تحليل يقرأ في مصير القضية الجنوبية وآلية طرحها في مفاوضات السلام القادمة..
ما الذي يقصده غروندبرغ من "الاستماع إلى كافة مشاريع القوى الجنوبية الأخرى"؟
هل أكدت تصريحات غروندبرغ عدم وجود ممثل (حصري ووحيد) للقضية الجنوبية؟
كيف يمكن أن تجتمع القوى الجنوبية المتناقضة في مشاريعها على خطاب موحد ورؤية سياسية واحدة؟
ماذا لو فشلت كل تلك القوى في طرح رأي واحد.. من سيمثل الجنوب؟
كيف سيتعامل العالم مع مطالب كل فصيل جنوبي في ظل تعارض وتناقض الرؤى والمشاريع؟
التنازع الجنوبي الجنوبي.. كيف يمكن أن ينعكس على مصير القضية الجنوبية؟
(عدن الغد) القسم السياسي:
مرّت القضية الجنوبية بمنعطفات سياسية حادة، جعلتها تتأرجح وتنتقل بين مراحل وأطوار عديدة، حتى إنها اتهمت بأنها أصبحت مخترقة من قبل الأنظمة السياسية التي عايشتها، بعد أن عجزت على وقف نضالاتها السلمية، وهذا ما جعل القضية الجنوبية عرضة للتشتت والتجزئة، كهدف سياسي للحد من مطالبها.
وهو ما حدث بالفعل، عندما سمح أبناء الجنوب لأنفسهم تفريخ أنفسهم في أكثر من مكون حراكي وجنوبي؛ سعيا من البعض منهم -بعفوية- إلى فرض مطالب الجنوبيين عبر كيانات وقوى سياسية، غير أن الأمر انقلب عكسيا وأثر على القضية بشكل سلبي، وذلك عندما كثرت المجالس الحراكية والكيانات الجنوبية المتحدثة باسم القضية.
وعلى إثر هذا الواقع، تشتت الرؤى وتبعثرت الأهداف، وابتعدت غايات الكثيرين من القادة الجنوبيين وأتباعهم وانحرفت بهم البوصلة عن المسار الذي كانوا قد بدأوه منذ الوهلة الأولى للحراك الجنوبي السلمي خلال عامي 2006 و2007، غير أن الوضع تغير كليا بعد ذلك، وبات الواقع الجنوبي مجزأً بقواه وكياناته وتياراته المتباينة في مشاريعها ومطالبها حد التناقض.
الأمر الذي أثر على القضية الجنوبية بشكل كبير، رغم مظلوميتها وأحقية ومشروعية مطالبها، غير أن تعدد المشاريع حال دون تحقيق تلك المطالب وتأخر نيلها، كل تلك السنين، بل وانعكس بالسلب على واقع القضية اليوم، في ظل الحرب والأزمة اليمنية الراهنة، التي بدأت تتجه نحو الحل، وسط نظرة دولية غير مستوعبة لمطالب الجنوبيين؛ نتيجة تعدد مشاريعهم ومطالبهم التي لم تجد لها بوتقة موحدة، أو حامل سياسي متوافق عليه من الجميع.
ورغم أن المجلس الانتقالي الجنوبي حاول طيلة سنوات ماضية، بدأت منذ العام 2017، تقديم نفسه مفوضا وممثلا حصريا ووحيدا للقضية الجنوبية، إلا أنه -على ما يبدو- فشل في ذلك، على الأقل على المستوى الدولي، وفي أروقة الأمم المتحدة، وعند مكتب المبعوث الأممي إلى اليمن السيد هانس غروندبرغ، الذي خرج مؤخرا بتصريح نسف كل محاولات الانتقالي حصر القضية الجنوبية في جلبابه دون غيره من المكونات والمجالس الحراكية والجنوبية.
تصريح المبعوث الأممي تضمن الإشارة إلى أن حل القضية الجنوبية سيكون خلال عملية السلام الحالية في اليمن لكنه سيكون (عبر الاستماع لكافة القوى السياسية الجنوبية بكافة تعدد مشاريعها)، مؤكدا في حديثه الأخير لصحيفة الشرق الأوسط اللندنية، على ضرورة التوافق بشأن القضية الجنوبية بشكل سلمي يعتمد على الحوار، في إطار عملية سياسية تشمل (الأصوات الجنوبية على تنوعها)، وتوفر الدعم لجميع اليمنيين للتوصل إلى اتفاق حول مستقبل اليمن بصورة تشاركية.
وحديث غروندبرغ يحمل الكثير من النقاط والجزئيات التي يجب الوقوف عليها مليا، وتحليل جوانبها خاصة مع اقتراب التسوية السياسية، وتعالي أصوات الجنوبيين (الانتقاليين) بضرورة حل القضية الجنوبية حتى قبل التوصل إلى تسوية للأزمة اليمنية والحرب في البلاد، بينما المجتمع الدولي والأممي ينظر إلى القضية الجنوبية نظرة مغايرة تماما، قد لا تبدو جديدة، لكنها بلا شك ستثير الكثير من الجدل.
> ما وراء حديث غروندبرغ؟
الجدل الذي حملته تصريحات غروندبرغ في ثناياها، نابعة من كونها نسفت كافة الجهود والمحاولات التي سعى خلالها المجلس الانتقالي الجنوبي إلى تقديم نفسه كمفوض وممثل حصري ووحيد للقضية، حتى تلك التحركات التي بذل فيها الانتقالي جهدا في دمج واستقطاب المكونات الحراكية والجنوبية وإدخالها في جلبابه، لم تحقق الهدف الذي سعى وراءه الانتقالي.
وما يؤكد ذلك، أن المبعوث الأممي منح بقية المكونات الجنوبية الحق في التعبير عن مشاريعها وتقديمها على طاولة المفاوضات، باعتبارها ندا مقابلا للانتقالي ومشروعه السياسي، وليست تبعا له، وينبغي أن تستمع إليها الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، تماما كما استمعوا للانتقالي ومشروعه، وهذا كله يُثبت أن المجلس الانتقالي ليس الممثل الوحيد للقضية الجنوبية، على الأقل في نظر الخارج.
وهذا ما سيفتح الباب واسعا أمام كافة القوى الجنوبية والحراكية الأخرى التي تمتلك مشاريعها مغايرة لمشروع الانتقالي، لطرح رؤاها واقتراحاتها لمصير القضية الجنوبية، في إطار التسوية السياسية الشاملة للأزمة في اليمن والحرب الدائرة منذ أكثر من تسع سنوات، واللافت أنها ما تبقى من مكونات وقوى جنوبية هي من رفضت الدخول في قوام هيكلة المجلس الانتقالي وظلت متمسكة بكيانها المستقل.
ويبدو أن المجلس الانتقالي أدرك مبكرا أن المجتمع الدولي والأمم المتحدة لم تستسغ فكرة الممثل الوحيد للقضية الجنوبية، وهذا ما يبرر سعيه لضم واستقطاب القوى والتيارات الحراكية والجنوبية المختلفة، تحت مبرر الحوار (الجنوبي الجنوبي)، والذي توج بإعادة هيكلة الانتقالي عبر استيعاب قيادات المكونات التي ارتضت الاندماج في هيئات المجلس الانتقالي العليا ودوائره المتخصصة.
لكن الاستماع لبقية المكونات الجنوبية الأخرى، وليس فقط للانتقالي، له دلالات خطيرة وانعكاسات لن تكون في صالح القضية الجنوبية أبدا، كما يرى مراقبون، أبرز تلك الدلالات أن الرؤى والمشاريع السياسية التي يمتلكها كل طرف تناقض في بعضها البعض، فما يريده الانتقالي الذي يمتلك قوات مسلحة ووحدات أمنية وعسكرية ليس بالضرورة هو ما يريده فصيل حراكي سلمي لم يمتلك يوما جناحا أو ذراعا عسكريا.
كما أن الرؤى في الانفصال أو فك الارتباط أو مشاريع الفيدرالية، أو حتى الحكم الذاتي المحلي في إطار الوحدة، كلها مشاريع مطروحة من قبل القوى الجنوبية والحراكية المختلفة، والتي قال المبعوث الأممي إنه سيستمع إليها، بما فيهم المجلس الانتقالي بطبيعة الحال، ومن هنا تنبع الخطورة في أن كل تلك الفوضى من الرؤى والمشاريع المفككة وغير الموحدة قد تضر بالقضية الجنوبية، لدى العالم والمجتمع الدولي والأمم المتحدة.
> الجنوب على المحك
ما تفتقر إليه القوى الجنوبية، هو الخطاب السياسي الموحد، والناتج عن خلافات وصراعات الماضي القريب، الذي ألقى بظلاله على العلاقة بين الفصائل الحراكية والتيارات الجنوبية ومشاريعها المتعارضة مع بعضها البعض، التي غابت عنها الرؤية السياسية الموحدة، وهو ما تجلى فعليا في رفض نطاق واسع من القوى الجنوبية لفكرة الانتقالي بتقديم نفسه ممثلا حصريا ووحيدا للقضية.
وهذا يقود إلى معضلة كبيرة، حول من سيمثل الجنوب في مفاوضات الحل النهائي للأزمة اليمنية، خاصة في ظل تناقض الرؤى والمشاريع، وهو ما يعني فشل كل تلك القوى عن طرح مشروع موحد، ورؤية سياسية واحدة، ما يعني أن العالم والمجتمع الدولي سيكون حائرا أمام مهمة الاستماع للجنوبيين، فلمن سيستمع، هل للانتقالي، أم لقوى أخرى، قد تكون مشاريعها متباينة تماما مع ما يطرحه المجلس الانتقالي من انفصال أو فك ارتباط، والعودة لوضع ما قبل عام 1990، بين الشمال والجنوب.
وهذا التنازع الجنوبي الجنوبي من المؤكد أنه سينعكس بطبيعة الحال على مصير القضية الجنوبية، التي باتت على المحك، خاصة وأن المجتمع الإقليمي والدولي قد ينظر إلى عدم توافق الجنوبيين بأنه فشل في صياغة رؤية موحدة، وبالتالي فرض مشاريع أخرى قد لا تتناسب وطموحات الجنوبيين، وعندها ستكون المسئولية مناطة بالقوى التي تحملت القضية الجنوبية وتحدثت بها سنين طويلة، سواء الانتقالي أو غيره من القوى.
وأي رفض من قبل الجنوبيين بما قد يفرضه الآخرون عليهم من مشاريع سياسية، سيكون مبررا لاتهام القوى الجنوبية بالسعي لإفشال التسوية السياسية، بالتالي إظهارهم كأعداء للاستقرار والسلام، وكل ذلك بسبب التشتت السياسي وعدم التوافق على كلمة سواء بين أبناء الجنوب.