كُتبت هذه المقالة بتاريخ 23/4/2004م , ولم تحض حينها بحق النشر في أغلب الصحف المحلية نتيجة للوضع السياسي في البلد, بعض الصحف طلبت التدخل بإعادة صياغتها وتعديل بعض ما جاء في فقراتها لكي يسمح بنشرها...وأبيت إلاَ أن تكون بكامل قوامها وتناسقها وترتيب أفكارها...وتُركت مهملة بين الأوراق المتراكمة في ارشفي الخاص حتى يومنا هذا .....
يعتقد البعض أن صنع الحضارات ورقي الأمم يقوم على أساس تميز جنس على آخر, وهو تشويه وتزييف لحقيقة بناء التاريخ. وقد توصل علماء التاريخ إلى هذه النتيجة بعد جهد وعناء, في حين نحن معشر المسلمين نجد هذا الاستنتاج ذكر في آية واحدة من آيات القرآن الكريم, الآية الثالثة عشر من سورة الحجرات.
ونشأ عن القول بتفاضل الأجناس وتميز بعضها دون بعض بالذكاء والكفاءة والقدرة, وارتباط تلك الأجناس بمواقع القوة والسلطة, وتهميش من سواهم وحرمانهم من المشاركة الفعالة في بناء المجتمعات والحضارات, أدى كل ذلك إلى مشاكل ومآسي كبيرة أغرقت البشرية في مستنقعات من الدماء وتصرفات حمقاء غير معقولة وحروب طويلة مدمرة لا نهاية لها.
فاليونان باعتقادهم أنهم أذكى شعوب الأرض وأقربها إلى الكمال واختصاص أنفسهم بكل فضيلة...قضوا على أنفسهم بهذا الموقف بعد انتصاراتهم الكبيرة في أغلب المعارك التي خاضوها مع أعدائهم, وركبهم الغرور وصنفوا أنفسهم أسياد واستكثروا من العبيد وانصرف قادتهم إلى العبث بأموال الدولة والاستمتاع بملذات الحياة, فكانت بداية انهيار دولتهم ...وجرهم ذلك إلى التمزق في حروب يسفك بعضهم دماء بعض, فوهن أمرهم وأنقض عليهم المقدونيون وأزالوا دولتهم.
وهكذا العرب في الجاهلية, كانوا يرون أنفسهم أرفع الناس قدرا وأشرفهم منزلة, بل أن بني تميم اعتقدوا أن الله لم يخلق من البشر أذكى ولا أشعر ولا أشجع منهم, حتى جاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ليرفع الغشاوة عن أعينهم ليروا حقيقة أمرهم, حيث قال "لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى".
حينها اجتمع عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) نفر يمثلون معظم الأجناس والتقاليد الحضارية القديمة, فكان خباب ابن الأرت وأصله من العراق ويمثل حضارة ما بين النهرين, صهيب الرومي (الحضارة البيزنطية) , سلمان الفارسي (حضارة الفرس) و ماريا القبطية (حضارة مصر).
نخلص من هذا القول أن بناء الدول والحضارات يقوم على انفتاحها لكافة العقول وما يكمن في داخلها من طاقات وإمكانيات واستثمار قدراتها دون النظر إلى انتمائها وجنسها, والابتعاد عن العصبية الضيقة المدمرة. ثم إذا تتبعنا مسيرة الحضارة الإسلامية وانهيارها نجد أن هنالك أسباب عدة أدت إلى ما نحن عليه اليوم, منها جمود النظم السياسية التي سارت عليها تلك الأنظمة, ابتداء من حكم البويهيين في منتصف القرن الرابع الهجري حيث توقف التقدم الحضاري المادي أولا ثم المعنوي بعد ذلك, وتحولت هذه النظم إلى أداة لجمع المال دون تقديم خدمات مقابل المال المجموع. وفي العادة يجمع هذا المال من الفئات العاملة "زراع , صناع وتجار". وكلما تقدم الزمن زاد العبء الملقى على عواتق الناس, ليصل الأمر إلى درجة يصبح العمل مضرة لأهله, وهدف للجباية والإتاوات والضرائب.
هنا يهجر المزارع أرضه ويغلق الصانع معمله ويقلص التاجر بضاعته, وهذا ما نسميه اليوم بمصطلح "الفساد المالي والإداري". ولا غرابة والحالة هذه أن نجد بغداد القرن العاشر الهجري تموج موجا بالآلاف من العاطلين واللصوص والشطار والعيارين والحرافيش, هؤلاء جميعا ناس هجروا مزارعهم في الريف وانتقلوا إلى المدن نتيجة للركود الاقتصادي وهروبا من سوط الضرائب. أما التجار الصغار فقد أرهقهم نظام الجباية واتجهوا إلى أساليب التهريب.
يؤدي هذا الانهيار الاقتصادي والاجتماعي إلى التدهور المعنوي, واتساع رقعة الفساد وانتشار المفاهيم اللاأخلاقية المنحطة وانحلال وتفسخ القيم الدينية السامية وانهيارها تحت ضربات الاحتياجات الإنسانية الملحة ومقتضيات الحياة الضرورية.
إن سيطرة فئة قليلة جدا من أفراد المجتمع على ثروات الأمة وتوزيعها توزيع غير عادل بما يخدم مصالحها ودوام بقائها إنما هو الإسفين الذي يشق ترابط كيانها ويزعزع مكامن قوتها ويعجل بنزع ملكها وسقوط نظامها وزوال كيانها.
هذه الجماعة تصل إلى مستوى الغنى المفرط الذي يؤدي إلى الفساد في أغلب الأحوال مما يسرع في خلخلة مكوناتها وخلق نزاعات بين أفرادها لتقاسم المزيد من ثروة الأمة والصراع على السلطة والنفوذ, كل ذلك ينتج عنه في نهاية المطاف تشكيل تكتلات متناحرة تضعف سلطتهم وتمهد للفوضى والمزيد من الفرقة والتشرذم.
إن تقسيم المجتمع الحضاري إلى طبقات وفئات متماسكة لا يتأتى إلا بنظام العدل الاجتماعي, وهذا لا يعني تساوي تلك الطبقات بمفهوم توزيع الثروة, بل بمقدار ما تنتجه كل طبقة من عمل يوازي مردودها المادي, فالدولة مهما بلغت ثروتها فلن يصل الأمر قط إلى أن يصبح كل أفراد المجتمع أثرياء, فالغنى يقتصر في العادة على قلة, والغالب أن يبقى السواد الأعظم من الشعب مياسير في عيشهم.
من المتعارف عليه أن الحضارة هي ثمرة أي مجهود إنساني لتحسين ظروف الحياة ماديا ومعنويا وروحيا, ومن الواضح أن التحسن المعنوي مقدم على التحسن المادي, وغاية الإنسان هو الشعور بالأمن والأمان والاطمئنان والكفاية, وقيام المجتمع على التفاهم والتعاون والالتزام بالقوانين والتشريعات وعدم تنفيذها على المستضعفين من العامة فقط , وما يخالف ذلك يدفع إلى التنافر والتحايل على النظام العام للدولة ونهب ثرواتها والعبث بمقدراتها.
والأمان يشمل الأمن على النفس والمال والأهل والوطن, أما الاطمئنان فهو شعور داخلي لدى كافة الكائنات بالابتعاد عن الأخطار و الآلام , لذلك اطمئنان الأمة على حاضرها وضمان مستقبل أجيالها هو قمة الشعور بالاستقرار, أما الكفاية هو الشعور الأدنى للإنسان أن لديه ما يكفيه من احتياجات مادية ومعنوية لاستمرار الحياة اليومية.
إن الوعي الحضاري لأي أمة يستوجب منها اختيار قيادة واعية ملتزمة بحقوق كافة أبناء الشعب وتحقيق طموحاته المستقبلية في بناء دولة قائمة على مبدأ العدل والمساواة وفقا للنظام والقانون وفي إطار الدستور العام للبلاد وعدم خلق كيانات متنفذة تضر بمصالحها وتمزق نسيجها الاجتماعي.
لا يعرف التاريخ نظاما يتسم بنسق حضاري أو إنساني ما لم تكن هنالك صفوة مختارة تنهض بأمتها, ولفظ مختارة لا يحمل أي معنى من معاني التمايز بين أفراد المجتمع أو تفاضلهم بسبب مكانتهم الاجتماعية أو انتمائهم الطبقي أو نسبهم العرقي أو مذهبهم الفكري والعقائدي. بل تعني صفوتها المختارة من أوساط الشعب بطريقة ديمقراطية ونزيهة, تتحمل مسؤوليتها في قيادة الدولة, توجه وتبتكر وتبني وتحسب حساب الحاضر والمستقبل وتتعظ من أخطاء الماضي, وتؤدي وظيفتها لزمن محدد وفقا للنظام والقانون. ففي عصور النهوض والتقدم والازدهار يكون العبء الملقى على كاهل هذه الصفوة باهظا والشعور به هما.
ولا تزال الأمة بخير ما دامت صفوتها القائدة تشعر بثقل التكليف وتتحمل أعباءه وضنكه, فإذا تحولت هذه الصفوة القائدة إلى فئة متميزة عن غيرها من فئات الشعب, قيادة غير واعية تسخر الشعب لمصالحها الذاتية وتنفرد بالمكاسب دونهم ولا تتحمل الأعباء الملقاة على عاتقها...كان ذلك دليلا واضح على فقدانها أهليتها في تحمل المسؤولية, وتتحول هذه الصفوة إلى مصدر للأذى والتأخر والفساد.
وهنا تجد الأمة نفسها أمام خيارين لا ثالث لهما :
أولاً:
أن يكون لديها القدر الكافي من الوعي والإرادة والقوة والتوحد لإقصاء هذه الفئة الفاسدة عن مراكزها وحرمانها من امتيازاتها التي اكتسبتها بطريقة غير مشروعة, ومنعها من التوغل والعبث بمقدرات البلد وإهدار ثرواته والتفريط بسيادته وتمزيق نسيجه الاجتماعي.
ثانياً :
أن تكون متشرذمة منقسمة إلى طوائف وجماعات مناطقية متفككة لا يحكمها القانون ولا تمتلك الوعي الحضاري لبناء الدولة, حينها تصبح الأمة ضحية لجهلها وقلة وعيها, فتجرها القوى الفاسدة إلى التدهور والانحطاط والتناحر في دوامة صراع أبدي لا فكاك منه.
ليس من الضروري أن تكون الصفوة الحاكمة أو القائدة متميزة بذكاء خارق يفوق ذكاء الآخرين من أبناء الشعب...فالتاريخ يخبرنا أن من قادوا الأمم والشعوب في نهضاتها الأولى وأسسوا دول قوية, كانوا على درجة متوسطة من الذكاء...ولكنهم يمتازون بالحكمة ويتمتعون برؤية متطلعة للمستقبل...ويمتلكون إحساس قلق للوصول دوما إلى أهداف بعيدة لا يراها غيرهم لصالح أمتهم ودولتهم.
نتيجة لهذا الشعور العميق بحجم وثقل المسؤولية تظل هذه الصفوة في حالة تعب وجهد دائمين, في حين ينعم الآخرون من أبناء الوطن بسلام وأمان ورخاء العيش.
إن البلاء يأتي عندما تصاب هذه الصفوة القائدة بالفساد, ويقع الشقاق بين أفرادها, فتختلف كلمتها وتعجز عن القيادة. فإذا دب الخلاف وقعت الخصومات, تتبعها النزاعات الدامية, فتضيع هيبة الدولة وتنهار قوتها, وتفقد الصفوة دورها القيادي وأذنت بزوال سلطتها.
إن أي أمة من الأمم لا تزال بخير مادامت صفوتها القائدة بعيدة عن الفساد... والضرر يأتي عندما يتلاشى طموح هذه الصفوة نحو الرقي والتقدم وتتخلى عن مسؤوليتها التي جاءت من أجلها وتتفرغ للمطامع المادية الذاتية وتحرص على الاستمتاع بالمراكز والمكانة الرفيعة وتتنافس على المكاسب الغير مشروعة, فيفسد المستوى الأخلاقي بين أفرادها وتصبح ضررا على الأمة ومصدرا لانحلال الكيان العام وتفككه والمتمثل هنا بالوطن.
والانحلال يكون على اتجاهين مختلفين, ينطلقا بتزامن واحد ويحققا نتيجة واحدة:
1- انحلال رأسي :
أي انحلال وحدة الدولة وانقسامها إلى كيانات سياسية مستقل بعضها عن بعض ومتحاربة فيما بينها. وهذا الصراع هو الذي يؤدي بالدولة إلى نهايتها.
2- انحلال أفقي :
وهو انقسام سكانها إلى طبقات غير متجانسة ويسمى بالانحلال الداخلي وهو أخطر أنواع الانحلال التي تتعرض له الكيانات السياسية, وتبدأ بوادر هذا النوع من الانحلال عندما تبرز ظاهرة التمايز في المواطنة لأسباب مناطقية أو جغرافية أو طائفية أو مذهبية, مما يؤدي إلى إضعاف روح الانتماء للوطن, واللجوء إلى تشكيل كيانات أخرى تحتوي الجماعات المنسجمة فكريا وعقائديا تحت سقف مشترك واحد يمثل ترابطها, والشواهد على هذا الانحلال مازال بارزا أمامنا لدول عديدة في تاريخنا المعاصر القريب وكذلك ما حدث في تاريخنا الإسلامي البعيد, وعل وجه التحديد في القرن الرابع الهجري عندما حاول البويهيين من ناحية والفاطميين من ناحية أخرى توسيع الخلاف المذهبي الطائفي والاجتماعي داخل كيان الدولة.
كما نجد ذلك واقعا في تاريخنا العربي الإسلامي, فموقعة الجمل عام 36 للهجرة ومعركة صفين عام 37 للهجرة كانت بداية الانشقاق بين صفوة الصفوة , وعلى إثرها لم تتعافى أمتنا حتى اليوم.
كما حدث انشقاق أخر لدى الصفوة في ثورة العباسيين على الأمويين, وفي تاريخ العباسيين حدثت انشقاقات كبيرة منها الصراع على وراثة العرش أيام المهدي, ثم الصراع على السلطة أيام الهادي, حيث انتهى ذلك النزاع بمقتله. وهكذا استمر الخلاف على السلطة بين صفوف الصفوة حتى يومنا هذا, مما نتج عنه تمزيق الأمة وشق صفوفها والتدخل في شؤونها والتلاعب بمقدراتها وثرواتها وتقسيم ما تبقى من كيانات ضعيفة إلى دويلات هزيلة تبحث عن مقومات بقائها المنهار حتما.
لذلك يجب أن نعي تماما أن التمايز بين فئات أي مجتمع وحرمان البعض منهم من حق المواطنة المتكافئة والفرص المتساوية في جميع نواحي الحياة وأنشطتها المختلفة والمتعددة والمشاركة الفعالة في إدارة الحكم , إنما هي مقدمات لمآسي عظيمة ينتج عنها في نهاية المطاف تفكك الكيانات القوية المترابطة وزوال أسباب بقائها. كما أن التوغل في الفساد ونهب ثروات الأمة من قبل الصفوة الحاكمة أو أي قوة متنفذة إنما هو نذير لزيادة النقمة عليها وبداية انهيارها وفقدان سلطتها وانحلال مقومات بقائها وتماسكها وسقوطها المحتوم بين براثن أعدائها في الداخل والخارج.