قراءة في أسباب تأخر صرف المرتبات ومخاطرها على الوضع الاجتماعي والمعيشي..
ما أسباب تأخر صرف المرتبات خلال الأشهر الماضية؟
هل تسببت عملية نقل المرتبات إلى البنوك التجارية بتعطل صرف المرتبات؟
أم أن التأخر مرتبط بالوضع المالي للحكومة اليمنية وإيرادات مؤسسات الدولة؟
ما دور التحالف العربي أخلاقيا وقانونيا تجاه بلد تدخل فيه عسكريا؟
ما المعالجات الحقيقية لتلافي الكارثة المتوقعة جراء عدم صرف المرتبات؟
(عدن الغد) القسم السياسي:
على مدى عقود طويلة، مثلت المرتبات بالنسبة لأهالي مدينة عدن على وجه الخصوص خطا أحمر، لا يمكن التنازل عنه أو المساومة عليه، كما أنه يشكل أساس العيش والمعيشة في المدينة، التي اعتمدت تماما على الراتب الحكومي يساعد على تعزيز أسلوب الحياة المستقر الذي اعتادت عليه هذه المدينة الوادعة، طيلة سنوات ما بعد الاستقلال وحكم نظام الحزب الاشتراكي الذي كرس هذه الثقافة لدى أبناء المدينة.
ثقافة استمرت وانتقلت إلى الأجيال التالية، التي ما زال كثيرا منها متأثر بها حتى اليوم، ويرون أن الراتب القادم من الحكومة -وإن قل- طوق نجاة لمواجهة تقلبات المستقبل المجهول، ويضمن إعاشة تعيل الأبناء وتساندنهم على نوائب الدهر ومصائب الزمن، والغريب أن هناك من يتمسك بهذه العقلية حتى في الوقت الراهن الذي تخلت فيه الدولة عن أبسط التزاماتها ومسئولياتها تجاه المواطنين ورعاياها.
عقلية كهذه، لا تتواجد سوى في عدن، ونسبة كبيرة من المحافظات المحررة، الجنوبية على وجه الخصوص، التي تأثرت بثقافة النظام الاشتراكي المسئول عن كل صغيرة وكبيرة من التزامات الدولة، كصورة أساسية للأيديولوجية الحزبية المتبعة حينها، وظلت تأثيراتها حتى اليوم، ولكن هذه العقلية لا تتواجد لدى أهالي مدينة صنعاء مثلا، أو المناطق الشمالية من اليمن، التي ترى في الراتب الحكومي مجرد معاش ضئيل "زيادة نعمة" لا يُعول عليه كثيرا.
ومن المؤكد أن هذا الفرق بين المحافظات الجنوبية والشمالية هو ما يفسر صمود مواطني وموظفي الدولة في شمال البلاد في وجه العواصف الاقتصادية والمعيشية التي عصفت بهم، بعد أن أوقفت مليشيات الحوثي الإنقلابية ومنعت صرف مرتبات الموظفين التي نهبتها منذ عام 2016 وحتى اليوم، رغم الإيرادات المتدفقة عليها من ميناء الحديدة والجبايات المفروضة على المواطنين.
لكن هذا الصمود لا يتوقع أحد أن يحدث في مدينة مثل عدن أو الحوطة أو حتى زنجبار والمكلا، وجميعها مدن حضرية اعتمدت على ثقافة الدولة وانتظارها في توفير احتياجات ومتطلبات الناس طيلة عقود، وهي ثقافة بدأت حتى قبيل رحيل الاستعمار البريطاني ومؤسسات المشروع الاستعماري المسمى "اتحاد إمارات ومشيخات الجنوب العربي" أواخر خمسينيات القرن الماضي، واستمرت ما بعد ذلك حتى ما بعد تسعينيات القرن الماضي.
وهي فترة كاملة كفيلة بأن يقتنع جيل كامل بهذه العقلية وينقلها لبنيه وأولاده والجيل الحالي، جيل الألفية، الذي للأسف لم تتفتح مداركه الاقتصادية بعد، وما زال متعلقا بمرتبات الدولة ومؤسساتها المدنية والأمنية والعسكرية، التي عززتها ظروف الحرب وانتهاج التحالف سياسة الصرف عبر "الترقيم العسكري" الذي أغرى الشباب من الجيل الجديد وطبعهم بعقلية المرتبات التي درج عليها آباؤهم وأجدادهم من قبل.
> لماذا الحديث عن الرواتب؟
يأتي الحديث عن هذه العقليات والثقافة السائدة، في ظل توقف وتأخر صرف المرتبات لموظفي الدولة المدنيين، ومنتسبي السلكين الأمني والعسكري التابعين للحكومة اليمنية الشرعية في المناطق المحررة من البلاد، واستشراف الوضع إذا ما استمر تأخر المرتبات أو احتمالات توقفها بشكل كامل، وسط الكثير من الأوضاع غير المستقرة للدولة ومؤسساتها.
فقصة الصمود وتوقع إمكانية أن تستوعب هذه المنطقة التي عاشت ثقافة وعقلية الركون إلى الدولة والاعتماد عليها، وأن تتقبل مخاطر توقف المرتبات وتأخرها، كل ذلك غير وارد تماما من هؤلاء الناس الذين عاشوا حياتهم ببساطة وبعفوية، ولم يتوقعوا أن تتغير حياتهم رأسا على عقب، وأن تتخلى الدولة عن تلبية أهم احتياجاتهم وأبرز التزاماتها تجاههم.
القصد هنا عن المرتبات التي بوادر عدم صرفها نهائيا وتوقفها تتزايد مؤخرا؛ بالتوازي مع تأخر وتعثر صرف مرتبات كثير من المرافق الحكومية منذ شهور، بالإضافة إلى مرتبات السلكين الأمني والعسكري، وهو ما يعني كارثة محققة بقطاع واسع من الشعب المعتمد كليا على مرتبات الدولة الشهرية، والذي درج واعتاد على هذه الثقافة منذ عقود، ولا يقوى على التعايش مع وضع تعايش معه منذ سنوات طويلة وباتت نهجا يسير عليه.
بل إن هذا الشعب في المحافظات الجنوبية، سيجد نفسه في حالة عدم صرف المرتبات عاجز عن إيجاد بدائل أو التفكير فيها، حيث اعتاد على الركون لما تقدمه الدولة من معاشات وخدمات، ولم يعتد البحث عنها كل ذلك بنفسه، الأمر الذي يضع هؤلاء الناس أمام مخاطر كارثية، إذا انعدمت المرتبات التي لا تكاد تفي باحتياجات المواطنين أصلا، ناهيك عن توقفها تماما.
لا احد يعرف أو يدرك أسباب التأخير الحاصل في عملية صرف المرتبات، لكن وبكل المقاييس فإن هذا التأخير سينتج عنه مأساة معيشية لا تحمد عقباها، حتى إن كثير خبراء يعتقدون أن هذه المأساة قد تتحول الى "مجاعة"، في ظل تكالب العديد من الأسباب والعوامل التي تتعاضد مع بعضها لتضيّق الخناق على البسطاء من هذا الشعب.
> مأساة صنعاء.. هل تتكرر في عدن؟
تعيش صنعاء وموظفيها حالة متواصلة من انعدام المرتبات منذ عام 2016؛ نتيجة النهب الحوثي بمقدرات الدولة، واستحواذ الطائفة المصطفاة من قيادات الحوثي والبيوت السلالية على أموال وإيرادات الناس بغير وجه حق، بينما لا تسمع أية أصداء حول هذا الخصوص من المواطنين والموظفين؛ وذلك يعود إلى سبب بسيط.
هذا السبب يكمن في أن الناس هناك، وفي الشمال عموما، اعتادوا على تخلي الدولة عن التزاماتها ومسئولياتها تجاه المواطنين، ولم تكن المعاشات والمرتبات هناك تشكل أساس المعيشة لدى غالبية السكان هناك، ولهذا لم تتأثر تلك المناطق بأي توقف للمرتبات طيلة السنوات الماضية، وقد تكون احتجاجات المعلمين الأخيرة نابعة من طول الفترة التي استمرت فيها توقف المرتبات رغم مداومة المعلمين وممارستهم لوظيفتهم في المدارس دون مقابل.
لكن مثل هذا الصمود في الشمال، لا يمكن أن يتوقع أحد أنه سيتكرر في عدن إذا توقف المرتبات لمجرد شهور وليس سنوات كما هو حال المناطق الشمالية، وهذا ما يثير المخاوف من تحول الوضع المعيشي في المناطق المحررة إلى فوضى في ظل انعدام المرتبات، ويتحدث مأساة لن تكون عاقبتها خيرا على المواطنين ممن يكابدون أصلا شظف العيش بمرتبات لا تفي بأساسيات الحياة، فكيف إذا انعدمت تماما.
المخاوف الكبرى تكمن في وضع العسكريين والمنتسبين للوحدات الأمنية التي يتوقع أن يُقدم المتضررون منهم إلى بيع أسلحتهم مثلا حتى يستطيعوا أن يُطعموا أطفالهم، أو أن يسلكوا سلوكيات غير مستصاغة لفرض جبايات أو إتاوات كما يحصل حاليا، بينما لا يملك المدنيين أي خيار أو حلول بديلة لإطعام صغارهم ومن يعولون، وبالتالي فإن المأساة هنا في عدن والجنوب عموما ستكون أكثر فتكا.
> أسباب تأخر صرف المرتبات
ثمة الكثير من المبررات التي تتحدث عن أسباب تأخر صرف المرتبات حتى الآن، لكن أكثرها إثارة للجدل، هي تحميل عملية نقل المرتبات من المرافق العامة إلى البنوك التجارية الخاصة، وهي مخاوف ما يخشاها كثير من منتسبي وموظفي المؤسسات الحكومية، وعلى رأسهم المعلمين الذين خرجوا للتظاهر تحذيرا من هذه الخطوة.
لكن آخرين، يرمون باللائمة على الوضع المالي للحكومة اليمنية الشرعية، التي تأثرت بشكل حاد نتيجة توقف إيرادات تصدير النفط والغاز؛ عقب تهديدات الحوثيين وقصفهم لمنشآت وموانئ تصدير النفط في شبوة وحضرموت؛ منها لتصدير النفط اليمني أو التصرف به، وبالتالي فإن هذا يحول دون توفر إمكانيات وإيرادات تستطيع الدولة من خلالها صرف مرتبات الموظفين الكبيرة أعدادهم.
كل هذه الفوضى تحدث وسط تغييب لدور التحالف العربي الذي تدخل عسكريا في اليمن، وبالتالي فإن أولى مهامه التي تلتصق به أخلاقيا وأدبيا وقانونيا، في ظل عدم إيفاء الأقساط الضئيلة الوديعة البنكية الخليجية بأي من تعهداتها في دعم الوضع الاقتصادي والمعيشي في اليمن وانتشاله من انهياره في هذا البلد الفقير، رغم المسئولية الملقاة على عاتق دول التحالف العربي الغنية.
كما أن كل هذا يحدث، في ظل غياب المعالجات والحلول الناجعة للوضع المعيشي المتدهور، وعجز حكومي عن القيام بأية إصلاحات حقيقة أو تغييرات جذرية في منظومة البنية الوظيفية العليا للدولة، والتي تستهلك وتستنزف ما يتوفر من إمكانيات ضعيفة للانقاق على السفارات والقنصليات والبعثات والشكليات الفارغة لكبار مسئولي الدولة، بالتوازي مع الحالة السيئة لعامة الشعب والسواد الأعظم من المواطنين.