آخر تحديث :السبت-22 فبراير 2025-07:49ص
أدب وثقافة

فقاعات ( أقصوصة،)

الخميس - 22 أغسطس 2024 - 03:11 م بتوقيت عدن
فقاعات ( أقصوصة،)
بقلم / عصام مريسي

يقف إلى جوار شجرة بالقرب من منزله الذي يقع في ناصية الحي المطل على الطريق العام وهو يحمل في يده كوب مملوء برغوة صابون وأنبوب بلاستيكي طرفه في كوب الرغوة والاخر يضعه في فمه نافخا من خلاله انفاسه حتى تتطاير من خلال الكوب فقاعات الصابون الشفافة بالوان براقة زاهية ولامعة فيرى نفسه يجلس في أكبر تلك الفقاعات التي تحمله وتتصاعد به نحو الفضاء فيرى الكون من تحته يتضاءل شيئا فشيئا وهو ينظر بذهول إلى الشجرة التي كان يقف إلى جوارها بجانب بيته كيف صارت نقطة وهمية كلما ارتفعت به الفقاعة صغرت أكثر حتى لم تعد شيء يرى ومن حوله تحلق الفقاعات مختلفة الأحجام وبعضها تنفجر قبل أن يحاول الوصول اليها ويرى من بداخلها وهو ينادي على أشخاص يحملون نفس اسمه بمراحل عمرية متفاوتة بين الصبا والشباب والرجولة والشيخوخة وربما لمح في بعض الفقاعات هيئة تشبه هيئته ملفوفة بالأكفان ويفوح منها رائحة الحنوط التي تذكره بجسد والده الذي ودعه منذ أعوام وسار يحمل جسده على الواح خشبية محدبة والجموع تسير إلى جانبه يتقدمون نحو أسوار المقبرة وهو يصرخ :
تمهلوا دعوني أقبل أبي القبلة الأخيرة
لكن جموع المشيعين لا يستمعون فهم يسيرون كأنهم موجهون لهدف واحد مواراة جسد الشيخ الذي مات ولم يخلف إلا غلام صغير حتى يتقاسمون تركته قبل بلوغ الصبي وسؤاله عن حقوقه التي خلفها والده.
يسقط الصبي منهك من شدة الركض لجموع المشيعين فيجثي على ركبتيه والجموع تحث الخطى حتى تلاشوا من أمام ناظريه وبدا الطريق الترابي خال من المارة ليس سوى الغبار المتصاعد يحجب الرؤية حتى لم يعد يرى شيئا.
تقترب من الفقاعة التي يقف بداخلها فقاعة أكبر يدقق على من يقف بداخلها شخص يشبه بل هو هو بكل ملامحه غير أن علامات الشباب قد بدت عليها والبلوغ فقد خط الشارب أعلى شفتيه وشعيرات تبرز في وجنتيه وهو يصرخ يناديه:
ايها الشاب هل تسمعني.فأنا أعرفك
لكن الشاب في الفقاعة الأخرى لم يكن سوى خيال ووهم
مازال الصبي ينادي عليه :
هل اوقفت الفقاعة التي تحملك
يحاول نفخ الفقاعة التي تحمله ويدفعها نحو الفقاعة التي تقل الشاب وكلما اقترب مد كلتا يديها ليمسك بالفقاعة الأخرى وكلما اقتربت يداه نحوها انفجرت الفقاعة وتلاشى كل ما بداخلها ولم يعد للشاب وجود.
يقلب بصره من حوله ونحو الأفق تلوح فقاعة كبيرة تحمل رجل مسن يشبهه في كل الملامح سوى التجاعيد التي قد خطت وجهه والشعر الأبيض الذي تظهر خصلاته من تحت عمامته وهو في قرارة نفسه يسأل هل هذا جدي فينادي باعلى صوته:
جدي.. جدي انتظر أنا قادم إليك
فقاعة الشيخ العجوز تسير ببطئ شديد اقترب الصبي منها وهو يناديه:
جدي لقد مات أبي ولم استطع تقبيله القبلة الأخيرة.
يقترب من الفقاعة يمد نحوها كلتا يديه تنفجر الفقاعة العجوز ويتلاشى من كان بداخلها.
تصعد الفقاعة التي يسترخي الصبي بداخلها نحو الفضاء ومن حوله الفقاعات تتلاشى شيئا فشيئا فلم يعد في الفضاء يحلق سواه يشعر بالوحدة والغربة وأخذ جسمه يرتعد من البرد فكلما ارتفعت الفقاعة انخفضت درجة الحرارة فأخذ ينظر حوله قد يجد رداء يتغطى به يقلب يديه في كل الاتجاهات حتى ترتطم بحواف الفقاعة التي يسترخي بداخلها فتنفجر ويقع على الأرض فيسقط كوب الصابون ويسيل السائل الذي بداخلها ولم يعد يلمس في كفيه سوى لزوجة الصابون وقد تبددت كل أحلامه في القاء نظرة في وجه أبيه قبل أن يدفن.
بقدمه يضع التراب على سائل الصابون الذي اختلط على الأرض ويجلس على الصخرة تحت الشجرة بجانب بيته والوحدة والغربة رفيقتيه حتى في داره.
عصام مريسي