في تاريخ الأمم والشعوب هناك لحظات فارقة تحدد مصيرها، إما أن تنهض متجاوزة عثراتها، أو أن تظل تدور في حلقات مفرغة من الفشل والتبعية والاضطراب. واليوم، ونحن نعيد قراءة المشهد الجنوبي في اليمن، نجد أنفسنا أمام معضلة تاريخية متجذرة، تتكرر عبر العقود دون حلول جذرية.
لمدة 129 عامًا، كانت بريطانيا تحكم الجنوب بسياسات استعمارية صارمة، ورغم ذلك، شهدت عدن نهضة عمرانية وتجارية جعلتها من أبرز مدن المنطقة، لكن حينما جاء الاستقلال عام 1967، لم يكن الجنوب مسلحًا بمشروع وطني متماسك، بل غرق سريعًا في صراعات أيديولوجية أفضت إلى أزمات سياسية واقتصادية متلاحقة.
حينما تعلّق الجنوب بالاتحاد السوفيتي، بدا وكأن هناك فرصة لبناء دولة مستقلة وقوية، لكن سرعان ما تحولت هذه الأحلام إلى أوهام، إذ لم ينتج عن التجربة الاشتراكية سوى دولة منهكة اقتصاديًا، غارقة في الصراعات الداخلية، حتى انهار الاتحاد السوفيتي، فسقط الجنوب معه في دوامة اللايقين السياسي، ما أدى في النهاية إلى الوحدة اليمنية عام 1990.
لم تكن الوحدة خيارًا قائمًا على أسس عادلة ومتينة، بل جاءت كضرورة فرضتها الظروف، ومع ذلك، لم يستطع الجنوبيون تحويل هذه الوحدة إلى فرصة لبناء نموذج إداري ناجح في مناطقهم. وبعد حرب 1994، أصبح الجنوب ساحة للتهميش والاضطهاد، ما زاد من النقمة الشعبية، لكن رغم ذلك، لم ينجح الجنوبيون في خلق مشروع سياسي موحد يعبر عن تطلعاتهم.
مع اندلاع الحرب في 2015، أتيحت للجنوبيين فرصة ذهبية لإعادة ترتيب صفوفهم، خاصة بعد السيطرة على عدن ومناطق واسعة من الجنوب؛ لكن، بدلاً من تقديم أنموذج ناجح للحكم، عادت الخلافات والصراعات الداخلية لتطفو على السطح، مما أدى إلى إهدار الفرص وتعطيل التنمية، لتظل عدن، رغم امتلاكها لمقومات النجاح، مدينة تعاني من الفوضى الإدارية والانهيار الاقتصادي.
بعد كل هذه التجارب، يظل السؤال الأهم: هل المشكلة تكمن في أن الجنوبيين ليسوا رجال دولة، كما يردد البعض، أم أن هناك ظروفًا موضوعية تحول دون بناء كيان سياسي مستقر؟ الحقيقة أن غياب الرؤية الموحدة، والنزعات المناطقية، والصراعات الداخلية، كلها عوامل ساهمت في تكريس الفشل السياسي والإداري، ما جعل الجنوب يبدو وكأنه غير قادر على إدارة شؤونه بنفسه.
رغم كل الإخفاقات، لا يمكن الجزم بأن الجنوب محكوم عليه بالفشل الأبدي، فالتاريخ مليء بالأمم التي مرت بمراحل من التخبط قبل أن تنهض من جديد؛ لكن هذه النهضة لن تتحقق إلا إذا أدرك الجنوبيون أن بناء الدولة يحتاج إلى مشروع وطني جامع، يتجاوز الحسابات الضيقة، ويؤسس لنظام حكم رشيد قادر على تحويل الجنوب إلى نموذج حقيقي للاستقرار والتنمية.
حتى ذلك الحين، سيظل السؤال مفتوحًا: هل سيتجاوز الجنوب عقدة الفشل، أم أنه سيظل عالقًا في دوامة التبعية والصراعات التي جعلت منه ساحة للخراب بدلًا من أن يكون نموذجًا للدولة الناجحة؟