 فبراير 2025-07:49ص
أدب وثقافة

قصة قصيرة (البريئة) !

الخميس - 28 سبتمبر 2023 - 03:07 م بتوقيت عدن
قصة قصيرة  (البريئة) !
عدن((عدن الغد )) خاص

 كتب: ماهر المتوكل

كنتُ حينها نقيًّا وعفويًّا أمتلك قلبًا يسع العالم، وكانت تصغرني بعقد او يزيد  حينها..!
كانت كالنحلة، أو فراشةً تحلِّق من حولي، وأشعر بأنَّها تحلِّق حولي وتودُّ أنْ تحطَّ في ختام جولتها على شفاهي، كما تحطُّ الفراشة على برعم الزهرة.
كانت تخاطبني دون أن تهمس، وكنت أجد في نظراتها صرخاتٍ تناديني وتقول لي: "متى تفهم؟.. متى تتحول لموقف وتبتعد عن الخجل الزائد والحبِّ والاحترام والرهبة من القرابة التي تحوَّلت لأغلالٍ تُربَط بها رقابُنا، وتشدُّ علينا شيئًا فشيئًا؛ حتى نشعر بأننا بِتنا عاجزين عن الحركة والتنفُّس ؟!".
نعم.. كنت أحسُّ بوجع تلك الكلمات في قلبي، وتؤذي روحي وترعبني وتقلقني، لدرجة عدم النوم وقتها أحيانًا٠
كنت أجد فيها البراءة والعفَّة والطفولة، وأجد بيننا سورًا كبيرًا يفوق سور الصين وقوَّة جدار برلين الذي هُدِم؛ وذاك بفعل القرابة التي كانت سببًا لعذابي، وسببًا لرغبتها في محاولة التمسك بعريس المستقبل، الذي كانت ترسم ملامحه في مخيِّلتها؛ حتى قبل أوانها وقبل بزوغها وبلوغها.من وجهة نظري رغم انها كانت تبلغ ال13 وهناك من تزوجت من اقرانها في قريتنا بفعل ظلم العادات الظالمة!     
كنت أتحاشاها وأتهرَّب من أيِّ مكانٍ أتوقَّع وجودها فيه، وكانت تفعل العكس وتبادر للبحث عني في كلِّ مكان.. أعتقد بأني أهرب عنها ومنها، وأحسُّ بأنِّي قد أنهيت ما في عقلها واهمًا٠
كانت صغيرةً وكنت شابًّا يافعًا لا يملك حولًا ولا قوة.. كنت أجد فيها حبَّ (جميل بثينة)، وعشق (وضَّاح اليمن)، وكانت تناديني لأكون لها بمثابة (أبو زيد الهلالي) أو (عنترة العبسي)..!
كنت من وقتٍ إلى آخرَ أتالَّم لحزنها ويأكلني الإحباط؛ لشعوري بما كانت تشعر به حينها.
نعم.. مرَّاتٍ أجدها تصرخ فيَّ؛ رغم أن لقاءاتنا لم تكن منفردةً ولا متفرِّدة، ولكن كنت أنا الشخص الوحيد الذي أسمع همسها، وأشعر بهول معاناتها.. كانت تراني أمام عينيها، ولكنِّي كنت لها في الوقت نفسه أبعد من (عين الشمس).
كنت أسمعها تقول: "قتلتني قتلك الله، قتلتني بتهربك وبصَمتك وبعفَّتك المفرطة ومراعاتك لما بيننا؛ رغم أنِّي لا أودُّ منك سوى الإفصاح، فقط الإفصاح، وإخبار والدي بأنك تحبُّني وستصبر عليَّ حتى أكبر ونؤسِّس البيت الذي حلمتُ به ورسمتُ ديكوراته وحواديثه.. سامحك الله..!".
نعم.. كنت أجد في ختام كلِّ عتاب "سامحك الله"؛ من حبِّها وخوفها لأنْ أتضرَّر من هول ما يصيبها حتى الدعاء عليَّ في بعض الأحايين٠
في إحدى المرَّات وأنا اتأهَّب للسفر وجدَتْ (هي) فُسحةً في لحظةٍ لم تتجاوز الدقيقة ورأيتها تسعى مهروِّلةً نحوي فتلفَتُّ يمنةً ويسرةً؛ خشيةً من وجود قريبٍ أو متلصِّص، وطارت إلى حضني فاتحةً ذراعيها وكأنها دنيايا التي حلمت بها كثيرًا وانتظرتها لأنْ تأتي وتفتح لي ذراعيها بحبٍّ وخوفٍ وشوقٍ وحسرةٍ معًا؛ فلم تلبِّي طلبي وأمنيتى حتى اليوم.. ومن يومها مرَّت عقودٌ من السنوات، هي تزوجَتْ بشخصٍ آخر؛ بفعل تداخل مقتضيات الحياة والعادات البليدة، وكبُرتْ تلك الصبيَّة بكبر الدنيا.. وكلَّما أجدها في المرَّات النادرة أجد فيها غيرةً وحبًّا وجنونًا على أولادها؛ كما لم أجده في أمٍّ حتى في قلق وعشق أمِّي لي بالذَّات دون إخواني٠
نعم.. ما زلت حتى اليوم كلَّما ضاقت عليَّ الدنيا بما رحُبت أجد في مواساتها لي وحضنها الذي مرَّ عليه سنوات طوال  لم تتمكن من إزالة رائحتها التي التصقت بروحي قبل أنفي.
نعم.. أجد في حضنها ذاك وطنًا وملاذًا لتخفيف مُصابي وتطبيبي، وأجد في رعشتها من خوفها في ذلك اليوم لشعورها بأنِّي قد أسافر وأعود وقد تبدَّلت الأرض والأحوال وبأنَّ الأيام قد تحرمنا من بعض بعد عودتي التي لا تعلم كم من الزمن ستكون، وما ستغيِّره في مشهَدَي حياتي وحياتها، وكان إحساسها وشعورها صادقًا وتنبأتْ بما كان فعلًا لأبعد حد..!
ومن بعد تلك الصبيَّة النحلة من وجهة نظري  لم أجد في هذا الكون الفسيح فتاةً تًحبُّني أو أحبَّتني بجنونٍ وشغفٍ وصدقٍ مثل تلك  ( المحبوبة)، ولم أعشق أنا كذلك صبيَّةً أو فتاةً، وقيَّدتني أمورٌ كثيرةٌ كما كنت مكبَّلًا حينها.. ودائمًا ما أدعو لها في مواطن الغيب ويقفز سؤالٌ مُلِحٌ: هل ما زالت تلك البريئة تذكرني..؟ وهل مازلت مسيطرًا على روحها وقلبها وعقلها وتدعو لي وتتمنَّى لي الخير كما أتمناه لها..؟!.