أثار قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إغلاق «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» نقاشاً داخل العديد من الدوائر الأميركية حول تأثير إغلاق المشاريع التي تديرها الوكالة في العالم، خصوصاً لدى حلفاء واشنطن، والذين سارع كثيرون منهم إلى البحث عن بدائل.
ولعلّ أول المبادرين إلى مناقشة تداعيات القرار المذكور، كان البرلمان البريطاني، وبالتحديد لجنة التنمية الدولية في البرلمان والتي بدأت تقيّم «تداعيات توقّف التمويل الأميركي»، وإن كان من المبكر الخروج بتقييم نهائي، بالنظر إلى أن هناك الكثير من الأمور غير الواضحة بشأن ما سيتم تجميده على وجه التحديد.
وكما هو الحال في القضايا الأخرى، يبقى الاستثمار في المواقف في إطار الصراع الداخلي، المحرّك الرئيسي لصاحب القرار البريطاني، إذ اغتنمت الحكومة العمالية البريطانية الفرصة للتصويب على خصومها في الداخل لجهة ممارستهم الأسلوب نفسه، حين قرّر رئيس الوزراء المحافظ آنذاك، بوريس جونسون، خفض ميزانية المساعدات الخارجية البريطانية عام 2021، متذرّعاً بالتحديات الاقتصادية لجائحة «كوفيد».
واعترفت الحكومة أمام البرلمانيين بأن قرارات تخفيض تمويل التنمية الخارجية في ظل الحكومات السابقة، أدّت إلى آثار كارثية ومدمّرة وإلى فترة فوضوية. وقالت وزيرة التنمية الدولية، أناليز دودز، إن «خفض الحكومة المحافظة السابقة مساعدات التنمية الخارجية بنحو 4 مليارات جنيه إسترليني (5 مليارات دولار) عام 2021، كان له تأثير شديد على المشاريع، وخاصة في الشرق الأوسط وأفريقيا».
على أن الأهم في اجتماع اللجنة كان الاعتراف بأن الحكومة البريطانية ارتكبت أخطاء أدّت إلى «سحب الطعام من طبق» الأطفال في اليمن، عندما واجهت البلاد مجاعة. وقالت دودز: «كان لهذا تأثير مباشر على هذا البرنامج، ونحن عازمون على عدم رؤية العودة إلى هذه الفوضى، واتّباع نهج أطول أمداً».
وأقرّت بأن «أكثر من 90 ألف طفل ماتوا جوعاً في اليمن، في أزمة إنسانية أثّرت على 80% من سكان البلاد البالغ عددهم 24 مليون نسمة». والواقع أن اللجنة الرباعية، وبريطانيا عضو فيها إلى جانب أميركا والسعودية والإمارات، هي المسؤولة عن إعداد السياسات والإجراءات الاقتصادية في اليمن، ومن ضمنها الحصار والتجويع لإجبار هذا البلد على الخضوع والاستسلام خلال العدوان الذي استمر ثماني سنوات.
غير أن الحقيقة الكاملة للدور البريطاني في اليمن، تبقى طي الكتمان، ولا تخضع للمناقشة في جلسات البرلمان أو غيره من المؤسسات بشكل علني، إذ إن المشاركة في العدوان لا تقتصر على حكومات حزب المحافظين، بل إن حكومة حزب العمال الحالية انخرطت في الصراع بشكل مباشر أثناء المساندة اليمنية لقطاع غزة، حيث كانت بريطانيا الدولة الوحيدة التي ساندت الولايات المتحدة في قصف الأراضي اليمنية.
وعليه، لا يمكن وضع الاعتراف البريطاني بالتسبّب في مجاعة اليمن سوى في إطار المماحكات الداخلية؛ ولو صدقت نوايا المسؤولين البريطانيين أو كانت تلك الاعترافات عائدة إلى صحوة ضمير، فإن ذلك يفرض على المسؤولين البريطانيين الاعتذار إلى الشعب اليمني عن التدخّل في شؤونه والمشاركة في العدوان، فضلاً عن وجود لندن الاستخباراتي في بلاده، وخصوصاً في الغيضة، مركز محافظة المهرة، حيث تقوم بدور تخريبي.
وكانت الكثير من الخلايا المشغّلة بريطانياً اكتُشفت، والتي أنيط بها دور تقويض السلم الأهلي في اليمن، فيما دأبت وسائل الإعلام الغربية، ومنها وسائل إعلام بريطانية، على الحديث عن سياسة لندن المبنية على النفاق، واستغلالها المخزي للحرب، في إشارة إلى تزويدها الرياض بأسلحة متطوّرة، ومنها قذائف محرّمة دولياً، وتوفيرها الغطاء السياسي للنظام السعودي في المحافل الدولية والمؤسسات الإنسانية والحقوقية، بالتعاون مع الإدارة الأميركية.
وهكذا، أعادت الكارثة الإنسانية في اليمن فرض نفسها على افتتاحيات الصحف البريطانية وتعليقات أبرز كتّابها، لكنها لم تصل إلى بلورة رأي عام معارض ومحتجّ على تواطؤ لندن مع الرياض. كما أن تأثير التغطية الإعلامية المعارضة للتواطؤ البريطاني، على أهميته، لم يشكّل حتى عنصراً يجبر الحكومة على التحوّل أو حتى الوقوف على الحياد.
وسبق أن حاولت حكومات المحافظين المتعاقبة التحلّل من تأثير الضغوط الناتجة من هول الكارثة الإنسانية في اليمن، بزعم فصل المسارات السياسي والعسكري والإنساني، مؤيّدة في الأوّلَين النظام السعودي بالمطلق من دون أي قيود، وواضعة كل إمكاناتها في خدمة المملكة، بما شمل إرسال المئات من الخبراء والفنيين البريطانيين، وكذلك صفقات السلاح والذخيرة التي زادت بنسبة 500% منذ بداية الحرب على اليمن، وتزويد الرياض بقنابل محرّمة دولياً تم العثور عليها في أماكن القصف، بما ينتهك القانون الدولي، وفق صحيفة «إندبندنت».