آخر تحديث :الثلاثاء-11 فبراير 2025-05:32م

العطار الخليجي والمقامر الحوثي

الخميس - 12 مارس 2015 - الساعة 10:05 ص
فؤاد مطر

بقلم: فؤاد مطر
- ارشيف الكاتب


الذي حصل للرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي يشكل فصلا مثيرا في كتاب «التعجيز اليمني»، إلا أنه الفصل الأكثر إثارة حتى كتابة هذه المقالة (يوم الأحد 8 مارس/ آذار 2015) في ظاهرة تهريبات على مستوى أهل القمة الرئاسية أو الحزبية في العالم العربي.
على الرغم من أن الرئيس عبد ربه هادي استقال، ليس كرها بمنصب رئيس البلاد، وإنما ضيقا به، فإن الطرف اليمني المستقوي بالنظام الإيراني والمعروف بـ«الحوثيين» حولوا الرئيس إلى سجين، وغرضهم من ذلك استكمال خارطة طريقهم الوعرة بحيث تكتسب الاستقالة الصفة الدستورية، وذلك بتصديق البرلمان اليمني عليها. ولكن هذا البرلمان بعد الموقف الخليجي القوي والموقف الدولي الرافض للفعل الحوثي ازداد تماسكا، فلم يحقق للحوثيين ما انتظروه. ثم يأتي النبأ الصاعق لهم يعكر نشوتهم واقتناعهم بأن اليمن على مقربة من الاستسلام للقبضة الحوثية، ويتمثل في أن سجين القصر بات في ديار بني قومه في عدن، وأنه سيدلي ببيان.
أما كيف أفلتوا (بصيغة المجهول وربما المعلوم) الرئيس السجين من الأسر، وأوصلوه إلى عدن، فتلك واقعة تهريب ربما تتفوق على سائر التهريبات، بما في ذلك أحدثها، تهريب وزير الدفاع اللواء محمد أحمد سالم الصبيحي الذي كان أسير الحوثيين وإحدى الأوراق الثمينة في قبضتهم، إلا أن نجاح خطة تهريب الرئيس هادي جعلته يخطط للفرار من تلك القبضة، وقد نجح في ذلك، وضمن عملية تصلح، كما عملية فرار الرئيس هادي، مادة لفيلم سينمائي مشوق.
وصول الرئيس عبد ربه هادي إلى عدن، لم يقتصر على الفكاك من الأسر، وإنما تنشّق الرئيس نسائم الحرية التي أنعشت مسألة الشرعية، فطوى قرار الاستقالة من دون إعلان ذلك، وخاطب المنقلبين والقالبين وأولئك الذين لم يتخذوا الموقف الحاسم، بمعنى أنهم لا يريدون فوزا بفعل الأمر الواقع للحوثيين، إلا أنهم في الوقت نفسه باتوا أكثر اقتناعا بأن رئيسهم عبد ربه منصور هادي قاد الأزمة التي عصفت بالبلاد بأسلوب الربان المتمكن من قيادة زورق في بحر ساكن، في حين أن البلاد باتت على شفير الغرق في بحر الظلمات، ولا ينجيها من الغرق سوى الربان الذي يتقن التعامل مع أعتى الأمواج، مهما ارتفعت وأحدثت من شعور بنهاية مأساوية.
أول الكلام كان التمسك بـ«المبادرة الخليجية»، التي رمت إيران بـ«ثقلها الحوثي»، لحذف هذه المبادرة الكفيلة بإنقاذ اليمن من غوائل الساعين إلى تحويله إلى «لبنان آخر» أو «سوريا أخرى» أو «عراق آخر». وعندما يتمسك عبد ربه منصور هادي بـ«المبادرة الخليجية» فإنه يضمن المساندة القوية له، وبهؤلاء المساندين قادة دول مجلس التعاون يزداد المجتمع الدولي إصرارا على عدم تحويل اليمن إلى حديقة خلفية مقلقة لمصالح دول العالم إبحارا ونفطا.
بالإضافة إلى التمسك بـ«المبادرة الخليجية»، كانت هنالك الدعوة إلى انعقاد اجتماع للهيئة الوطنية للحوار في عدن أو تعز حتى خروج الميليشيات المسلحة من صنعاء، ورَفْع الإقامة الجبرية عن رئيس الوزراء وكل رجالات الدولة المختطفين، واعتبار الخطوات والتعيينات التي اتخذَتْها جماعة الحوثيين منذ 21 سبتمبر (أيلول) 2014 باطلة ولا شرعية لها.
عمليا، يبدو كلام الرئيس عبد ربه منصور هادي كما لو أنه «البيان رقم 1»، الذي يصدر عن عملية انقلابية حدثت وتتطلع إلى رضا المجتمع الدولي عنها. أما بالنسبة إليه، فإن الرضا المنشود كان جاهزا، وفقط ينتظر الرمز الذي يمكن الالتفاف حوله. والدليل على ذلك أن المغادرة الدبلوماسية العربية والأجنبية من اليمن كانت إلى حين. وجاء تهريب الرئيس عبد ربه منصور هادي من الأسر داخل القصر يضفي توضيحا لهذا الأمر. ولقد جاء رد الفعل يتمثل في نهب القصر ومنازل بعض المسؤولين الجنوبيين. إذا إنها غزوة حوثية، وليست فقط انقلابا.
وأما الذي حصل لغير الرئيس عبد ربه منصور هادي، فكان عندما نجحت مهمة بعثة القمة العربية الطارئة في القاهرة (أواخر سبتمبر/ أيلول 1970) لمعالجة النزاع المستفحل بين الملك حسين والمقاومة الفلسطينية. ولقد ارتأت القمة بعد التشاور أنه ما دام الحاضرون ليسوا طرفا في الأزمة، فإنه لا بد من إحضار طرفي الأزمة إلى المشاركة في القمة. وتم التوافق على إيفاد بعثة إلى عمان ترأسها الرئيس السوداني جعفر نميري، وضمت الدكتور رشاد فرعون، بتكليف من الملك فيصل والشيخ سعد العبد الله السالم الصباح والباهي الأدغم. وكان هنالك حرص على توليفة ثورية ومحافظة، وبذلك يطمئن الملك حسين. وفي عمان، طرح الرئيس نميري نيابة عن القادة المشاركين في القمة أسماء القيادات الفلسطينية التي من الضروري حضورها اجتماع القمة، لكن الملك اعترض على بعض الأسماء، وانتهى الأمر على نحو ما قاله لنا الرئيس نميري: «إن الذي مانع الملك حسين في أن نصطحبهم اصطحبناهم بطريقتنا الخاصة...». وكانت الطريقة الخاصة إلباس هؤلاء ثوب امرأة، وقيل عباءة سعودية وكوفية. وبوصولهم، ثم حضور الملك حسين، نجحت القمة.
التهريب المماثل من حيث الأهمية والتعقيدات كان تهريب عبد الحميد السراج الرمز القوي لعبد الناصر في سوريا في زمن الوحدة التي أنهاها الانفصال السوري بعد سنتين. ولقد تم تهريب السراج من سجنه الدمشقي عن طريق لبنان، وبموجب خطة محكمة شارك فيها النظام المصري برئاسة عبد الناصر، والنظام اللبناني برئاسة فؤاد شهاب.
بعد أكثر من نصف قرن تأتي العملية المخابراتية السعودية النوعية التي نجحت في تهريب الدبلوماسي السعودي عبد الله الخالدي المخطوف من أمام منزله في عدن، من قبل تنظيم «القاعدة» في اليمن يوم 28 مارس 2012. وإيصاله إلى الرياض يوم الاثنين 2 مارس 2015، تماثل عملية تهريب عبد الحميد السراج من حيث الدقة والأهمية وبراعة التمويه.
ظاهرة التهريبات لن تتوقف. ولن تقتصر على الذين في القمة، ذلك أن على السفح لوائح بأسماء كثيرين برسم التهريب للإنقاذ أو للتصفية. يا لسوء حظ هذه الأمة، ويا لقتامة أحوال أجيال تلو أجيال! وأما الرئيس عبد ربه منصور هادي، الذي انضمت روسيا إلى الدول النابذة للفعل الحوثي المقامر - المغامر، وذلك باعترافها بشرعيته وإقرارها ضمنا بتوصيفه لصنعاء بأنها «عاصمة محتلة»، فالخشية عليه واردة من تهريبة معاكسة يتولاها حوثيون يخطفونه من عدن بغرض الانتقام من الذي جرى، وإضافة سطور إلى الفصل المثير من كتاب «التعجيز اليمني» بحيث يصبح موسوعة. لكن ذلك لا يبدو بالأمر السهل، بعدما بات أمر الحوار اليمني في عهدة المملكة العربية السعودية، التي (وبمؤازرة دول مجلس التعاون الخليجي) تريد خيرا لليمن واستقرارا للخمسة والعشرين مليون يمني، فلا يعود أكثر من نصفهم يعانون من الفقر، ولا يعود يعاني نحو 10 ملايين من سوء التغذية، ولا تعود البطالة على النسبة التي هي عليها، أي نحو 35 في المائة. وبهذا يصبح جائزا التوقع بأن العطار الخليجي سيصلح في الرياض ما أفسده المقامر - المغامر الحوثي في صنعاء.
رحمة الله على جيل الحكماء الذين نفتقدهم في هذه الليلة اليمنية الظلماء التي أطفأ الحوثيون وحليفهم ومرشدهم الإيراني الكثير من مصابيح كانت ستضيء تلك الليلة، وبورك سعي الملك سلمان بن عبد العزيز من أجل وَضْع اليمن شمالا وجنوبا على سكة السلامة والوفاق لما فيه الخير للجميع.