قراءة في أسباب تشكيل وتعدد المجالس السياسية في المحافظات الجنوبية ومستقبل ازدهارها واستمرارها..
هل تمثل هذه المجالس عاملا مساعدا لنيل محافظات الجنوب حقوقها السياسية والاقتصادية أم أن تشكيلها يهدف إلى ضرب الانتقالي؟
ما فرص نجاح كل هذه المجالس السياسية في الجنوب.. وهل يمكن أن تقدم جديدًا؟
ما قدرة الانتقالي على الصمود ومقاومة هذه الكيانات السياسية.. وكيف سيتعامل معها؟
هل تستطيع المجالس الوليدة منافسة المجلس الانتقالي أم أنها حركات بسيطة وعشوائية بلا أثر؟
التعدد السياسي الراهن.. هل هو أمر صحي أم يمثل بداية لصراع دموي مرير؟
(عدن الغد) القسم السياسي:
لم تعرف دولة عربية تنوعًا ثقافيًا ومذهبيًا وفكريًا كالذي عرفته اليمن منذ مئات السنين، بل منذ أكثر من ألف عام، دون أدنى مبالغة، وتعايش الناس في هذا الركن الجنوبي الغربي من الجزيرة العربية بثقافاتهم وعاداتهم ومذاهبهم الدينية المختلفة دون أن يفرض أحد فكرته أو ثقافته أو مذهبه على الآخر.
حتى حروب أئمة اليمن الأعلى الذين ما برحوا يغزون اليمن الأسفل والساحل التهامي كلما رأت تمكنًا في قواتها، أو عانت من قحط وجدب في أراضيها الزراعية، لم تكن تلك الحروب أن تجبر مناطق اليمن الأسفل على اعتناق مذاهبهم، ولكنها كانت حروبًا من أجل الغنيمة والثروات، وحصائد الزروع، أو لدواعٍ سياسية بحتة.
بل إن محاولات بعض الأئمة المتعصبين في فرض مذهبهم على مناطق اليمن الأخرى، فشلت ولم ينجحوا أبدًا، وبقيت مدن ومناطق كتعز وتهامة حتى في البيضاء وشبوة متمسكة بمذاهبها الدينية رغم وصول الأئمة إليها في غزواتهم خلال الألف العام الماضية، ورغم تسلح أولئك المتعصبين بدعوات الحكم باسم الله، تمامًا كما يفعل الحوثيون اليوم.
لم يكن هذا الواقع مقتصرًا على علاقة اليمن الأعلى بالأسفل، أو كما يطلق عليه عاميو اليوم "مطلع ومنزل"، ولكن الأمر حمل نفس التعدد والتنوع الثقافي والمذهبي والفكري حتى في محافظات جنوب اليمن وشرقه، حتى إن هذا الوضع ارتقى إلى المستوى السياسي، والذي شهد بموجبه الجنوب سلطنات ومشيخات وإمارات متعددة استمرت إلى عهد قريب، وامتد هذا الواقع السياسي المتعدد إلى أواخر ستينيات القرن الماضي، أي قبل نحو خمسة عقود ونصف تقريبًا.
وليس في هذه القضية ما يخيف، بل إنه يعزز التعايش القائم على التنوع والتعدد، والذي عاشت تحت كنفه اليمن قرابة ألف عام، قبل أن تظهر الدولة العصرية الحديثة بمفهومها المركزي الذي ألغى هذا الاختلاف الصحي، سواءً في زمن التشطير أو خلال عهد الوحدة، عبر أنظمة سياسية لم تدرك اعتزاز اليمنيين مهما اختلفت مناطقهم بثقافاتهم، ونزعتهم للاحتفاظ بهذه الخصوصية.
ولهذا فإن الكثير من المؤرخين يصفون عملية انضمام عدد من السلطنات الجنوبية التي تشكل منها ما كان يُعرف بـ "اتحاد الجنوب العربي"، أو حتى تلك التي لم تنضم، بأنها عملية "إلحاق قسري" قامت بها الجبهة القومية عشية الاستقلال من بريطانيا، ولم تراعي فيها الخصوصية التي كانت تتمتع بها كل منطقة أو سلطنة، مع لفت النظر إلى أن هذه الخصوصية ما هي إلا تنوع صحي ومطلوب في إطار الجامع الكبير للوطن الواحد.
وهو ما دفع البعض للحكم على عملية الإلحاق القسري هذه بأنها خاطئة، وفشلت في دمج أو صهر الثقافات في ثقافة واحدة بشكل قسري، وكان عليها أن تتقبل التنوع والتعدد في إطار شامل وجامع، غير أن الأيديولوجية والفكر السياسي المتبع لم يكن ليعير هذا التنوع أي اهتمام، بل على العكس تمامًا، قاومه بقوة وعنف، وكان من حصيلة هذا الأسلوب العنيف أن عادت تلك الدعوات المناطقية اليوم.
تلك الدعوات لم تكن في حقيقة الأمر وليدة حرب عام 2015، ولكنها بدأت بالبروز والظهور خلال أزمة عام 2011، حيث خرجت إلى السطح نزعات السلطنات والمناطقية والقروية بمجرد اهتزاز كيان الدولة منذاك الحين، غير أنها تحولت في الوقت الراهن إلى حقيقة سياسية، تدعمها دول وتمولها، في إطار نطاق جغرافي أوسع مما كانت عليه عشية الاستقلال الوطني من بريطانيا.
> دعوات سياسية أم مناطقية؟
بعد الإعلان عن تشكيل مجلس حضرموت الوطني، قبل حوالي شهر، بدأت التحركات في العاصمة المؤقتة عدن لتأسيس مجلس مشابه خاص بأبناء عدن، الذي ما فتئوا ينادون بتبني قضية مدينتهم التي أهملت لعقود طويلة، وتحديدًا من الاستقلال في نوفمبر/ كانون ثاني 1967، وتم تحرير أبنائها من مناصبهم ومواقعهم التي شغلها فترة تواجده الإنجليز في المدينة التي تحولت حينها إلى مركز تجاري وثقافي وتنويري بفضل أبنائها الأصليين.
ونفس هذا التحرك تكرر في محافظتي شبوة وأبين، من خلال مطالب بتأسيس أحلاف لقبائلها وأبنائها، وبالفعل كان أن تم التشكيل والإعلان عنها كما حدث في شبوة، ويجري حاليًا العمل على تشكيل كيان مماثل في أبين، في منوال متكرر يسير على خطى حضرموت وعدن، في ظل وضع سياسي لا تنقصه الفوضى أو التوتر.
واقع كهذا يثير العديد من التساؤلات حول طبيعة هذه المجالس والأحلاف القبلية التي بدأت تتكاثر وتتفرخ هنا وهناك، وقاعدتها وخلفياتها التاريخية والشعبية والمنطقية التي قامت بناءً عليها، خاصة في ظل وجود أصوات تصف هذه المجالس بأنها جاءت وفق نزعات مناطقية وقروية، تعيد التذكير بوضع المشيخات والسلطنات الغابرة، والتي بالفعل بدأت عائلات وأسر زعاماتها بالظهور الإعلامي مؤخرًا.
لكن آخرين يعتقدون أن هذه المجالس التي بدأت بالتكوّن لها غايات وأهداف سياسية واجتماعية وخدمية، وحتى اقتصادية، انطلاقًا من مطالب سياسية مشروعة ومتاحة لكافة المناطق والمحافظات اليمنية، وهي مطالب نابعة من خصوصية كل منطقة وتنوعها الذاتي المختلف اختلافًا صحيًا ومقبولًا عن محيطها، اختلاف يجذب ولا ينفر، اختلاف يمنح التنوع ولا يتيح الخروج عن الإطار لجامع.
وفي حالة الحفاظ على هذا المستوى من الرؤية السياسية لمثل هذه الكيانات والمجالس السياسية المشكلة في حضرموت وعدن وغيرها، يمكن أن تمتلك عندها فرص نجاح كبيرة جدًا، تعمل بناء على ذلك في توفير احتياجات ومتطلبات تلك المناطق والمحافظات، وهي بالفعل بحاجة إلى التركيز على مميزاتها وخصوصياتها المختلفة عن غيرها واستثمارها بما يعود بالخير على أبنائها.
كما أن التزام هذه المجالس السياسية الوليدة باستغلال واستثمار ما تتميز وتتفرد به عن مثيلاتها من المحافظات، يمكن عندها أن تقدم جديدًا مختلفًا عن كل التجارب السياسية السابقة التي لم تنجح في استقرار البلاد، بل إن بعض النماذج الناجحة هنا أو هناك قد تشكل حافزًا لبقية المناطق والمجالس أن تحذو حذو الناجحين، بما يضمن فرص نجاح حقيقية وواقعية، وتكون تلك المجالس عاملًا مساعدًا لنيل المحافظات المحرومة حقوقها السياسية والاقتصادي، والتوزيع العادل للسلطة والثروة.
> الانتقالي.. هل هو المستهدف؟
قد يكون بعض الحديث الذي يتم تداوله على الساحة السياسية اليوم يسير إلى أن المجالس السياسية الجديدة في حضرموت وعدن، والأحلاف الوليدة في شبوة وأبين؛ هدفها يقتصر على محاربة المجلس الانتقالي الجنوبي ومحاولة ضربه في معاقله، خاصةً مع التطورات الأخيرة في حضرموت وسعي الانتقالي إلى استقطاب حضرموت إلى صفه.
يأتي هذا في ظل تزايد حدة التوتر بين المجلس الانتقالي الجنوبي والمملكة العربية السعودية التي لا تخفي دعمها للمجالس السياسية المشكلة مؤخرًا، كمجلس حضرموت الوطني، ومجلس مماثل مرتقب في عدن، وهو ما يؤكد أيضًا مدى التصدع الحاصل في كيان المجلس الرئاسي اليمني، خاصة بين ممثلي الشرعية والانتقالي تحديدًا.
لكن كل تلك المؤشرات لا يمكن لأحد تأكيدها أو نفيها إلا المجلس الانتقالي الجنوبي نفسه، ورغم تصاعد حدة الخطاب الإعلامي الموالي الانتقالي ضد الرياض وسياساتها في الجنوب، إلا أن الموقف الرسمي للمجلس الانتقالي لم يتضح بشكل جلي حتى الآن، ومن المتوقع أن يستمر موقف المجلس الانتقالي -الرسمي- ضبابيًا من باب المواربة السياسية أو الدبلوماسية، ويكتفي بمنح ضوء أخضر خفيف لبعض إعلاميه وناشطيه لمهاجمة هذه المجالس.
غير أن الواقع يتطلب من المجلس الانتقالي ممارسة أكثر عمقًا لاستمرار عملية تشكيل المجالس والأحلاف السياسية في المحافظات الجنوبية، كما أن عليه أن يحدد طبيعة الموقف الذي سيتعامل وفقًا له مع هذه المجالس، خاصةً أن هذه المجالس ستعمل في مناطق الانتقالي ومعاقله الرئيسية، الأمر الذي يعني مواجهة حتمية بين المجلس الانتقالي والمجالس النظيرة له والتي ستكون ندًا له أيضًا.
وهنا، قد يفرض الواقع تقييمًا ورصدًا لعملية صمود ومدى مقاومة الانتقالي الكيانات الوليدة التي من الطبيعي أن يتحسس من تواجدها في مناطق حاضناته الشعبية، أو مناطق مشروعه السياسي في المحافظات الجنوبية، وليس أمامه عندها سوى طريقين، أحدهما قمع هذه المجالس والكيانات والتضييق عليها، أو التعامل معها بفطنة وخبرة سياسية بمنحها مجالًا للعمل وإثبات أنه أكبر منها، وأنه أكثر منها شعبية وقبولًا، ويؤكد بذلك أنه هو المفوض الشعبي الحقيقي بتبني مشروع الجنوبيين.
وفي حالة قيام الانتقالي بخطوة كهذه، وتقبله للكيانات الجديدة فإنه من المؤكد سيكتسب مزيدا من القوة، سيؤكد للرياض وللجنوبيين والمجالس الوليدة أنه ثابت ولم يتأثر بأي عملية تفريخ لقوى سياسية تحاول سحب البساط من تحته، لكن في حقيقة الأمر فإن الانتقالي سيكون أمام موقف لا يُحسد عليه أمام أنصاره وحتى معارضيه.
إلا أن قيام الانتقالي بعمل دبلوماسي وحضاري كهذا، من شأنه في نفس الوقت أن يضغط على بقية المكونات والمجالس الجديدة في حضرموت وعدن وبقية المحافظات، وسيفرض عليها الدخول في عملية منافسة مع المجلس الانتقالي، وعندها لن يبقى مستمرًا إلا الكيان القوي والثابت وصاحب الشعبية، أما الباقي فلن يكون متواجدًا على الأرض، وستبقى مجرد حركات بسيطة وعشوائية بلا أثر.
> تعدد سياسي أم أقاليم؟
قد يكون التعدد السياسي أمرا صحيا في الدول ذات الأنظمة السياسية الديمقراطية المتطورة، والتي تعمل لمصلحة الوطن والشعب وليس لمصلحة الحزب أو الكيان السياسي.
لكن في المشهد اليمني، والمحافظات الجنوبية على وجه التحديد، قد يكون هذا التعدد بداية لصراع مرير، لا يتمنى أحد أن يتحول إلى صراع دموي بين تلك المجالس، قد يتمور إلى صراع بين المحافظات التي تمثلها تلك المجالس.
غير أن مراقبين يعتقدون أن هذه المجالس الوليدة في المحافظات الجنوبية ما هي إلا تجسيد لفكرة الأقاليم والدولة الاتحادية التي أقرها مؤتمر الحوار الوطني عام 2014، والتي رفضتها قوى سياسية يمنية وأعلنت الحرب لمنع تطبيقها.
بينما يجري حاليًا العمل على تكريسها من قبل قوى إقليمية ومحلية، عن طريق المجالس السياسي والأحلاف القبلية في المحافظات، تعزيزًا للتنوع والتعدد الثقافي والفكري الذي تميزت به المناطق اليمنية تحت إطار الجامع الوطني الأشمل.