تقرير : هبة عادل
في مثل هذا الوقت من كل عام، كانت شوارع عدن تزدهر بالحياة، والأسواق تضج بالحركة، والمحال التجارية تغص بالمتسوقين الذين يحملون الأكياس المليئة بالمؤن الرمضانية، والابتسامات المعلقة على الوجوه كأنها جزء من زينة الشهر الكريم.
أما اليوم، فالصورة مختلفة حد الألم.
تسير في أسواق عدن فلا ترى إلا متاجر فارغة من المشترين، وباعة ينظرون إلى المارة بعيون يائسة، ينتظرون زبونًا قد لا يأتي.
الرفوف الممتلئة بالبضائع لم تعد تغري أحدًا، فالأعين تراقب الأسعار بتوجس، والأيادي تمتد مترددة، ثم تعود خاوية، كأن الحلم بالتسوق نفسه أصبح رفاهية لا يملكها الجميع.
أين اختفى المتسوقون هذا العام؟
في الحقيقة، لم يختفِ الناس، بل اختفت قدرتهم على الشراء، اختفى المال من جيوبهم، وذهبت الفرحة مع الريال الذي فقد قيمته، مع المرتب الذي لم يعد يكفي لشيء، ومع الغلاء الذي ارتفع فوق أعناقهم كالسيف.
قبل أسابيع من رمضان، كان اليمنيون فيما مضى يستعدون للشهر الفضيل كأنه عيد، يشترون التمور، والمكسرات، والعصائر، والمونة التي تملأ المطابخ، والأطفال يفرحون بالحلوى والفوانيس.
أما الآن، فالناس يمرون من أمام المحال كالعابرين، يلقون نظرات حسرة على أسعار لم تعد لهم، وأحلام لم يعد بمقدورهم تحقيقها.
وقال مواطنون لصحيفة “عدن الغد” إن الأسواق هذا العام لم تعد كما كانت، فالحركة التجارية شبه متوقفة، والمحال التجارية تفتح أبوابها صباحًا لكنها تغلق على كسادٍ وخسائر، مشيرين إلى أن أوضاع الناس لم تعد تحتمل، والغالبية باتوا عاجزين عن شراء حتى أساسيات رمضان.
في سوق الخضار، يقف أبو أحمد، وهو موظف حكومي، يحدق في كيس من الطماطم، يقلبه في يديه، ثم يعيده مكانه متنهّدًا: “لم يعد رمضان كما كان.. كنا نشتري ما نريد دون تفكير، أما اليوم فنحسب لكل قرش ألف حساب.”
وعلى طاولة صغيرة في أحد الأسواق، تجلس أم هاشم، تبيع بعض الحلويات الرمضانية التي كانت تشتريها فيما مضى لأولادها، تقول بصوت متعب: “اليوم أبيع ما كنت أشتريه.. حتى الفوانيس التي كانت تضيء بيتنا، أصبحت مجرد ذكرى.”
أما الباعة، فهم أكثر من يشعر بغياب الزبائن، يطيلون النظر في الشوارع التي كانت تضيق بالمتسوقين، فيردد الحاج عبد الله، وهو صاحب محل للتمور، بصوت يملؤه الحزن: “الناس لم تعد تسأل عن الأنواع الجيدة، لم تعد تشتري بالكيلوات، صارت تشتري بالحبة، بالكاد يشترون ما يسد جوعهم.”
وقال أحد أصحاب المحلات التجارية في الشيخ عثمان لصحيفة “عدن الغد”: “هذا أسوأ موسم مررنا به منذ سنوات، المواطنون لم يعودوا قادرين على الشراء، والتجار يخسرون كل يوم، الوضع صعب على الجميع.”
وفي المساء، عندما تُطفأ أنوار الأسواق، يعود أصحاب المحلات إلى منازلهم بخفي حنين، وبأرباح لم تعد تكفي حتى لإيجار محلاتهم، يعود المواطنون بحسرتهم، وبقائمة من الاحتياجات التي ستبقى مؤجلة إلى أجل غير معلوم.
كان الناس في رمضان يفكرون في الصدقات، في إطعام الفقراء، في موائد الإفطار الجماعية، أما اليوم، فالكثيرون أصبحوا فقراء، أصبحوا هم من ينتظر الصدقات، وأصبحت موائد الإفطار نفسها مهددة بالنقص، والفرحة مهددة بالغياب.
رمضان قادم، لكن أي رمضان سيكون؟ هل سيكون رمضان الدعوات المعلقة في السماء بأن تتحسن الأوضاع؟ رمضان الصبر على الجوع؟ رمضان الأمل الذي لم ينطفئ رغم كل شيء؟
وقال أحد المواطنين في كريتر لصحيفة “عدن الغد”: “في السنوات الماضية كنا نقول إن الوضع سيئ، لكنه اليوم أصبح كارثيًا، لم يعد بإمكان الناس شراء ما يحتاجونه، والحياة أصبحت أصعب من أي وقت مضى.”
في الأسواق الخالية، وعلى الطرقات، وفي العيون المعلقة باللافتات التي تعرض أسعارًا لم تعد معقولة، لا شيء سوى حكاية طويلة عن الفقر الذي ينهش هذه المدينة، عن الفرح الذي أصبح نادرًا، وعن الناس الذين لم يختفوا، لكن قدرتهم على العيش الكريم هي التي تلاشت شيئًا فشيئًا.
ورغم ذلك، ستبقى الشموع تُضاء في بعض البيوت، وسيظل البعض يحاولون أن يسرقوا من الفقر لحظة فرح، وسيبقى رمضان، وإن كان مثقلًا بالحزن، شهرًا ترفع فيه القلوب دعواتها الأخيرة.. لعلّ الأوضاع تتحسن، لعلّ الأسواق تعود للحياة، ولعلّ الناس يعودون كما كانوا، لا يخافون الغد، ولا يحملون همَّ الرغيف.