آخر تحديث :السبت-22 فبراير 2025-08:25ص
ملفات وتحقيقات

تقرير: كيف تسبب تحول النشاط التجاري لميناء الحديدة بأضرار اقتصادية كبيرة في عدن ومحيطها؟

الثلاثاء - 17 أكتوبر 2023 - 06:35 ص بتوقيت عدن
تقرير: كيف تسبب تحول النشاط التجاري لميناء الحديدة بأضرار اقتصادية كبيرة في عدن ومحيطها؟
(عدن الغد)خاص:

تقرير يتناول وضع الكساد الذي ضرب ميناء عدن بعد إعادة تشغيل ميناء الحديدة.. الأسباب والحلول..

كيف يمكن تجاوز المشكلات التي أحدثتها إعادة تشغيل ميناء الحديدة؟

هل نحن على أعتاب عاصفة جبايات وضرائب جديدة؟

ما تأثير تراجع نشاط ميناء عدن على القطاعات التجارية في المحافظات المجاورة؟

لماذا لا توجد معالجات أخرى لهذه المشكلة.. غير مد يد الحكومة في جيب المواطن؟

(عدن الغد) القسم السياسي:

عدن ابنة البحر.. عدن هي الميناء، صنوان لا يفترقان، إذا ذكرت المدينة جاء الميناء متربعا قرين اسمها، فهو من أعطاها شهرتها، وجعلها مهوى مئات الثقافات والمعتقدات والأعراق التي هبطت إلى هذه المدينة واتخذتها موئلا، وما كان لها ذلك إلا بسبب هذا الميناء.

غير أن هذا الميناء بات خاويا على عروشه، وتحول إلى ما يشبه البيت الكبير للأشباح، بعد تحويل التجار ورجال الأعمال لكامل نشاطهم التجاري إلى ميناء الحديدة الخاضع لسيطرة مليشيات الحوثي، عقب (تفاهمات إنسانية) مع السعوديين وتحت إشراف الأمم المتحدة، الأمر الذي حول ميناء عدن (الأشهر عالميا ذات يوم) إلى مجرد أرصفة ومعدات لا تعمل، بعد تاريخ طويل من الشهرة.

> تاريخ ميناء عدن

لم تصبح عدن مدينة عالمية منفتحة سوى بسبب هذا المنفذ البحري الهام، المهيأ بكل ما يتطلبه أي ميناء مثالي، لكن هذه التهيئة لم تكن بتدخل من البشر، وإنما ميزة إلهية منحت الميناء طبيعة خاصة وجعلت منه محميا بالجبال من الرياح منذ زمن السفن الشراعية الضخمة، مرورا بالعمق الطبيعي الكبير الذي أهلها لاستقبال أكبر السفن العملاقة العصرية اليوم.

هذه المواصفات جعلت من الدول العظمى التسابق للظفر بالاستيلاء على هذا الميناء الحيوي، منذ بداية القرن السادس عشر الميلادي، وحتى النصف الأول من القرن التاسع عشر، حين ظفرت بريطانيا بالميناء بعد أن أيقنت صورة الاستحواذ عليه لدعم تجارتها ووجودها في الهند الشرقية، وهو ما كان لها في عام 1839.

لكن بريطانيا لم تكن قد استولت على عدن بسبب تواجدها في الهند فقط، ولكن نظرا للسمات الطبيعية التي يمتاز بها ميناء عدن، وهو ما جعلها تستمر بالتواجد في الميناء واحتلال عدن لفترة تجاوزت 129 عاما، حتى بعد خروجها من الهند عام 1947، واستمرت تسيطر على ميناء عدن حتى عام 1967، وما ذلك إلا بسبب أهمية الموقع والذي أدركته بريطانيا جيدا.

الإدراك البريطاني لأهمية ميناء عدن استثمرته بشكل تجاري واستثمارية كبير، حتى بات ميناء عدن في عهد الاحتلال البريطاني ثاني أكبر موانئ العالم يشهد حركةً تجارية في العالم، بعد ميناء نيويورك، فعدد السفن التي كانت تستقبلها عدن لم يكن لها مثيل في كل موانئ آسيا وأوروبا وأفريقيا على الإطلاق، الأمر الذي انعكس على الوضع الاقتصادي والتجاري في المدينة، والذي بالفعل استفادته منه السلطات البريطانية جيدا.

ولعلنا ونحن نستعرض تاريخ الميناء، نعرج على مقارنة وضعه الراهن اليوم، مع وضعه الماضي حين كان قبلة لسفن العالم والتجارة العالمية، بحكم الموقع والاستغلال المثالي لقدرات الميناء الطبيعية والملاحية والتي لا تحتاج إلى أي تدخل بشري، كتعميق رصيف استقبال السفن مثلا، أو منع تأثره بالتقلبات المناخية كالرياح وغيرها.

وشتان بين ما يعيشه ميناء عدن اليوم من كساد تجاري، وتوقف لحركة السفن، وبين ما كان يشتهر به عالميا من ميزان وقدرات ملاحية خارقة، فالميناء لم يجد (العافية) منذ رحيل آخر جندي بريطاني من عدن، وهذا الواقع لا يمكن إنكاره، ولا يحتاج إلى أية مزايدة، فالتاريخ والسياسة والواقع يشهد ويؤكد هذه المعلومات، حين دخل الميناء مرحلة (الموت السريري) بمجرد سيطرة الجبهة القومية للحكم في عدن والمحميات الجنوبية.

وللأسف، فإن الأيديولوجية السياسية والفكر الاقتصادي الذي اتبعه نظام الحكم حينها، ساهمت في التأثير على حركة التجارة من وإلى ميناء عدن، فالاقتصاد الاشتراكي حد من حرية عمل المستثمرين والتجار ورجال الأعمال، بل ونفذ سياسة التأميم التي لم تستثنِ شيئا، الأمر الذي دفع الشركات التجارية المتواجدة في عدن إلى الإغلاق والرحيل عن المدينة، وبالتالي لم يعد أحد يستورد أو يصدر شيئا من عدن، ما كبت النشاط التجاري في المدينة وأدخلها في سبات استمر إلى اليوم.

وعندما نقول إن هذا السبات استمر إلى اليوم فلا توجد أية مبالغة في ذلك، فحتى في زمن اقتصاد السوق الحر، خلال ما بعد فترة الوحدة اليمنية والتخلي عن الاقتصاد الاشتراكي، لم يعد ميناء عدن إلى سابق عهده، ولم يسترد مكانته التي كان عليها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي وما قبل ذلك بكثير.

> التحول إلى ميناء الحديدة

قد يُرجع البعض سبب الكساد والفتور في النشاط التجاري الحالي بميناء عدن إلى تحول كامل النشاط التجاري الخاص في اليمن إلى ميناء الحديدة الخاضع لسيطرة مليشيات الحوثي الانقلابية، خاصة بعد التفاهمات الأخيرة مع الرياض وبرعاية أممية، لكن المشكلة متعلقة أيضا بإجراءات حكومية فرضتها على التجار أدت إلى نفورهم من الميناء.

كل ذلك تسبب بأضرار اقتصادية كبيرة في عدن المدينة، ومحيطها في المحافظات المحررة التي باتت اليوم تستجدي بضائعها وما تحتاجه من مناطق سيطرة الحوثيين، بعد تدفق السفن والبضائع والاحتياجات الأساسية عبر ميناء الحديدة، في مقابل رفض المليشيات لأية بضائع قد تأتي من عدن والمحافظات الخاضعة للحكومة الشرعية إلا وعبر دفع جمارك تصل نسبتها إلى 100 %.

الخطورة في تحول النشاط التجاري إلى ميناء الحديدة تكمن في أن ميناء عدن سيتحول إلى مجرد (خرابة) كبيرة لا تغني ولا تسمن من جوع، بعد أن عولت عليها الدولة كثيرا في فترة ما قبل الحرب، وجهزته برافعات ومعدات عصرية، غير أنها لم تحسن إدارته وسلمته لمنافسين إقليميين جعلوه مجرد مخزن كبير لما يفيض من حاويات بضائعهم.

ولعل مثل هذا الوضع يتكرر اليوم لكن بشكل أسوأ، بعد أن فشلت السلطات التي تسلمت إدارة عدن بعد فترة الحرب من إدارة المدينة أو إدارة مينائها، في تراجيدية مؤلمة تعيد مأساة ما بعد الاستقلال من بريطانيا، عندما عجز الرفاق عن إدارة ميناء عدن الأشهر عالميا وقتها، وحولوه إلى مكان تسكنه الأشباح.

لكن الخطورة أيضا لا تقف عند حد توقف عمل ونشاط ميناء عدن، فالأمر متعلق بكل أوجه وقطاعات الحياة الأساسية في المدينة وبقية المدن المحررة، من خلال حصول مزيد من التراجع في وضع المعيشي المتدهور أصلا، وتدهور جديد لوضع العملة المحلية في ظل استمرار غياب أي نشاط اقتصادي ملموس أو توقف الدورة المالية، تحت وطأة وتأثير توقف النشاط التجاري عبر الميناء.

وليس من أحد سيكتوي بنيران هذا الوضع المتردي سوى المواطن البسيط، وغالبية الناس من ذوي الدخل المحدود الذين ينظرون إلى مرتباتهم الضئيلة التي لا تفي بحاجاتهم الأساسية كطوق نجاة يبقيهم على هامش قيد الحياة، بما تضمنه هذه المرتبات من فتات المعيشة.

كل تلك الأعباء ستضاف بطبيعة الحال إلى بقية الكوارث الاقتصادية، المتمثلة في توقف تصدير النفط والغاز عبر موانئ الحكومة الشرعية، وبالتالي فإن وضع كهذا سينعكس على تفاقم مشكلة شحة الإيرادات، التي كانت تعاني منها الحكومة، ولم تنجح في تقديم حلول لها سوى مد يدها إلى جيب المواطنين، بحسب وصف عدد من الاقتصاديين.

> حلول موجعة

أمام هذا التلاشي لمكانة ميناء بحجم ميناء عدن، تقف السلطات المعنية عاجزة عن عمل أي شيء ناجع، يعيد للميناء التاريخي رونقه ونشاطه، سواء تلك السلطات التي حكمت عدن عقب الاستقلال من بريطانيا، أو تلك التي جاءت بعد الوحدة، أو حتى السلطات التي سيطرت على عدن بعد الحرب.

لكن ما يهمنا من كل تلك السلطات هي الحكومة اليمنية الشرعية التي تضم أيضا إلى جانبها سلطات المجلس الانتقالي الجنوبي التي تسيطر فعليا على الأرض وعلى الميناء، وجميعها لم تنجح في استعادة مكانة عدن أو مجرد نشاطه التجاري في مستواه الأدنى.

في الأفق، يبدو أنه لا مجال للحكومة والسلطات المسيطرة على عدن سوى العودة مجددا لمد يدها إلى جيب المواطنين وما تبقى من التجار في المدينة والمدن المحررة، وذلك من خلال إجراءات تزيد من حجم الجبايات والإتاوات المالية والضرائب لزيادة الإيرادات التي ذهبت أدراج الرياح، تماما كما عملت بعد وقف تصدير النفط والغاز، بسبب ضربات الحوثي الجوية على الموانئ.

وإجراءات مثل هذه يصفها اقتصاديون بأنها ستكون بمثابة المسمار الأخير في نعش الاقتصاد في عدن ومناطق سيطرة الحكومة، كما أن تلك الإجراءات التي تقول الجهات الرسمية إنها تأتي في سبيل تجاوز المشكلات المعيشية والاقتصادية والتجارية التي تسبب بها إعادة تشغيل ميناء الحديدة على حساب ميناء عدن، لن تنجح في تطبيع الوضع الاقتصادي المتدهور، وفق خبراء.

مراقبون اقتصاديون يعتقدون أن الإجراءات الحكومية في فرض مزيد من الجبايات والضرائب إذا تمت، ستكون بمثابة خيار سهل، تلجأ إليه الحكومة دون أن تكلف نفسها عناء البعض عن خيارات أخرى أكثر نجاعةً، وهذه الخيارات تتعلق بالمواقف السياسية والعسكرية التي يمكن لها أن توقف عبث جماعة الحوثي وحربها على الاقتصاد في المحافظات المحررة.

وتماما كما عملت المليشيات الحوثية على قصف الموانئ اليمنية لإيقاف تصدير النفط والغاز؛ ما أثر على إيرادات الحكومة الشرعية، يمكن لهذه الأخيرة أن تحرك أوراقها السياسية والعسكرية هي الأخرى لتأمين وضعه مناطقها معيشيا، وإعادة مرافقها الاقتصادية السيادية كميناء عدن إلى العمل مجددا، بعيدا عن الخيارات السهلة وزيادة العبء على التجار والمواطنين.