"الروح العدنية في فكر عبدالله باذيب: رؤية تتجاوز الجغرافيا والنسب"
بقلم: م/فضل علي مندوق
في كلمات الفقيد عبدالله باذيب التي تجلت في رده على الشيخ البيحاني عام 1950، نجد عالماً من الحكمة يتجاوز حدوده الزمنية، وحواراً يعكس عمق الفكر وحساسية الكلمة. حين تساءل البيحاني عن ماهية "الروح العدنية"، جاء الرد لا ليحدد فقط، بل ليُعيد صياغة المفاهيم ببلاغة رفيعة ونظرة إنسانية عميقة. في تلك اللحظة، لم يكن باذيب يجيب عن سؤال، بل كان يرسم ملامح هوية ترتكز على ما هو أبقى وأعمق من الدم أو الجغرافيا، هوية تنبثق من الروح، من نبض المشاعر، ومن وجدان ينتمي إلى فكرة أوسع وأشمل من حدود الانتماء المادي.
حين قال باذيب: "إننا يا سيدي نحمل روحاً عدنياً، وإن لم نكن من نسل ذلك الصياد القديم"، فإنه لم يكن يتحدث عن مسألة نسب أو جدلية أصول، بل عن روح تُولد في فضاء مشترك يحمل تاريخاً وثقافة وقِيماً توحد الأرواح مهما تباعدت الأنساب. إنه بذلك يُعلّمنا أن الهوية الحقيقية ليست امتيازاً بيولوجياً أو إرثاً حصرياً، بل حالة وجدانية نعيشها ونبنيها معاً. الروح العدنية التي تحدث عنها ليست ملكاً لجسد أو نسل، بل هي انعكاس لتاريخ مشترك، لحب للوطن ينبض في كل قلب عاش في عدن واستنشق عبقها، وعاش على أرضها، وشرب من قيمها.
وفي عبارته التي تحمل أبلغ الدلالات:
"هناك فرق كبير بين سلالة الروح وسلالة الجسد"، نرى باذيب يفكك الحواجز التقليدية التي تحكم الانتماء، ليقدم تصوراً تقدمياً يتجاوز التعريفات السطحية. فالروح بالنسبة له هي جوهر الهوية، هي منبت الحب، منبت التضحية، ومنبت الإحساس بالانتماء الذي لا تقيده حدود مادية. إنه يعيد توجيه البوصلة من الجسد إلى الروح، من النسب إلى القيم، ومن الحتمية البيولوجية إلى الحرية الإنسانية.
أما حين يصل إلى ذروة بيانه قائلاً: "حب الأوطان وعبادتها تنبت من الأرواح وليس من أعضاء الجسم"، فإنه يعبر عن مفهوم أعمق للوطنية، وطنية لا تُقاس بمدى قرب الدم، بل بمدى قرب القلب والروح. هذه العبارة وحدها تعيد تعريف معنى الوطن، وتجعل من عدن نموذجاً عالمياً للوحدة القائمة على الحب والانتماء الروحي، لا على حسابات المصالح أو الاصطفافات الوراثية.
من هذا النص، تتجلى رؤية دبلوماسية متفردة في زمن كان فيه الصراع على الهوية يحتدم. باذيب يقدم أطروحة تُبرز أهمية بناء مجتمع قائم على المشاعر المشتركة، على وحدة تنبع من التعايش الذي يصهر الجميع في هوية جامعة، لا هوية تُقصي أو تُصنّف. إنه بهذا يضع لبنة في بناء مشروع فكري متجاوز للانقسامات، يدعو إلى أن تكون الأوطان مرآة لأرواح سكانها لا مرآة لأصولهم فقط.
هذه الكلمات ليست مجرد إجابة لسؤال عابر، بل إعلان عن فلسفة تستشرف المستقبل، دعوة للتأمل في ماهية الانتماء، وتأكيد أن المجتمعات الكبرى تُبنى بالحب والروح، لا بالسلالة والجسد. النص، بكل ما يحمله من بلاغة وإبداع، يتجاوز الحروف ليصبح بياناً إنسانياً يذكّرنا بأن أعظم الأوطان هي تلك التي تنتمي إليها الأرواح قبل الأجساد، وتجمعها القيم قبل الدماء.