تقرير: أحمد عمر باحمادي:
ما إن تُذكَر غيل باوزير حتى تستدعي ذاكرةُ السامع وعقله تلك المنطقة الرائعة الجميلة، الخصبة التربة واللينة الأرض، المترعة بالخضرة والجمال، والملأى بينابيع المياه الجارية التي تعدًّ ـ أيضاً ـ مخزوناً كبيراً للمياه الجوفية.
هذه الناحية من أرض الوطن الحضرمي الواسع البديع كانت في يوم ما وفي زمن ما غنية بكل شيء، وبكل أنواع المحاصيل الزراعية، إلا أن عاديات الزمن ومصائبه جثمت على صدرها المثقل فغيّرتها وبدّلت معالمها الوضيئة فلم تعدْ ملامحها كما كانت من قبل.
من تلك المحاصيل الزراعية التي أصابها الوهن في غيل باوزير، زراعة نبات "الحناء" حيث خفّ انتعاشها وخفت شعلتها وخمدت أنوار مجدها بعد أن كانت قد بلغت شهرتها الآفاق ..
دعونا في هذا التقرير نأخذ القارئ الكريم في رحلة ماتعة وإن اكتنفها شيء من الألم والحسرة إلا أن حسبنا منها أن نتلمس مكامن الخلل ونعالج القصور ونستبين مواضع المرض حتى تعود لهذه الزراعة الحيوية سابق مجدها التليد وعصرها الذهبي اللامع.
غيل باوزير .. تعريف بملامح الموقع والمساحة
تقع مديرية غيل باوزير في محافظة حضرموت حيث تبلغ مساحتها الكلية ( 2,410 ) كيلو متر مربعاً ما يعادل ( 1,498 ) ميلاً تقريباً.
تتميز جغرافية غيل باوزير بخصوبة الأرض وجودة التربة، ويعود ذلك ولو على نحو جزئي إلى توافر عديد الآبار وينابيع المياه الجارية فيها وتمتع الأرض بالخصائص الطبيعية المناسبة لنمو مختلف المزروعات والمحاصيل، وقد تطابقت تلك الصفات مع تسميتها اللغوية، فـالغيل لغةً الماء الجاري على وجه الأرض، ولعل هذا ما جعل هذه الأرض زراعية بالدرجة الأولى حيث ازدهرت فيها كل أصناف النباتات والمحاصيل الزراعية.
> الحناء الغيلية
ماركة مسجلة، وعلامة للجودة العالية والرقي، هذا ما كانت ولا زالت عليه نبتة الحناء التي تُزرع بكميات كبيرة في غيل باوزير وازدهرت فيها على مدى أجيال كثيرة، وارتبطت بالموروثات الشعبية التي تشتهر بها المديرية حتى نُسبت إليها وأخذت لها من اسمها نصيب فأُطلق عليها مسمى الحناء الغيلي أو الحناء الغيلية.
وقد اشتهرت الحناء في محافظة حضرموت بشكل عام وفي غيل باوزير على جهة الخصوص وذاع صيتها في كل مكان ولقيت رواجاً كبيراً في بعض دول العالم، خاصة في دول الخليج ومصر وليبيا والجزائر التي يُصدّر إليها هذا المنتج بشكل مستمر نتيجة للطلب المتنامي لها، إضافة إلى الدول الأوروبية التي أبدت مؤخراً إعجابها بهذا المنتج الجيّد ورغبتها في استيراده من اليمن عموماً.
> الحناء .. سرٌّ للجمال وارتباط بالموروث
الحناء شجرة معمرة ودائمة الخضرة وقد ارتبطت منذ الأزل بثقافتنا العريقة، ومثلت جزءاً هاماً من موروثنا الشعبي التقليدي، فما أن تعزف ألحان الفرح وتُقرع طبول السعادة إلا ويكون لها حضورها في الأفراح والزواجات وتشارك الحضارم أفراحهم ومناسباتهم السعيدة من خلال التخضيب للنساء بلونها الأحمر الزاهي في مجال الزينة والجماليات، كما أن لها كثيراً من الاستعمالات العلاجية والصناعية ومستحضرات التجميل، وغيرها من الاستخدامات التي يطول المقام بذكرها على نحو مفصّل.
> المزارع الغيلي .. عناية وحَدْب
مع إشراقة شمس كل صباح يعمل المزارع في غيل باوزير في أرضه الزراعية الخصبة بكل همة ونشاط وفي أرضه المتواضعة كان لزاماً عليه ولا بدّ أن يخصص جزءاً كبيراً منها لزراعة الحناء.
من أولئك المزارعين من كان في مقتبل سن الشباب وأصبح مستمراً في هذا العمل منذ أكثر من ثلاثة عقود آخذين هذه المهنة عن آبائهم ليواصلوا من بعدهم المشوار لتشكل لهم نبتة الحناء مصدر عيش في ظروف وأوضاع معيشية صعبة يعاني فيها المزارعون أسوة بكافة فئات المجتمع اليمني.
وخلال ساعات من العمل المضني حاملاً فيها المزارع ( مسحاته ومنجله وشريمه) وهي أدوات هامة لا غنى لمزارع الحناء عنها في أداء عمله يقوم المزارع بكل حب ووئام برعاية الحناء زمناً طويلاً يمتد إلى ثلاثة أشهر، فبدءاً من الغرس والنمو والتعهد بالسقاية وحتى الجَني والحصاد يبذل المزارع خلال تلك المراحل جهداً كبيراً ليتوج جبينه الموشّى بقطرات من عرقه الطاهر ليجني في نهاية المطاف ثمرة جهده الممتدة لأشهر طوال.
> الحناء .. مصدر عيش
وفرت زراعة نبتة الحناء وما يتبعها من صناعات مواكبة الكثير من فرص العمل ومصدر عيش للكثير من المواطنين، فالرزاعة والإنتاج والتصدير وعمليات الطحن والتغليف والتنظيف والبيع عملت على زيادة الأيدي العاملة في هذا المجال.
كما ساهمت في تنمية عدد من المنشآت الصغيرة والمشاريع الأصغر المرتبطة بهذا المنتج الهام ما ينبني عليه زيادة في الأيدي العاملة وخلق أكبر عدد من فرص العمل بشكل مستدام ومضاعفة الربحية وزيادة القدرة التنافسية وتحقيق الأمن المعيشي وتحسين موارد العيش لدى الكثير من الناس.
> الحناء .. مصاعب على الطريق.
بالرغم من أهمية قطاع زراعة الحناء وإنتاجها في غيل باوزير إلا أن ثمة الكثير من المصاعب والعراقيل التي تعترض سبيل الكثير من المزارعين منها قلة توفر شتلات النبات وضعف الجمعيات الزراعية وقلة تفاعلها مع متطلبات المزارعين، إضافة إلى عدد من الإشكالات التي يعانيها المزارعون والمنتجون على حدٍّ سواء سنطرح بعضها على سبيل المثال فقط وإلا فإن الإشكاليات كثير وتتطلب جهوداً جبارة للتغاب عليها.
> السلطات المحلية الحاضر الغائب.
لم يكنْ للسلطات المحلية في غيل باوزير ذلك الدور الملموس والكبير في المساهمة في حلحلة الإشكاليات التي يعاني منها مزارعو الحناء بالمديرية، فالأدوار الهامة والفاعلة والنوعية من قبلها لم تكن على الوجه المأمول في مساعيها لتعافي قطاع الحناء، مما جعل الحال يراوح مكانه ولم يكنْ ثمة من خطوات ملموسة من قبلها فيما سوى بعض الرتوش واللمسات الخفيفة كتنفيذ بعض ورش العمل، وقد يعود ذلك إلى وضع الذي تمر به البلاد عموماً نتيجة للصراع القائم منذ ثمانية أعوام.
> شحّة المياه.
نظراً لزيادة أعداد السكان واطراد موجات النزوح الداخلية إلى المحافظة عامة والمكلا عاصمة المحافظة خاصة جرى استنزاف الكثير من موارد المائية في غيل باوزير لتغذية مدين المكلا، أدى ذلك إلى تأثر المخزون المائي وشحة المياه ونتيجة لذلك تدهورت زراعة أشجار الحناء التي كانت فيما مضى تزرع بوفرة كبيرة.
> غلاء الأسمدة.
برز غلاء الأسمدة كتحدي يواجه مزارعي الحناء في غيل باوزير، حيث يستهلك شراء تلك الأسمدة مداخيلهم ويجعل الجدوى الاقتصادية من زراعة الحناء ذات تأثير ضعيف، وقد فاقمت صعوبة الأوضاع وتردّي الأحوال والظروف المعيشية من هذه الإشكالية العويصة.
> قنوات الري ووقود المضخات.
قنوات الري الترابية التقليدية (المعايين) تعمل على امتصاص الماء بنسبة 60 % ، حيث يذهب كل ذلك كفاقد من المياه ويُمتص تحت التربة في باطن الأرض، ونتيجة أيضاً لبطء سريان الماء في تلك القنوات جعل الأمر يستغرق ساعات طويلة لوصوله إلى أشجار الحناء في عملية السقاية، مما ضاعف العبء على مضخات المياه لتعمل ساعات إضافية لتعويض الفاقد، مما يلقي بظله في زيادة تكلفة الوقود المشغّل للمضخات، وذهاب الكثير من الإيرادات كإنفاق على الوقود المستهلك لتوفيره كأولوية قصوى كل ذلك ساهم في وجود تحديات عصيّة تواجه زراعة الحناء في غيل باوزير.
> المنظمات الدولية .. يد ممدودة.
ساهمت تدخلات الاتحاد الأوروبي وبعض المنظمات الدولية كمشروع (سيري) الذي جرى تنفيذه بالشراكة مع السلطة المحلية والمجتمع المحلي والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني الفاعلة ووكالة تنمية المنشآت الصغيرة والأصغر في حل بعض الإشكاليات التي اعترضت قطاع زراعة الحناء في غيل باوزير.
فقد ساهم المشروع في إعادة تأهيل قنوات الري الزراعية التقليدية القديمة ( المعايين ) وتبطينها بالحجارة والإسمنت من الداخل لعدّة مناطق في غيل باوزير بلغ عددها 14 قناة ري في ثلاثة معايين هي (الحرث ـ لشول ـ النقعة ) كونها تعتبر الشريان الرئيس والهام الذي تعتمد عليه زراعة الحناء مما عمل توفير نسبة الفاقد من الماء.
كما عملت على توفير المواد الزراعية عالية الجودة كالمجففات التي تحافظ على على أوراق الحناء من أشعة الشمس والغبار والشوائب، والأسمدة والمخضبات لعدد100 مزارع من مزارعي الحناء.
إضافة إلى حصول عدد من النساء على تدريب مهني وإداري ومالي في العمل على تطوير منتجات إبداعية وتحويلية تعتمد في مكوناتها الأساسية على مادة الحناء، ولكي يحصلن على منح صغيرة تمكنهنّ من البدء في مشاريعهن المنزلية بالعمل في منتجات مشتقة من الحناء تخص مستحضرات التجميل والعناية بالبشرة.
> دور الدولة .. أهمية وضرورة.
بالرغم من التدخلات الملموسة والفاعلة والمتعددة للمنظمات الدولية بشكل عام إلا أن دور الرسمي من جانب الدولة يظل ضعيفاً ولا يرقى إلى المستوى المراد والمرجو والمأمول، ولا شكّ أنها المنوطة أولاً بالاهتمام بهذا القطاع الهام مستفيدة من التجارب والدراسات الموجودة، وضرروة أن يكون لها الأثر المباشر في التدخل لتحسين القطاعات العديدة ذات العلاقة بمادة الحناء حتى تستعيد عصرها الذهبي ومجدها الضارب في أطناب الأرض كشجرة ارتبطت ارتباطاً جذرياً بالثقافة الحضرمية واليمنية.